شهادة على فساد الشهادات
14-07-2019, 05:26 PM
بعدَ نهاية اختبارات شهادة التعليم الأساسي، وشهادة الباكالوريا، سيقال إنَّ الامتحانات جرَت في ظروف حسنة، بالنظر إلى السير العام لهذه الاختبارات، إلّا أنَّ الإمعان في النظر إلى واقع الحال، يبعث في أنفسنا اليأس، ويعصف بالكثير من آمالنا في تحسُّن مستويات التلاميذ، والارتقاء بالمنظومة التربوية، وعليه أسجل الملاحظات التالية، وليست بسِرّ.
إن نجاح العملية التعليمية مرتبط بشكل كبير بانضباط المتعلِّم داخل القسم وخارجه، والواقع يشهد أنّ هذه السِّمة أكثرُ ما ينفُر منه التلميذ، وعدم تعوُّده على الانضباط داخل مؤسسته التعليمية، هو السبب الأهم في عدم التزامه بالإجراءات الانضباطية خلال اجتيازه لامتحان شهادة التعليم المتوسط، أو شهادة الباكالوريا، ومظاهر التفلُّت والإهمال واللامبالاة، كثيرة جدًا، ومُنذِرةٌ بخطرٍ متصاعِد يُهدّد نجاح المنظومة التربوية التي اضمحلَّ فيها عنصر التربية إلى حد كبير، بعد أن تعرض ومازال إلى ضربات قوية شوَّهت صورته، وأدى فيها الإعلام الأعشى دورا فعالًا، فضلا عن تراجع مستويات التلاميذ العلمية.
من هذه المظاهر تعمُّد إثارة الفوضى داخل حجرة الامتحان، والهدف هو التمكُّن من الغش، بأي طريقة، والمؤسف هنا أنَّ التلميذ صار لا يخاف من الإجراءات العقابية، لأنَّها غالبًا لا تُطَبَّق، وهذا ما يُجرِّؤه أكثر ويغريه بالتمادي.
وما يُؤسَفُ له أيضًا عدم قدرة الكثير من الأساتذة على فرض الانضباط داخل القسم، بل إنَّ أساتذةً حُراسًا، يُساهمون في عرقلة سير الامتحان بشكل سليم، وذلك بإرخاء حبل الكلام مع التلميذ، أو تعمُّد الدعابة معه، وفي بعض الأحيان وهذه ثالثة الأثافي، يُرخي بعض الأساتذة للتِّلميذ حَبل الغِش صراحةً، مُسبِّبا بذلكَ حرجًا ومشكلة للزملاء الحراس في الحجرة نفسها. فإذا كان الأستاذُ الذي يُؤتَمَنُ على سير الامتحان خائنًا لضميره، ولواجبه، وجزءًا من المشكلةِ، فكيفَ نقضي على ظاهرة الغش؟!
أحسبُ الغشَّ صار تربيةً يُنشَّأ عليها الصِّبيانُ منذ صغَرهم، ويتدربون عليها في أوساط مختلفة، وما يشهد به الكثير من الضمائر الحية خلال شهادة التعليم الابتدائي أمرٌ مثيرٌ للدهشة، قاتلٌ لكل أمل في تحسن الأوضاع، فهل يُعقَل أن يجيب الأستاذُ عوض التلميذ، أو يكتب له الجواب على السبورة؟ وقد حدث هذا، والتلاميذ عليه شُهود، حتى إنَّ المتفوقين منهم يشعرون بالإحباط، وحق لهم ذلك، إذ كيف يتساوَون في النتيجة النهائية رغم اختلاف الجهود؟
إنَّ مساعدة الأستاذ التلميذَ على الغشَّ خلال الامتحانات بأي شكلٍ كان، خيانةٌ للمهنة، وخيانةٌ للوطن، وخيانةٌ لله، وجريمةٌ ينبغي أن تكون عقوبتها قاسية على الجميع. وهذا يعني وبكل وضوح أنَّ المدرسة صارت تُعلِّم التلميذَ سلوكَ الغش منذ المرحلة الابتدائية، فكيفَ ننهاهُ عنه خلال امتحان شهادة الباكالوريا بعد أن ألِفه واستَمرَأه!وهذا يعني كذلكَ وجود انفصامٍ في شخصية المدرسة، إذ هي من جهة نظرية تدعو إلى الأمانة والصدق، ومن جهة عملية تدعو إلى الغش بشكل مُبطَّن، حتى صار مادة غير رسمية، يتعلم التلميذ فنونَها بأشكال مختلفة.
إنَّ هذا السلوك نتاجٌ للمجتمع الذي صار يرى الغشَّ في الامتحانات مسألةً عاديةً، بل وحقًّا يُطالَبُ به، ويُحتَجُّ له، وهل نجا ميدانٌ من ميادين حياتنا اليومية من الغش؟ ولا يُبَرَّأُ الأولياءُ الذين يُدافعون عن غش أبنائهم طيلة الموسم الدراسي، وقد يكونون ظهيرًا لأبنائهم في تهاونهم الدراسي، وغشهم لأنفسهم، ثم يأتون في نهاية السنة يُطالبون الأستاذ بالتساهل مع التلميذ في الامتحان، فالله الله في أبنائنا.
وإذا نظرنا إلى الحراك الشعبي المتواصل، فإنه لا يصعب تمييز الطابع الشَّبابي للمتظاهرين، ففيهم أعداد غفيرة من الثانويين والطلبة الجامعيين، وقد لمسنا في مناسباتٍ كثيرة وعيًا سياسيًّا ظاهرًا، عند هؤلاء، حتى إنَّ الحراك انتقلت (بركَتُه) إلى الثانويات بأشكالٍ مختلفة، غير أن هذا الوعيَ يقابلُهُ في الحياة المدرسية لهؤلاء تجاهلٌ لممارسات خاطئة يُندِّدون بها في الحراك، وأبرزُها الغشُّ بأشكاله، وعدم القيام بالواجبات، والنفور من الانضباط، وعدم الغيرة على المؤسسة التربوية، فضلًا عن الحط مِن قيمة الأستاذ بصور مختلفة.
وهذا هو الذي يندد به هؤلاء في المسيرات، ألم يرفعوا عقائرهم بإنكار السرقة والنهب؟ فما بالهم يسرقون جهود زملائهم في المدرسة؟ ألم يُنكروا خيانة الوطن؟ فما لَهم يخونون مدرسَتهم وواجباتهم؟ ألم يُطالبوا بإعلاء شأن التلميذ والطالب؟ فلماذا لا يُعلون من شأن أساتذتهم؟ ألم نرَهم ينظفون الشوارع بعد المسيرات؟ فلماذا ينفرون من الانضباط في مدارسهم، ولا يهتمون بنظافتها؟ وهذا يعكسُ بوضوحٍ عدم جدية شبابنا في التغيير الحقيقي، وعدَم استعدادهم لِتحمُّل ضريبة التغيير الذي نريده جميعا، فمازلنا نحنُّ إلى الفوضى والتفلُّت.
ومن مظاهر التعدي الصارخ على حرمة المدرسة انتشار التَّدخين في أوساط الثانويين، وكذا في أوساط تلاميذ المرحلة المتوسطة بشكل أخفّ، حتى صار مسألةً عاديةً لا حرجَ فيها، بينما يتعلم التلميذ أنَّ التدخين مضر بالصحة، وله مخاطر كبيرة، حتى صار هذا الكلام لَغوًا، والذي يحدث في امتحانات الباكالوريا دائمًا، أنَّ التلاميذ يطلبون الإذن من الحراس للخروج إلى دورة المياه، لكنهم في الواقع يخرجون لكَمي دخان السجائر، ويظل الحارسُ واقفًا خارجَ دورة المياه منتظرًا (فخامة التلميذ) حتى يُنهي عمله، بل صاروا يطلبُون الإذن من للتدخين صراحةً، بعد أن كانوا يُورُّون بدورَة المياه.
وقد حدثت شجارات كثيرة بين الحراس والتلاميذ لهذا السبب، ومعلوم أنه يُسمح له بالخروج إلى دورة المياه وهذه وظيفتها معروفة، لكن مسألة التدخين صارت شائعةً، ولا وجود لإجراءات رادعة تحمل التلميذ على احترام الامتحان، والأستاذ، والإدارة، والمؤسسة التربوية، وما حدث في السنوات الأخيرة من تغيُّرات وتغييرات في المنظومة التربوية أدى إلى نتائج عكسية، وغاب الانضباط في مؤسسات كثيرة بشكلٍ شبه كلي، كأني بالمؤسسات التربوية ورؤساء المراكز صاروا يخشَونَ (سطوة) التلميذ، لأن الإجراءات القانونية في صالح التلميذ أكثر مما هي في صالحهم، وهذا يُذكرني بكلام عبد المالك سلال يوم كان رئيسا للحكومة حين قال إن الدولة تحمي إطاراتها، وطالب هذه الإطارات أن لا تخشى أحدًا كائنا مَن كان، وكان يعلَم بالتأكيد أن كلامه غيرُ صحيح، وإطارات المدرسة بحاجة إلى حماية حقيقية من كل ما يمكنه عرقلة أدائهم المهني.
إنَّ مناهج الجيل الثاني التي جعلت التلميذ محور العملية التعليمية، لا ينبغي أن تعصِفَ بأهمية الانضباط، فيصنع التلميذُ ما يشاء في المؤسسة التربوية آمنا من أي عقوبة رادعة، مطمئنًّا إلى أنَّ يده هي العليا، ويد الإدارة هي السفلى، وأنَّ المحاباة واستغلال النفوذ يحميه وإن كان مخطئًا، فهذا غير مفهوم، وغير مقبول، إذ لا يعقل أن تذهب هيبة المدرسة تحتَ ضرباتِ الفشل في تسيير البلاد، وما لم تستعِد المدرسةُ هيبتَها وقيمَتها، وما لم تستَجِب قوانين المنظومة التربوية لطبيعة المجتمع، وعقليته، فلا أملَ في النهوضِ.
لقد حان الوقت في ظل هذا الحراك الشعبي المتواصل، ليُصبِح مدير المؤسسة التربوية ذا سُلطةٍ في مؤسسته، بعيدًا عن إملاءات المسؤولين، ولا بُدَّ أن يسترجِع الأستاذُ هيبتَهُ فلا يكون ضعيفًا إزاء أي متعلِّمٍ مهما كان نفوذه، أمَّا إن بقينا نركِّز على تغيير النظام السِّياسي، متجاهلين الفساد الضارب بجذوره في عقولنا، وتفكيرنا، وسلوكنا اليومي، فمهما كان النظام السياسيُّ عادلًا فلن نستجيبَ له.
إنّ ما يحدثُ خلال الامتحانات الرسمية في الأطوار الثلاثة، ذهب بمصداقية هذه الامتحانات، وعصفَ بجهود التلاميذ النجباء، والأساتذة الأكفاء، وكذلك الأولياء، فإذا كان التلميذُ ينجحُ في النهاية بسبب الغش فما الداعي إلى مضاعفة الجهود، والدروس الإضافية، ودروس الدعم، وغيرها؟ أما فيما يخص امتحانات شهادة الباكالوريا للأحرار فتلك قصة أخرى.