اللغة العربية والعامِّية..مُساهَمة في النِّقاش
09-08-2015, 05:49 PM
لعلَّه مِن الإنصاف أن نَعترِف لِوزيرة التربية بالفَضل في تأجيج النِّقاش حول مَسألة اللُّغة العربية في الجزائر، وهو نقاشٌ مُستمرٌّ منذ حين في وسائل الإعلام المُختلِفة، لكن يبدو أنَّنا لم نَمتلِك بعدُ القُدرة على السَّيطرة على حِواراتِنا، لأنَّها كثيرا ما تنزلِق إلى قضايا جانبية، قد تكون مهمَّةً لكنها بالنِّسبة لموضوعٍ ما جانبيةٌ، وهذا يستهلِك منّا الكثير من الوَقت و الجهد في غير مَوضعه، والدِّفاع عن العربية ليس واجب أَنصارها فقط، بل يجب على كلّ جزائري أن يُدافع عنها لأنَّها هي اللغة الرّسمية والوطنية بالجزائر، دون إقصاءٍ أو إكراه، وأيُّ اعتبارٍ آخر سيُعطي للمسألة أبعادا أيديولوجية أبعَد ما تَكون عن حُصول الاتفاق فيها، وأرى أنَّ المسألة اللُّغوية عالقةٌ في حبائل الأيديولوجية منذ زمن، وينبغي العملُ على تخليصها مِن هذا الفخّ، حتى تتَّضح الرُّؤية ويتَّسِع مجالها.
لا يَنبغي أن تَحملَنا نُصرةُ هذه الجهة أو تلكَ على التَّخندُق خَلفَ خَطئها و صوابها، وليتَ المَسألةَ اللُّغويةَ عندنا كانت بِوُضوح الحقِّ وانبلاجه، خاليةً من الشُّبَه، إذن، لَسَهُل علينا تمييز العدُوِّ من الصَّديق، ولكنَّها مع الأسف مُعقَّدةٌ مُستمرَّةٌ في التَّعقيد استمرارَنا في التَّخلُّف، ولعلَّ سُقوطنا في فخّ تبادل الاتهامات، واتهام النوايا، وتخوين الذِّمَم، يزيدُ المَسألة تعقيداً، وأرى أنَّ حُجج طرفَيْ النِّقاش لا تَخلو من صواب، ولا تَسْلَمُ مِن خطَأ، وتبقى القَضيةُ في عمومها اجتهاداً لا يحقُّ لأحدٍ أن يَحتكِر فيها الحقَّ لنفسه، أو يدَّعيَ فيها العِصمة، وهذه بعضُ الملاحظات المتعلِّقة بهذا النِّقاش أُبديها من خلال الوقفات التالية:
- جَليٌّ أنَّه توجَد مُشكلة اتصال لدى الوزارة على غرار قطاعات أخرى، وإنَّ عَدَم كفاءة الأداء الاتصالي لدى وزارة بهذا الحجم مَثلبةٌ لا تخفى على أحد، ولقد لَحقَ الحُكومةَ من جرّاء هذه المُشكلة شرٌّ كثير، وفي مناسبات عدّة، وإنّ حساسية الرّأي العام بخصوص اللُّغة العربية، يَنبغي أن يَحمل القائمين على الشأن التربوي على الحذَر من استعمال عبارات تُثير حفيظة الرَّأي العام، وتَقودَه إلى الفَهم السَّيء لمُحتوى الرِّسالة، كما أن هذا الاقتراح المُقدَّم لا يخلو من غموض، فإذا كُنّا سنستعين بالعامِّية في تدريس العربية، فلماذا لا نستعين بها أيضا في تدريس اللُّغات الأجنبية الأخرى؟ وإن كان في المَسألة صدمةٌ فإنَّها لا تأتي من اللغة العربية، لأنّ الطّفل يتعرَّض في مُحيطه و بشكلٍ دائم إلى أصواتها، و مُفرداتها و تراكيبها، بينما تكون اللُّغة الفرنسية مثلا، هي الجديدةُ عليه تماما صوتيا، و إفراديا، وتركيبا، و نُطقا، فَمَنطِق الاتِّصال الجَيِّد كان يقتضي توضيح الرِّسالة توضيحا جيِّدا.
- يَتَّصل بهذه المُشكِلة مُشكِلةٌ أخرى تتعلَّق بعدَم ضبط المَفاهيم، فكان على الوزارة أن تُبيِّن للرَّأي العام ما هي اللُّغة العامية المَقصودة بالحديث، لأنَّ أكثَر هذا الرَّأي – فيما يبدو – انصرَف ظَنُّه إلى العامِّية السُّوقية المُستَعمَلة في شوارعنا، و في الإشهارات التجارية، وفي بعض صُحفنا أيضا، في حين أنَّ العامِّية نفسَها مُستوياتٌ، ولقد أثبَت الدكتور عبد الجليل مُرتاض في أعماله التي أشار إليها في مُساهماته، إلى أنَّ العامِّية الجزائرية أَقرب العامِّيات إلى العربية الفصيحة، وأنَّها بحاجة فقط إلى تَهذيب لردِّ كثير من مُفرَداتها إلى أصلها العربي الفصيح، كما أنَّ مُعظَم من تَحدَّث في الموضوع لم يَطرُق مَفهوم اللُّغة الأم، أو لُغة الأم، وما المَقصود بهما، مثلما مَيَّز بينهما الدُّكتور مُرتاض، وهذا مُهمٌّ جدّا، وكذا فَعل الدُّكتور حاتم يوسف، في مساهمته أيضا في بعض الصحف الصادرة بالفرنسية، وعدم ضبط المفاهيم في أي مسألة سيقودنا منذ البداية إلى خلافٍ مَجاني.
- إنَّ العامِّيةَ واقعٌ مَفروض، وحتميةٌ في كُلّ مُجتمع مادام فيه عامةٌ و خاصة، وحتى المُدافعون عن الفُصحى يَستعملون العامِّية، ولعلَّ الخَطر الحقيقي لا يأتي من هذه الدعوة الصريحة لاستعمال العامية في التَّعليم - دون أن ننفي خَطرَها طبعا- بل مِن روافد أُخرى كثيرة جدّا هي التي تُشكِّل وَعي الطِّفل وتَنحتُ لُغَتَه،وهذه الروافد يَصعُب جدّا مُراقبتُها، بل إنَّ هذه الرَّوافد تزدادُ خطورةً لأنَنا غالبا ما نستهينُ بِأثَرِها، ومنها الشوارع، التَّجمعات العامة، لُغة الإعلام والإشهارات، لُغة مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الأخيرة بَدأت تُشكِّل خطرا فعليا على اللُّغة العربية، إلى درجة أنَّ لُغة التَّواصل الاجتماعي وهي الدارجة في الغالب، أصبحت تُكتَب بالحَرف اللاتيني، أفلا يُعدُّ هذا خطرا على العربية أيضا؟ ثمَّ إنَّ اسْتِعانَتنا بالعامِّية في التدريس اليوم، أمرٌ واقع، ونحن في أقسام اللغة العربية في الجامعات، لا نَكاد نتحدَّث الفُصحى إلا في نطاقٍ ضيِّق من الأقسام والمُدرَّجات، بينما الوضع أَفضَلُ حالا في أقسام اللُّغات الأجنبية وخاصةً الفرنسية، فكيف نَطمَع أن نتحدث الفُصحى في أماكن عامة أخرى، وقد عَجزنا عن ذلك في أقسام اللغة العربية؟ بل إنَّ الخطاب المَسجدي كثيرا ما يستعين بالعامِّية من أجل الوصول إلى هدف تبليغ الرِّسالة لجمهور غير مُتجانس، وقد أُخِذَ على الشيخ محمد متولّي الشَّعراوي رحمه الله، استِعانتُه بالعامِّية في تَفسير القرآن الكريم حتى غلبت على الفُصحى في كثير من كلامه، إلّا أنَّه وهو العالِم بالعربية و فنونها، آثَر هدفَ التَّبليغ على الوَسيلة وهي اللُّغة، ولعلَّه نجح في ذلك، وهذا يقودني إلى ملاحظةٍ أخرى، وهي أن العربية على ألسنتنا نحن الجزائريين أصفى منها على ألسنة إخوتنا المصريين، بل إنّ بعض الدُّعاة المصريين لا يكادُ يَستعمِل في خِطابه الشَّفهي أو الكتابي إلّا العامية، كما إنّي أتساءل حولَ قُدرة المدرسة على السَّيطرة على حجم العامِّية المُستعان بها في تعليم الطفل العربية.
- اعتمد بعض أنصار التدريس بالعامِّية على ما جاء في إعلان الأمم المُتحدة الخاص بحقوق الشُّعوب الأصلية، والمُعتَمَد من طَرف الجمعية العامَّة للأمم المتحدة في سبتمبر 2007، ومن هذه الحقوق حقُّها في أن تتعلَّم بلُغة مَسقط الرّأس La langue maternelle)) كما ترجمه الدُّكتور عبد الجليل مُرتاض، إلاّ أنَّ توصيات الأمم المتحدة وإن كانت قائمةً على دراسات وأبحاثٍ علمية، فلا ينبغي أن تَصرفَنا عن الالتفات لخصوصياتنا الاجتماعية، والثقافية، والتاريخية، وغيرها، ولْنُلاحظ هنا أنَّ الأُمم المُتَّحدة لم تُقدِّم تَعريفا للشُّعوب الأصلية ( Les peuples autochtones )، وفي تَقرير لمجموعة عمل مِن خُبراء تابعة لِلَّجنة الإفريقية المختصَّة بقضايا الشُّعوب الأصلية صادرٍ سنة 2005 ، وَرَدَ أنَّ اللَّجنة قامت بدراسة مُصطلح (أصلية) ضِمن السِّياق الإفريقي، وخَلُصت إلى أنَّ هذا المُصطلَح لا يُحيل إلى مَفهوم" السُّكّان الأوائل" على عكس الجاليات غير الإفريقية أو تلك القادمة من أماكن أخرى، وإلى أنَّ كلّ الأفارقة أصليون في القارة، وعليه أَوصت بضرورة اعتماد نقاط مذكورة في التقرير عند تعريف الشعوب الأصلية. إذن، فَخُصوصيات الشُّعوب، وتَفرُّدها ثقافيا، وجُغرافيا، وتاريخيا، واجتماعيا، مَسألةٌ لا يُمكِن القَفزُ عليها، وإلّا حَدثت هزّات ارتدادية تجعل المُجتمعات في حالة اضطرابٍ دائم. ولعلَّه من الطبيعي أن يختلف تعليم العربية في مناطق الوطن التي يتحدث أبناؤها في يومياتهم الأمازيغية، أو الزناتية، أو غيرها، عن تعليمها في المناطق الأخرى التي تَعتمد في يومياتها اللغة الدارجة، فمَنطق الأشياء يقتضي أن يُستعان في تعليم العربية باللُّغة السائدة في منطقةٍ ما، وقد حدثني طالب زميل من منطقة تيميمون أنَّه لم يتعلّم الحديث بالعربية إلا في سن السابعة، وقَبل ذلك لم يَعرف إلّا لُغتَه المحلِّية، والطلبة الجامعيون المنحدرون من هذه المناطق عندما يلتقون مع بعضهم يتحدثون بلغتهم المحلية، لا العربية، وهذه مسألةٌ لا يُمكن تجاهلها أيضاً.
- يبدو أنَّ كثيرا من أنصار العربية عندنا، غيرُ قادرين على التَّمييز بين (المُقدَّس و المُدنَّس) في المَسألةِ اللُّغوية، واللُّغة العربيةُ هي لُغةٌ إنسانيةٌ تهدف إلى ما تَهدف إليه كلُّ لغات العالم و هو التَّبليغ والتواصل، فهي ليست مُقدَّسة في ذاتها، ولذلك فإنَّ التَّمَترس خلفَ دِرع القرآن الكريم، لا يَكفي وحدَهُ لإعادة الاعتبار لهذه اللُّغة، غير أنَّ القرآن هو الضّامن الأقوى لبقائها، ولنا أن نتصوَّر لو لم تكن العربية لُغةَ القُرآن، كيف كان وَضعها في عالَم اليَوم، لكنَّ هذا ينبغي أن لا يَصرفنا عن رُؤية المَشاكل التي تتَخبَّط فيها العربية بصِفتها لُغة تواصل و تبليغ، ولا ينقص هذا مِن قَدرِها شيئاً، ولا ننسى أنَّ في عالَمنا مسيحيون عرَب ولهم الحقُّ في العربية مِثل ما لنا، فليس مِن الصَّواب فيما أرى إغراق المَسألة في بُعدها الديني الصّرف.
لعلَّ المسألةَ اللُّغوية كما يتمُّ مُعالجتُها الآن في الصَّحافة الوطنية، أخذت بُعداً دِعائياً أكثر منه إعلامياً، وهذا يُؤثِّر بلا شك على وضوح الرُّؤية وسلامتها، ولذلك تَعذَّر على البعض الوقُوف على البُعد العِلمي التربوي البيداغوجي المُتَضمَّن في هذا المُقتَرَح، أو دَفَعَتهم الدِّعايةُ إلى تَجاهُلِه، وعلقَ هذا البُعدُ في أوحال الصراع الأيديولوجي، ومِن ثمَّ تمَّ اختزال القضية كُلِّها فيه، كما إنَّ دِفاعنا عن العربية بِمَنطق العاطفة والدّين، قد يَخذُلها أكثَر ممّا يَخدمها، دون أن نُقلِّل من شأن العاطفة والدّين أو نُزري بهما.
لا يَنبغي أن تَحملَنا نُصرةُ هذه الجهة أو تلكَ على التَّخندُق خَلفَ خَطئها و صوابها، وليتَ المَسألةَ اللُّغويةَ عندنا كانت بِوُضوح الحقِّ وانبلاجه، خاليةً من الشُّبَه، إذن، لَسَهُل علينا تمييز العدُوِّ من الصَّديق، ولكنَّها مع الأسف مُعقَّدةٌ مُستمرَّةٌ في التَّعقيد استمرارَنا في التَّخلُّف، ولعلَّ سُقوطنا في فخّ تبادل الاتهامات، واتهام النوايا، وتخوين الذِّمَم، يزيدُ المَسألة تعقيداً، وأرى أنَّ حُجج طرفَيْ النِّقاش لا تَخلو من صواب، ولا تَسْلَمُ مِن خطَأ، وتبقى القَضيةُ في عمومها اجتهاداً لا يحقُّ لأحدٍ أن يَحتكِر فيها الحقَّ لنفسه، أو يدَّعيَ فيها العِصمة، وهذه بعضُ الملاحظات المتعلِّقة بهذا النِّقاش أُبديها من خلال الوقفات التالية:
- جَليٌّ أنَّه توجَد مُشكلة اتصال لدى الوزارة على غرار قطاعات أخرى، وإنَّ عَدَم كفاءة الأداء الاتصالي لدى وزارة بهذا الحجم مَثلبةٌ لا تخفى على أحد، ولقد لَحقَ الحُكومةَ من جرّاء هذه المُشكلة شرٌّ كثير، وفي مناسبات عدّة، وإنّ حساسية الرّأي العام بخصوص اللُّغة العربية، يَنبغي أن يَحمل القائمين على الشأن التربوي على الحذَر من استعمال عبارات تُثير حفيظة الرَّأي العام، وتَقودَه إلى الفَهم السَّيء لمُحتوى الرِّسالة، كما أن هذا الاقتراح المُقدَّم لا يخلو من غموض، فإذا كُنّا سنستعين بالعامِّية في تدريس العربية، فلماذا لا نستعين بها أيضا في تدريس اللُّغات الأجنبية الأخرى؟ وإن كان في المَسألة صدمةٌ فإنَّها لا تأتي من اللغة العربية، لأنّ الطّفل يتعرَّض في مُحيطه و بشكلٍ دائم إلى أصواتها، و مُفرداتها و تراكيبها، بينما تكون اللُّغة الفرنسية مثلا، هي الجديدةُ عليه تماما صوتيا، و إفراديا، وتركيبا، و نُطقا، فَمَنطِق الاتِّصال الجَيِّد كان يقتضي توضيح الرِّسالة توضيحا جيِّدا.
- يَتَّصل بهذه المُشكِلة مُشكِلةٌ أخرى تتعلَّق بعدَم ضبط المَفاهيم، فكان على الوزارة أن تُبيِّن للرَّأي العام ما هي اللُّغة العامية المَقصودة بالحديث، لأنَّ أكثَر هذا الرَّأي – فيما يبدو – انصرَف ظَنُّه إلى العامِّية السُّوقية المُستَعمَلة في شوارعنا، و في الإشهارات التجارية، وفي بعض صُحفنا أيضا، في حين أنَّ العامِّية نفسَها مُستوياتٌ، ولقد أثبَت الدكتور عبد الجليل مُرتاض في أعماله التي أشار إليها في مُساهماته، إلى أنَّ العامِّية الجزائرية أَقرب العامِّيات إلى العربية الفصيحة، وأنَّها بحاجة فقط إلى تَهذيب لردِّ كثير من مُفرَداتها إلى أصلها العربي الفصيح، كما أنَّ مُعظَم من تَحدَّث في الموضوع لم يَطرُق مَفهوم اللُّغة الأم، أو لُغة الأم، وما المَقصود بهما، مثلما مَيَّز بينهما الدُّكتور مُرتاض، وهذا مُهمٌّ جدّا، وكذا فَعل الدُّكتور حاتم يوسف، في مساهمته أيضا في بعض الصحف الصادرة بالفرنسية، وعدم ضبط المفاهيم في أي مسألة سيقودنا منذ البداية إلى خلافٍ مَجاني.
- إنَّ العامِّيةَ واقعٌ مَفروض، وحتميةٌ في كُلّ مُجتمع مادام فيه عامةٌ و خاصة، وحتى المُدافعون عن الفُصحى يَستعملون العامِّية، ولعلَّ الخَطر الحقيقي لا يأتي من هذه الدعوة الصريحة لاستعمال العامية في التَّعليم - دون أن ننفي خَطرَها طبعا- بل مِن روافد أُخرى كثيرة جدّا هي التي تُشكِّل وَعي الطِّفل وتَنحتُ لُغَتَه،وهذه الروافد يَصعُب جدّا مُراقبتُها، بل إنَّ هذه الرَّوافد تزدادُ خطورةً لأنَنا غالبا ما نستهينُ بِأثَرِها، ومنها الشوارع، التَّجمعات العامة، لُغة الإعلام والإشهارات، لُغة مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الأخيرة بَدأت تُشكِّل خطرا فعليا على اللُّغة العربية، إلى درجة أنَّ لُغة التَّواصل الاجتماعي وهي الدارجة في الغالب، أصبحت تُكتَب بالحَرف اللاتيني، أفلا يُعدُّ هذا خطرا على العربية أيضا؟ ثمَّ إنَّ اسْتِعانَتنا بالعامِّية في التدريس اليوم، أمرٌ واقع، ونحن في أقسام اللغة العربية في الجامعات، لا نَكاد نتحدَّث الفُصحى إلا في نطاقٍ ضيِّق من الأقسام والمُدرَّجات، بينما الوضع أَفضَلُ حالا في أقسام اللُّغات الأجنبية وخاصةً الفرنسية، فكيف نَطمَع أن نتحدث الفُصحى في أماكن عامة أخرى، وقد عَجزنا عن ذلك في أقسام اللغة العربية؟ بل إنَّ الخطاب المَسجدي كثيرا ما يستعين بالعامِّية من أجل الوصول إلى هدف تبليغ الرِّسالة لجمهور غير مُتجانس، وقد أُخِذَ على الشيخ محمد متولّي الشَّعراوي رحمه الله، استِعانتُه بالعامِّية في تَفسير القرآن الكريم حتى غلبت على الفُصحى في كثير من كلامه، إلّا أنَّه وهو العالِم بالعربية و فنونها، آثَر هدفَ التَّبليغ على الوَسيلة وهي اللُّغة، ولعلَّه نجح في ذلك، وهذا يقودني إلى ملاحظةٍ أخرى، وهي أن العربية على ألسنتنا نحن الجزائريين أصفى منها على ألسنة إخوتنا المصريين، بل إنّ بعض الدُّعاة المصريين لا يكادُ يَستعمِل في خِطابه الشَّفهي أو الكتابي إلّا العامية، كما إنّي أتساءل حولَ قُدرة المدرسة على السَّيطرة على حجم العامِّية المُستعان بها في تعليم الطفل العربية.
- اعتمد بعض أنصار التدريس بالعامِّية على ما جاء في إعلان الأمم المُتحدة الخاص بحقوق الشُّعوب الأصلية، والمُعتَمَد من طَرف الجمعية العامَّة للأمم المتحدة في سبتمبر 2007، ومن هذه الحقوق حقُّها في أن تتعلَّم بلُغة مَسقط الرّأس La langue maternelle)) كما ترجمه الدُّكتور عبد الجليل مُرتاض، إلاّ أنَّ توصيات الأمم المتحدة وإن كانت قائمةً على دراسات وأبحاثٍ علمية، فلا ينبغي أن تَصرفَنا عن الالتفات لخصوصياتنا الاجتماعية، والثقافية، والتاريخية، وغيرها، ولْنُلاحظ هنا أنَّ الأُمم المُتَّحدة لم تُقدِّم تَعريفا للشُّعوب الأصلية ( Les peuples autochtones )، وفي تَقرير لمجموعة عمل مِن خُبراء تابعة لِلَّجنة الإفريقية المختصَّة بقضايا الشُّعوب الأصلية صادرٍ سنة 2005 ، وَرَدَ أنَّ اللَّجنة قامت بدراسة مُصطلح (أصلية) ضِمن السِّياق الإفريقي، وخَلُصت إلى أنَّ هذا المُصطلَح لا يُحيل إلى مَفهوم" السُّكّان الأوائل" على عكس الجاليات غير الإفريقية أو تلك القادمة من أماكن أخرى، وإلى أنَّ كلّ الأفارقة أصليون في القارة، وعليه أَوصت بضرورة اعتماد نقاط مذكورة في التقرير عند تعريف الشعوب الأصلية. إذن، فَخُصوصيات الشُّعوب، وتَفرُّدها ثقافيا، وجُغرافيا، وتاريخيا، واجتماعيا، مَسألةٌ لا يُمكِن القَفزُ عليها، وإلّا حَدثت هزّات ارتدادية تجعل المُجتمعات في حالة اضطرابٍ دائم. ولعلَّه من الطبيعي أن يختلف تعليم العربية في مناطق الوطن التي يتحدث أبناؤها في يومياتهم الأمازيغية، أو الزناتية، أو غيرها، عن تعليمها في المناطق الأخرى التي تَعتمد في يومياتها اللغة الدارجة، فمَنطق الأشياء يقتضي أن يُستعان في تعليم العربية باللُّغة السائدة في منطقةٍ ما، وقد حدثني طالب زميل من منطقة تيميمون أنَّه لم يتعلّم الحديث بالعربية إلا في سن السابعة، وقَبل ذلك لم يَعرف إلّا لُغتَه المحلِّية، والطلبة الجامعيون المنحدرون من هذه المناطق عندما يلتقون مع بعضهم يتحدثون بلغتهم المحلية، لا العربية، وهذه مسألةٌ لا يُمكن تجاهلها أيضاً.
- يبدو أنَّ كثيرا من أنصار العربية عندنا، غيرُ قادرين على التَّمييز بين (المُقدَّس و المُدنَّس) في المَسألةِ اللُّغوية، واللُّغة العربيةُ هي لُغةٌ إنسانيةٌ تهدف إلى ما تَهدف إليه كلُّ لغات العالم و هو التَّبليغ والتواصل، فهي ليست مُقدَّسة في ذاتها، ولذلك فإنَّ التَّمَترس خلفَ دِرع القرآن الكريم، لا يَكفي وحدَهُ لإعادة الاعتبار لهذه اللُّغة، غير أنَّ القرآن هو الضّامن الأقوى لبقائها، ولنا أن نتصوَّر لو لم تكن العربية لُغةَ القُرآن، كيف كان وَضعها في عالَم اليَوم، لكنَّ هذا ينبغي أن لا يَصرفنا عن رُؤية المَشاكل التي تتَخبَّط فيها العربية بصِفتها لُغة تواصل و تبليغ، ولا ينقص هذا مِن قَدرِها شيئاً، ولا ننسى أنَّ في عالَمنا مسيحيون عرَب ولهم الحقُّ في العربية مِثل ما لنا، فليس مِن الصَّواب فيما أرى إغراق المَسألة في بُعدها الديني الصّرف.
لعلَّ المسألةَ اللُّغوية كما يتمُّ مُعالجتُها الآن في الصَّحافة الوطنية، أخذت بُعداً دِعائياً أكثر منه إعلامياً، وهذا يُؤثِّر بلا شك على وضوح الرُّؤية وسلامتها، ولذلك تَعذَّر على البعض الوقُوف على البُعد العِلمي التربوي البيداغوجي المُتَضمَّن في هذا المُقتَرَح، أو دَفَعَتهم الدِّعايةُ إلى تَجاهُلِه، وعلقَ هذا البُعدُ في أوحال الصراع الأيديولوجي، ومِن ثمَّ تمَّ اختزال القضية كُلِّها فيه، كما إنَّ دِفاعنا عن العربية بِمَنطق العاطفة والدّين، قد يَخذُلها أكثَر ممّا يَخدمها، دون أن نُقلِّل من شأن العاطفة والدّين أو نُزري بهما.
عبد العزيز حامدي