أبعاد دينية ومقاصدية للتقليل من حوادث المرور
06-10-2012, 12:43 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
د/أبو أمامة نوار بن الشلي
أستاذ الفقه وأصوله ـ جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بالجزائر
أضحت حوادث المرور خطرًا كبيرًا يحيق بالأنفس والممتلكات، وبات البحث عن الوسائل الكفيلة بالتقليل والتخفيف منها هاجسًا يشغل بال الكثيرين من الخبراء والمسئولين عن قطاع السير، وإذ غدت المشكلة عويصة بالنظر للأرقام والإحصاءات الكبيرة؛ فإنه لابد من تضافر الجهود والتعاون على تقديم الحلول، وفي هذه المقالة رؤية فقهية مقاصدية على طريق تقديم الحلول للنوازل المعيشية، والله نسأل الإخلاص والسداد.
ضرورة استحضار البعد الديني في حركة السير
إن استحضار البعد الديني في حركة السير أمر لابد منه ـ وإن غفل عنه الكثير من الناس ـ إذ أن تعاليم الدين ليست تختص بمجال المسجد وحدوده، كما أنها لا تنحصر في نطاق الأحوال الشخصية، بل تمتد لتشمل أنشطة الإنسان المختلفة ومنها حركته في سيره، فقد أرشدنا القرآن الكريم ـ على سبيل المثال ـ إلى الاعتدال في السير، وذلك في قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان:18]، فقد انتظمت الآية الأمر بالقصد في المشي، والقصد فيه يكون بأن يمشي المرء مشيًا ليس بالبطيء المتثبط ولا بالسريع المفرط، بل عدلًا وسطًا بين بين.
وربما ظن البعض أن الآية خاصة بحالة المشي لا الركوب؛ فنقول: إن المقصود بالمشي هنا هو ما يفسره قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان:36]؛ فقد حمل بعض المفسرين هنا ـ ومنهم القرطبي ـ المشي على معنى السير في الحياة كلها، وليس مختصًّا بصفة المشي؛ إذ رُب ماشٍ برفق واقتصاد وتواضع، هونًا رويدًا، ولكنه ذئب أطلس؛ لذلك كان المعنى: عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك الأمر العظيم، لاسيما وفي ذلك الانتقال في الأرض وهو معاشرة الناس وخلطتهم، ثم إن المشي إذا قيس بالنظر للركوب في عصرنا تبين أنه قليل، وأن أغلب الناس إنما يتنقلون في الأرض راكبين، ولا يعقل والحالة هذه أن يقال للإنسان اعتدل في مشيك واقصد فيه، فإذا ركب انطلق مسرفًا من غير قيد ولا ضبط.ومن هنا يدرك المسلم أنه مطالب بالاعتدال في سيره في غالب أمره؛ إلا ما اقتضته الضرورة ورجحت فيه مصلحة الإسراع؛ لإدراك حياة مصاب مثلًا، أو إنقاذ مستغيث، ونحو ذلك من الحالات.ومن قبيل استحضار البعد الديني ما أرشد إليه القرآن والسنة من الأدعية التي يرددها المسلم بين يدي مضيه في سبيله، باستشعاره نعمة ربه إذ منَّ عليه بالمركب ولو شاء لمنعه؛ كأن يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13].
إن المسلم الذي يذكر نعمة ربه عليه إذ منَّ عليه بالمركب، لا ينطلق في الحياة مفسدًا ولا معرضًا حياة الناس وممتلكاتهم للخطر؛ لأن ذلك ليس من شكر النعمة في شيء، بل هو كفران لها، واستهتار بقيمتها (فإن المباحات إنما وضعها الشارع للانتفاع بها على وفق المصالح على الإطلاق، بحيث لا تقدح في دنيا ولا دين، وهو الاقتصاد فيها، ومن هذه الجهة جعلت نعمًا،وعدت مننًا، وسميت خيرًا وفضلًا، فإذا خرج المكلف بها عن ذلك الحد بأن تكون ضررًا عليه في الدنيا أو في الدين؛ كانت من هذه الجهة مذمومة؛ لأنها صدت عن مراعاة وجوه الحقوق السابقة واللاحقة والمقارنة، أو عن بعضها،؛ فدخلت المفاسد بدلًا عن المصالح في الدنيا وفي الدين) [الموافقات، الشاطبي، (3/217)].
ومن استحضار البعد الديني في حركة السير ألا يقصد المسلم إلى ظلم الآخرين ولا إلى الإضرار بهم ما أمكنه إلى ذلك سبيل؛ لأنه يعلم حرمة الظلم وحرمة الإضرار القطعية في الشريعة، ولا يسوغ بحال أن يجيز المسلم لنفسه ارتكاب ذلك حالة الركوب بطرًا وفرحًا بما آتاه الله، وقد أومأ القرآن إلى مثل هذه الحال حين قص علينا خروج قارون على قومه في زينته وإعجابه بأمواله ومنها مراكبه؛ فكان عاقبته الخسف كما هو معلوم.
وقد يتباهى كثير من الشباب وأصحاب المركبات الفارهة بما أوتوا، ناسين أنهم لم يؤتوه على علم عندهم؛ فيعرضون حياتهم في تباهيهم هذا وحياة غيرهم للخطر والتلف، وهو أمر لا يرضاه الدين ولا تقره الشريعة.وكف الأذى أيضًا جعله الشارع الحكيم من حقوق الطريق، ويؤيد تحريم الضرر والإضرار بالناس أثناء السير ما أرشد إليه حديث النهي عن الجلوس على الطرقات، فعن أبي سعيد الخدري t عن النبي r قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات))، فقالوا: ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، فقال: ((فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه))، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) [متفق عليه: البخاري، (6229)، ومسلم، (5685)]، فقد جعل الحديث من حقوق الطريق كف الأذى، وهذا في حق الجالس؛ فمن باب أولى مستعمِله؛ إذ يتوجب عليه مزيد من الحذر؛ لأنه أكثر تعرضًا للأذى والإذاية بسبب الخلطة والاشتراك في استعمال الطريق، قال ابن أبي جمرة رحمه الله: (وفيه ـ أي الحديث ـ دليل على أن من كثر منه أو فيه شيء نسب إليه وجعل منه، يؤخذ ذلك من قوله: ((أعطوا الطريق حقها))،وتلك الأربعة التي هي غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بمعروف ونهي عن منكر الكل واجبة؛ فلولا أنها أكثر ما يقع في الطرق ما جعلها من حق الطريق).
من منكرات الشوارع
وتحدث أبو حامد الغزالي رحمه الله عن منكرات الشوارع التي كانت على عهده، وبالمقارنة بين الحالين تعلم أن ما حدث في عصرنا من مخالفة لوائح المرور، وما نتج عنه من إزهاق للأرواح وإتلاف للأموال، من أشد المنكرات التي ينبغي الاحتساب بها على السائقين ومستعملي الطرقات؛ إذ أن الأمثلة التي ذكرها لا ترقى إلى مستوى الإخلال بالضروري؛ قال رحمه الله: (فمن المنكرات المعتادة فيها: وضع الأسطوانات وبناء الدكات متصلة بالأبنية المملوكة وغرس الأشجار وإخراج الرواشن والأجنحة... فكل ذلك منكر إن كان يؤدي إلى تضييق الطرق واستضرار المارة، وإن لم يؤد إلى ضرر أصلًا لسعة الطريق فلا يمنع منه ... وكذلك ربط الدواب على الطريق بحيث يضيق الطريق وينجس المجتازين ـ منكر يجب المنع منه إلا بقدر حاجة النزول والركوب؛ وهذا لأن الشوارع مشتركة المنفعة وليس لأحد أن يختص بها إلا بقدر الحاجة، والمرعِيُّ هو الحاجة التي ترد الشوارع لأجلها في العادة دون سائر الحاجات، ومنها سوق الدواب وعليها الشوك بحيث يمزق الثياب؛ فذلك منكر إن أمكن شدها وضمها بحيث لا تمزق، أو أمكن العدول بها إلى موضع واسع ... وإلا فلا منع؛ إذ حاجة أهل البلد تمس إلى ذلك، نعم لا تترك ملقاة على الشوارع إلا بقدر مدة النقل ...) [إحياء علوم الدين، الغزالي، (2/339)].وتأمل في قوله بالمنع من سوق الدواب وعليها شوك يمزق الثياب، فهل يرتاب أحد في المنع من سوق"دواب العصر"وهي تمزق الثياب وما تحتها من أجساد؟!
رقابة الدين قبل رقابة أعوان الأمن والدَّرَك
ومن البعد الديني في حركة السير أن يستشعر السائق رقابة الله له في التزامه باللوائح والتعليمات التي تفصلها إشارات المرور؛ إذ أن ما يأتيه من أفعال ـ خصوصًا ما تعلق منها بحق الغير ـ هي من ضمن ما يسأل عنه، وقد (قدم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم يستقرىء النبي القرآن، فقرأ عليه قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8]؛ فقال صعصعة: حسبي فقد انتهت الموعظة، لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها) [تفسير القرطبي، (20/153)]، وهذا لنباهته وسرعة فهمه من أنها تستوعب كل نشاط الإنسان. وقد أورد البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحُمُر فقال: ((ما أنزل عليَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّايَرَهُ})) [البخاري، (2860)]، قال ابن حجر مفسرًا ذلك: (سماها جامعة لشمولها لجميع الأنواع من طاعة ومعصية، وسماها فاذة لانفرادها في معناها) [فتح الباري، (8/487)]، وهنا يحسن التمثيل بتعدي أصحاب المركبات الكبيرة على ما كان أصغر بإلجائها إلى الخروج عن جادة الطريق، أو التضييق عليها أثناء التجاوز في الأماكن الممنوعة التي لا رقيب فيها إلا الله، وكثيرًا ما ترى أو تسمع عن أناسٍ لا يلتزمون باحترام الإشارات الواجبة أو المانعة أو لا يضعون حزام الأمان؛ فإذا رأوا حاجزًا للشرطة أو الدرك؛ بادروا إلى التنفيذ والالتزام خوف العقوبة الدنيوية، ولو علم هؤلاء أن التزام هذه القواعد واحترامها هو من جملة ما يدينون الله به؛ ما فعلوه ولا أقدموا على مخالفته.
وأسوأ من ذلك اعتداء أصحاب المقامات العلية على أعوان المرور، وعدم التزامهم تعليماتهم اعتمادًا على الجاه والسلطان، ولو أنهم علموا حقيقتهم، وأن العزة لله جميعًا؛ ما فعلوه ولا أقدموا عليه.
إن الله يحب الرفق في الأمر كله
ومن الأبعاد الدينية أيضًا؛ الرفق والسماحة، فحركة السير في عالمنا المعاصر لم تعد كما كانت عليه قديمًا، من حيث كثرة المركبات وتنوعها مع تشابك المصالح واختلاطها، وقد يفضي تجمعها في أمكنة متحدة المسلك إلى الزحام والاحتكاك، وهو ما يتطلب الرفق وحسن المعاملة؛ فالسماحة المحمودة في اعتدال من أخلاق المسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) [متفق عليه، البخاري، (6927)، ومسلم، (6766)]، وقوله أيضًا: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) [مسلم، (6767)]، وليس ما نراه في طرقاتنا عند اشتداد الزحام؛ من التهارج والسب والمبالغة في استيفاء الحق بما يعطل حقوق الآخرين من الرفق في شيء. إن استحضار هذه التوجيهات الدينية، مع الحال التي تفصح عنها أرقام الحوادث الكثيرة اليوم؛ يقتضيان ضم جهود القائمين على القطاع الديني ـ من الأئمة والخطباء والدعاة ـ إلى جهود غيرهم من أهل الاختصاص؛ إرشادًا وتوجيهًا وبيانًا لأحكام الشريعة وغاياتها في هذا المضمار، وفيما يأتي مزيد إيضاح وبيان لذلك.
البعد المقاصدي في حركة السير
قبل بيان مقاصد الشرع وغاياته في مجال السير والمرور، نجيب عن تساؤل طالما تردد بين الناس وهو: ما حكم الدين ورأيه في الالتزام بقانون المرور؟ فنقول: أصل المصالح شاهد باعتبار قانون المرور، فإن هذه الشريعة السمحة لما كانت خاتمة الشرائع ومهيمنة على ما قبلها؛ فقد اقتضى ذلك أن تشتمل على قواعد وأصول تخولها الاستجابة لمستجدات الزمان؛ إذ النص على حكم كل حادثة بعينها مع اختلاف الظروف والأحوال والأمكنة لا يستقيم وطبيعة التشريع أو التقنين في حد ذاته.
ومن الأصول الحاكمة في هذا الباب: أصل المصالح الذي قررته المدارس الفقهية كلها، واشتهر المالكية على وجه الخصوص بإعمالها والتوسع فيها، وإن أدنى نظر في قانون المرور والغاية المرجوة منه يجعلنا نقرر باطمئنان أنه من مشمولات المصالح التي قال عنها ابن القيم رحمه الله: (الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه ...) [إعلام الموقعين، ابن القيم، (3/3)].وقد اشتهر على ألسنة العلماء قولهم: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.
أصل العرف حاكم بإلزامية قواعد السير
ومن الأصول المقررة والحاكمة في مجال تنظيم حركة السير أيضًا أصل العرف؛ إذ أن هذه التشريعات واللوائح المنظمة لسير المركبات على اختلاف أنواعها وأحجامها، قد تعارفها الناس واعتادوها، وبنوا عليها أمورهم في سيرهم وتنقلهم، وإنك لترى ذلك واضحًا في تصرفاتهم وإنكارهم على من تسول له نفسه مخالفتها، وقد قرر فقهاء الإسلام أن (العادة محكمة) [الأشباه والنظائر، ابن نجيم، (1/3)]، وقالوا: إن في نزع الناس عن عاداتهم حرجًا عظيمًا؛ لما لها من القوة والتغلغل في النفوس.وأنت إذا تأملت في هذه القوانين التي جرى العرف بها؛ لم تر ما يخالفها من النصوص الخاصة، ومن ثَم؛ أمكن القول بوجوب الاحتكام إليها؛ رعيًا للعرف وتحكيمًا لعادة الناس اليوم.ويستمد القول بإيجاب الالتزام بهذه القواعد رعيًا للعرف المتجدد مشروعيته مما تقرر عند الفقهاء أنه (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان) [شرح القواعد الفقهية، الشيخ أحمد الزرقا ص(227)]، فقد قالوا في موجب هذا التغيير إنه عائد إما لفساد الزمان بتغير الأخلاق، أو لتطور الزمان باستحداث تنظيمات وتراتيب إدارية جديدة، ولاشك أن حركة السير قد تغيرت عما كانت عليه في القديم بظهور الآلات والمركبات التي لا عهد للقدامى بها؛ فكان القول بإيجاب تنظيم المرور بما يحقق المصلحة ويدرء المفسدة مبنيًّا على تجدد العرف وتطور الزمان.وقد عبر القرافي رحمه الله عن وجوب مراعاة العرف المتجدد وبناء الحكام عليه بقوله: (فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك ... والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين) [أنوار البروق في أنواع الفروق، القرافي، (2/229)].
ونقل الونشريسي رحمه الله ( الإجماع على أن الفتاوى تختلف باختلاف العوائد، فيجب على المفتي أن ينظر في مقاصد الناس ومقتضى خطاباتهم؛ فيبني عليها الحكم ويرتب الجواب، وكل من ينظر إلى الروايات فيفتي فيما تختلف فيه الأحكام باختلاف المقاصد والعوائد فقد أخطأ؛ وكان ذلك منه فسقًا إن علم ذلك وقصده). أصل الذرائع شاهد باعتبار لوائح السير وقوانينه
ومن الأصول القاضية باعتبار تنظيم السير وحركة المرور: أصل الذرائع، وهو أصل مالكي آخر وإن شاركهم غيرهم القول به، فعنهم اشتهر وإليهم ينسب، والمراد بالذريعة: السبب والوسيلة إلى الشيء، وهي في معناها الخاص الاصطلاحي وهو الذي يعنينا هنا: عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور، أو: الوسائل المفضية في الغالب إلى المفسدة، والتي تكون في أصلها جائزة فتمنع بناء على هذا الإفضاء.
فالخوف من إفضاء الجائز إلى الممنوع وانحرافه عما قصد به من تحقيق مصالح شرعية إلى الوقوع في مفاسد ومناهي، هو الذي بعث على حسم مادة الفساد من أساسها؛ بجعل الفعل الجائز ممنوعًا.وفي قضيتنا هذه لم يعد الأمر يتعلق بالظن المعبر عنه بالخوف، بل إنما تندرج تحت الظن الغالب أو القطع.
في الالتزام بقانون المرور إحياء للأنفس
ولا يشك عاقل أن الغاية من تنظيم حركة المرور وفق هذه القوانين هي حماية النفس البشرية؛ التي هي إحدى الكليات الخمس التي اتفقت الملل والشرائع على رعيها والحفاظ عليها، ويلزم من هذا أن تصنف هذه الوسيلة وما يتصل بها ضمن وسائل الحفاظ على الضروريات، وأن تراعى كما قال علماء المقاصد من جهتي الوجود والعدم:
من جهة الوجود: بإقامة أركانها وتثبيت قواعدها وتنميتها؛ بأن تصلح الطرق وتردم الحفر وتصرف المياه في مجاريها، وتوضع العلامات الواضحة في الممرات وعلى جنبات الطرق، وأن تخصص الأموال والأجهزة اللازمة الدائمة لذلك.
ومن جهة العدم: بدرء الاختلال الواقع أو المتوقع عنها. ومن وسائل الدرء هذه تشديد العقوبة على من تسول له نفسه الانطلاق بمركبته غير مبالٍ بحياته ولا بحياة غيره، ومنع الأولياء من أن يسلموا مراكبهم لمن لم يبلغ الرشد بعد؛ امثالًا لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }[النساء: 6]، والاستفادة من وسائل التقنية الحديثة لمعرفة المستهترين المفرطين في سيرهم، ومعرفة العربات الصالحة لأن توضع في مضمار السير من التي يجب إصلاحها أو إنهاء صلاحيتها؛ فإن المصلحة الشخصية إذا تعارضت مع المصلحة العامة؛ قُدمت مصلحة الجماعة.
حرمة القيادة تحت تأثير الكحول والمخدرات
ومن وسائل درء الفساد في حركة السير منع القيادة تحت تأثير كل ما من شأنه أن يغيب العقل؛ سواء أكان كحولًا أو مخدرات أو أدوية تغيب العقل أو غير ذلك، وإذا كان تحريم الخمر من المسلمات الواضحات في الشريعة؛ فإن القول بتحريم المخدرات آكد وأوضح لجنايتها ليس على العقل وحده؛ وإنما على العقل والدين والعرض والنفس والمال جميعًا، فضلًا عما تكلفه من تعطيل طاقات الأمة وهدرها في الباطل، وما يتطلبه علاج المدمنين من أموال وجهود ومصحات وأدوية ... إلخ.وإذا كان الأمر على هذا النحو؛ فإن جنس العقوبة ينبغي أن يتناسب مع طبيعة الجناية قدرًا وحجمًا، بأن تسلط العقوبة الشديدة على من يسوق تحت تأثير الخمر، ويمنع من منح رخصة السياقة ولو لمدة حتى يتوب ويحسن سلوكه، وأما من ثبت تعاطيه المخدرات؛ فإن عقوبته ينبغي أن يزاد فيها على عقوبة السكران نوعًا وكمًّا.
في التزام تنظيمات المرور حفاظ على الأموال
ولما كانت مركبات السير أموالًا تبذل فيها الجهود والأوقات؛ وتقوم على تصنيعها وإصلاحها وبيعها والتجارة فيها مهن وأعمال، ويؤكد ذلك ما تعارفه الناس قاطبة من التأمين عليها لنفاستها وأهميتها ـ كان لزامًا وجوب المحافظة عليها بقدر هذه الأهمية وتلك النفاسة، وكان التعدي عليها والاستهتار بقيمتها بتعريضها للتلف والعطب؛ جناية تستحق الردع والزجر بما يتلاءم مع مقدار حرمتها في النفوس.فحفظ المال كلية أخرى من كليات الشريعة تضاف إلى كلية حفظ النفس، وهو ما يزيد الأمر صلابة ومتانة بتأكيده في النفوس، ووجوب رعيه واحترامه وعظم الجرم في المساس به؛ إذ رُتَب المصالح والمفاسد متفاوتة، وليس من أهدر كلِّية كمن أهدر كلِّيتين مثلًا.
مصلحة حفظ النفس فوق كل الاعتبارات
ومما ظهر في عصرنا مخالفة قواعد المرور لأسباب واعتبارات هي عندي للمفاسد أقرب منها للمصالح، وإن عدت مصلحة فهي بلا ريب من المصالح الموهومة، وذلك من مثل الانتصار لفرق كرة القدم والإفراط في إظهار الفرحة بالفوز بتعريض حياة الناس للخطر، وعدم مراعاة الإشارات وحقوق الناس في المرور، أو التذرع بكون المخالفة للقواعد إنما كانت لتعلق الأمر بإظهار فرحة العرس وعدم انقطاع موكب العروس، وكأن الأمر لا يتم إلا بهذه المخالفات التي أدنى رتبة فيها من المفاسد احتمال تفويت ضروري أو أكثر؛ وهو احتمال راجح بالنظر لظروف العصر وتشابك المصالح والمواصلات داخل المدن.وينبغي أن يعظم النكير على من ينطلق في سيره غير مبالٍ بالقانون ولا بالساهرين على تطبيقه، معرضًا حياة غيره للخطر اعتمادًا على الجاه أو السلطان والنفوذ، وهي ظاهرة لا نراها إلا في بلاد العالم الثالث، ولا شك أن المساواة أصل أصيل في شريعة الإسلام؛ ولأجل ذلك كان القصاص من الغني والشريف والكبير كما هو من الفقير والوضيع والصغير سواء بسواء.
الأصل في المنافع الحل وفي المضار التحريم
ومن قواعد الشرع التي تؤيد اعتبار ما توصل إليه الفكر الإنساني في مجال تنظيم حركة السير، ما تقرر لدى الفقهاء من أن الأصل في المنافع الحل وفي المضار التحريم، ومن الواضح الجلي التذكير بكون هذه التشريعات إنما وضعت وارتضاها الناس على اختلاف مللهم وأعراقهم ولغاتهم لما تحققه من نفع، وأن إهمالها ومخالفتها فيه من تعطيل المصالح وتفويت المنافع الكثير، وليس يحتاج إثبات الضرر الناتج عن هذه المخالفة إلى دليل؛ بعد أن تواترت بذلك الأخبار والتقارير من مختلف أنحاء العالم.
لا ضرر ولا ضرار
وإذا ثبت يقينًا أن مخالفة هذه القواعد مُفضٍ إلى الضرر والإضرار؛ فإنه بلا ريب أيضًا ينتظم تحت قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، وهي قاعدة فقهية كبيرة، أصلها حديث للنبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضرر، من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه)) [السلسلة الصحيحة للألباني، (250)]، والضرر: إلحاق مفسدة بالغير مطلقًا، والضرار: إلحاق مفسدة بالغير على وجه المقابلة له، قال ابن الأثير في شرح ذلك: (لا ضرر: أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئًا من حقه، والضرار: فعال من الضر، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه) [النهاية في غريب الأثر، ابن الأثير، (3/172)].فإلحاق الضرر في مسألتنا هذه ـ شأن المسائل كلها ـ بالناس في أنفسهم وممتلكاتهم ممنوع ابتداء بمخالفة القواعد والتعليمات الصادرة من أهل الشأن، وانتهاء بمقابلة الضرر بضرر مثله أو أكبر منه؛ كأن يعمد من تعرض لحادث إلى إتلاف أو حرق المركبة المتسببة في ذلك؛ فهو عدوان وضرر لا يقره الشرع ولا الفقه.
قاعدة تقييد المباح أو فكرة تقييد الحق
وهي من القواعد المقررة في الفقه الإسلامي؛ فللحاكم المسلم أو من ينوب عنه أن يقيد استعمال بعض الحقوق إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة، يشهد لذلك أمر سيدنا عمر رضي الله عنه لحذيفة أن يفارق امرأته اليهودية، فكتب إليه حذيفة: أحرام هي؟ فكتب إليه عمر: (لا، ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهن) [أحكام القرآن، الجصاص، (1/333)]، ومن الأمثلة التي يمكن عرضها في هذا الباب ـ وهي كثيرة ـ ما نراه يتكرر مرارًا من تجاوز الخط الأبيض المتصل، فهو تقييد لحق التنقل في خصوص تلك المنطقة أو ذلك الموضع، ومن ثَم؛ لم يكن جائزًا للشخص أن يخالف هذا التقييد إلا لضرورة أو مصلحة أكبر.وفي مسألتنا هذه يحق للدولة ممثلة في برلمانها أو في مصالحها ذات الصلة بقطاع السير أن تقيد حق السير بما يعود بالنفع والمصلحة على جميع رعايا الدولة أو مستعملي شبكة الطرق.
منع التعسف في استعمال الحق
ومما يتفرع عن تقييد الحق في الفقه الإسلامي فكرة أو نظرية منع التعسف في استعمال الحق وهو: أن يأتي الشخص أو الجماعة تصرفًا مأذونًا فيه شرعًا، غير أن ذلك يؤدي إلى مناقضة قصد الشارع من الإذن، فيسمى التصرف حينئذ تعسفًا وصاحبه متعسفًا في استعماله لحقه، ويوضح ذلك العلامة الدريني فيقول: (يقوم التعسف في استعمال الحق على فعل مشروع لذاته، لأنه يستند إلى حق أو إباحة، ولكن هذا الحق استعمل على وجه يخالف الحكمة التي من أجلها شرع الحق، والمخالفة أو المناقضة تظهر من ناحيتين:
الأولى: من حيث الدافع الذي حرك إرادة ذي الحق إلى أن يتصرف بحقه لتحقيق غرض غير مشروع من الإضرار بغيره، أو هدم قواعد الشرع بتحليل محرم أو إسقاط واجب.
الثانية: من جهة النتيجة أو الواقعة المادية أو الثمرة التي تترتب على استعمال الحق بحد ذاتها؛ بقطع النظر عن العوامل النفسية؛ فإذا كانت تلك النتائج إضرارًا أو مفاسد راجحة منع التسبب فيها ... لأن الحقوق لم تشرع وسائل لتحقيق مضار أو مفاسد غالبة. ...). ومن هنا؛ فإن كل شخص ـ مهما علا قدره أو ارتفعت مرتبته ـ ملزم أثناء استعماله حقه في السير والمرور ألا يأتي من التصرفات والأفعال ما يضر به غيره أو تكون نتيجته ضررًا.
الوسائل لها أحكام المقاصد
وهي قاعدة فقهية مقاصدية نص عليها العلماء في مصنفاتهم، وقرروا أنه (يختلف وزن وسائل المخالفات باختلاف رذائل المقاصد ومفاسدها؛ فالوسيلة إلى أرذل المقاصد أرذل من سائر الوسائل ... وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المفسدة؛ كان إثمها أعظم من إثم ما نقص عنها) [قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام، (1/232)].
كما قرروا أيضًا أن الأمر بالوسائل أو النهي عنها يأتي تابعًا لمقاصدها، وأن حكم الوسيلة مستمد من حكم مقصدها وتابع له، يقول ابن قيم رحمه الله: (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها؛ كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها؛ فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع بها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل) [إعلام الموقعين، ابن القيم، (3/135)].
ومن شأن فهم هذه القاعدة وإعمالها أن يجيب على أسئلة كثيرة تتردد عند الناس: من مثل ما حكم من تجاوز الضوء الأحمر فقتل إنسانًا أو حيوانًا؟ وما حكم من لم يراع إشارة (قف) فصدم شخصًا؟ وهل يعد ذلك جناية أو جنحة؟ من قبيل الكبائر أم من الصغائر؟ ...إلخ.
الغنم بالغرم
ومن الأصول المقررة لإلزامية قواعد السير في الطرقات المعاصرة ما تقرره قواعد الشريعة ـ بل سنن الكون ـ من أن الغنم بالغرم، فقد أنعم الله على الانسان في هذا الزمان بهذه الوسائل التي تطوى بها المسافات البعيدة في الزمن القريب، مع ما توفره من أسباب الراحة والترفه، ولما كان انقلاب هذه المغانم والنعم إذا أسيء استعمالها أو انحرف؛ إلى نقم ومفاسد أمرًا محققًا في أغلب الأحيان؛ فإنه لا سبيل إلى تفادي هذا المحذور المتوقع سوى بإحاطتها بمغارم ومسئوليات تقابل تلك النعم والمغانم، وهو ما يحقق الحفاظ عليها وعلى مثيلاتها في حق الآخرين، وهو المنهج الرباني في علاج مسائل الحرية: حرية الأفراد أو حرية المجتمع. فالمسلم لا ينطلق في سيره معربدًا لا من ضابط يضبطه ولا من قيد يقيده، بل يراعي نظام الجماعة التي يعيش فيها وبها، ويحرص على مصالحها كما يحرص على مصالحه، بل ويقدم حقوق الجماعة على حقوقه إذا اقتضى الأمر ذلك.
سلطة التعزير موكولة لولي الأمر
ومما يقرره الفقه الإسلامي في شأن المعاصي والمفاسد التي لم يرد في الشريعة حكم بخصوصها؛ أن يوكل تقدير العقوبة عليها إلى ولي الأمر أو من ينوب عنه فيما اصطلح عليه بالتعزير، ولاشك أن من الموجهات والمحددات التي يراعيها من فوض إليه تقدير العقوبة كمًّا وكيفًا النظر إلى تأثيرها وما تفوته من المصالح الكلية، وقد تقدم آنفًا أن متعلق هذه الأحكام هو كليات الشريعة ومقاصدها العامة من حفظ النفس والعقل والمال، مما يستدعي التشديد وعدم الرأفة في حق من ثبت استهتاره واستخفافه بالقوانين والإشارات واللوائح المرورية.
منح رخصة السياقة للجاهل بقانون المرور إعانة على منكر
استلزم ما ذكرناه سابقًا من أن للوسائل أحكام المقاصد مع ما تقرر في أصول الشريعة من وجوب نفي الضرر بالوقاية منه قبل وقوعه ورفعه إذا وقع، وتحقيقًا لقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ أن نقرر أن تعلم قواعد وقوانين المرور واجب متعين في حق كل من يقدم على قيادة عربة أو مركبة، ويستعمل مضمار السير العام، وأن نقرر أيضًا مطمئنين أن ما شاع في أيامنا هذه من تسليم رخص القيادة للجاهلين بقانون المرور، بل وحتى من دون فحصهم أحيانًا مقابل ما يقدمونه من مال هو منكر وإعانة على معصية؛ بالنظر إلى ما يفضي إليه من نتائج وخيمة، تهدر فيها الأنفس وتتلف الأموال.
وهذه المسألة المستحدثة داخلة بناء على هذا تحت مسمى فساد الزمان الموجب لاستحداث أحكام وأقضية مناسبة؛ تحقيقا لما هو مقرر أنه (يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور)، وفي مقام النظر واقتراح الحلول نقول: إنه ينبغي تشديد الإجراءات وتحديد العقوبات الملائمة في حق مدارس السياقة والممتحنين، الذين يتعاطون مثل هذه المعاملة؛ إما بالتغريم المالي المضاعف معاملة لهم بنقيض المقصود، أو بمصادرة رخصة مزاولة النشاط والمهنة إما مؤقتًا أو على سبيل الدوام، وبالفصل من الوظيفة إن اقتضى الأمر في حق القائمين على الفحص وامتحان المتبارين.
وينبغي ألا يستثنى من العقوبة من يدفع المال للحصول على رخصة قيادة العربات والمركبات، دون أن يكلف نفسه بتعلم أحكام وقواعد المرور، ومن الحلول الوقائية التي نقدمها في علاج هذه الظاهرة أن نقرر في بلادنا العربية والإسلامية مادة دراسية إجبارية يمتحن فيها الطلاب والتلاميذ في مرحلة الإعدادي أو الثانوي لتعلم قوانين المرور في مرحلة أولى، وربما فن القيادة في مرحلة ثانية، متى توفرت الإمكانات وتهيأت الظروف.







