°°° عناية الفرنسيس بالتراث المصري
وتثمينه نابع من التسهيلات التي قدمها الحكام [المماليك ] في نهب تراث المصريين القدامى ، فغالبية التحف التي تغربت ، إما أنها
سرقت أونهبت ، أو وُهبت ، أو اشتراها الفرنسيون والأنجليز ، فقد تخصصت أسر مصرية بهذا النشاط التجاري المدر للغنى مثل (
عائلة عبد الرسول )... ، وقد تنبه بعض المصريين للخطر وبرزت جهود الفرنسي عالم المصريات
EGYPTOMANIA) السيد ( جاستون ماسبيرو) في محاربة الظاهرة أو التخفيف منها .
°°°
الفنان الأوروبي كان عنصرا فاعلا في الحراك الإستدماري
و مؤرخا بالريشة واللون ، فقد أبدع كثيرهم في تسجيل المعارك الواقعة في زمنهم ، ومن بين اللوحات التي استوقفتني ، لوحة تؤرخ لمعركة ( الأهرام) بين جيش المماليك وجيش نابليون بونابرت 1798 .
معركة ( أمبابة ) التي سماها الفرنسيون (معركة الأهرام 1798)
لوحة الرسام الفرنسي :Lejeune Louis-F.
يُجند الغرب كل طاقاته الإبداعية
في ابراز تفوقه وتسجيل مآثره ، ومن ضمن المواضيع التي استوقفتني نظرا لأهميتها وتأثيرها العميق ، (
الحملة الفرنسية على مصر) التي تركت تأثيرات عميقة ليس في نفوس المصريين فحسب وإنما في ألباب
المسلمين والغربيين جميعهم .
ومن الصدف العجيبة أن تكون هذا الحملة التوسعية هي
لقاء بين نظام قروسطي ، ونظام حديث ، لقاء بين
تنظيم عسكري تقليدي يظن نفسه عصيب و صعب المراس ،
وتنظيم عسكري حديث مكون في المدارس الحربية ومزود بأحدث السلاح في ذلك الوقت خاصة
المدفعية المتنقلة التي حسمت الكثير من المعارك لصالح من أمتلكها .
°°°ومن الصدف الأعجب أن يقود هذه الحملة الفرنسية قائد يعرف باسم (
نابليون بونابرت ) عسكري كورسيكي شاب ، أبعدته حكومة الديركتوار ، لغزو مصر بهدف قطع الطريق على الأنجليز في الوصول إلى مستعمراتهم الشرقية .
لا يهمني أسباب الحملة المعلنة والخفية ، ومعاركها التي تبادل فيها المصريون والفرنسيس النصر والهزيمة والتي دامت 3سنوات (1798-1801)،تولي خلالها حكم مصر ثلاثة من الفرنسيين هم [نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte ] وخليفته [ الجنرال كليبر Jean-Baptiste Kléber ] ، ثم [جاك مينوJacques François Menou ] الذي تسمى باسم (عبدالله باشا مينو).
نابليون بونابرت
كل ما همني في هذه الوقفة ، هي آثار حملة (نابليون بونابرت ) الذي سماه المصريون (علي) بونابرت .
°°°صاغ ابن خلدون حكمة بليغة مفادها أن (ا
لأمم المغلوبة مولعة بتقليد من غلبها في لسانه ولباسه وعوائده .... )
وطبيعي أن
يُعجب المهزوم وينبهر بالمنتصر، ويحاول أن يكون له ظلا ظليللا ، فقد دندن المدندنون كيف وأن حملة نابليون أفادت المصريين في إيقاظهم من نومتهم ،
وعرفتهم على الطباعة الآلية ، و الأسلحة الجديدة ، ونظم الإدارة والقانون ، واكتشفوا إنيتهم البائدة بعد أن فك (شامبليون Jean-François Champollion) شفرة الهيروغليفية ، وبروز فكرة فتح قناة تربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر التي جسدها فيما بعد ( دولسيبس , Ferdinand de Lesseps )أعد الفرنسيون أطلسا مصورا هو من أول خرائط القطر المصري .
°°°
نابليون ....
هذا الشاب القزم الذي نافس (الإسكندر الأكبر) في الغزو،
هذا الشاب الذي دكت مدافعه (أنف أبي الهول العظيم ) ،
هذا الغازي الفرنجي الذي قال : لوحكمت مصر لن أترك قطرة واحدة من ماء النيل تذهب إلى البحر ، وأنجزُ أكبر المزارع والمصانع ، و أقيم أعظم امبراطورية توحد المسلمين تحت راية السلام الفرنسي .
هذا الشاب (27سنة ) الذي قال بأنه قضى أجمل السنوات في مصر ، وقال بأن غيوم أوربا لا تجعلني أفكر في المشاريع الكبرى التي تغير مجرى التاريخ ، وأن من يحكم مصر فبإمكانه أن يغير التاريخ ؟
هذا الأمبراطور الذي أقر في سنوات عمره الأخيرة بأنه ( لو لم يكن حاكما على [مصر] لما أصبح امبراطورا على فرنسا وعلى أوربا ) ، فحلمه
تجسد في الشرق وترنح في الغرب .
°°° هذا البونابرتي الذي أسلم (
والعلم عند ربي ) فحضر صلاة الجماعة والجُمعة في الأزهر ، ولبس العباءة والشاش ، وجلس جلسة المسلمين ،
وأحيا طقوس إقامة محافل المولد النبوي الشريف وتسمى
بعلي بونابرت وشجع الجنرال [ جاك مينو] على دخول الإسلام والزواج من مسلمة هي السيدة (
زبيدة البواب) وأنشأ بعد يوم من دخوله القاهرة ديوانا
بتسعة أعضاء من كبار المشايخ والعلماء لتسيير شؤون المسلمين بالقاهرة .
الحملة الفرنسية في ميزان العقل وليس العاطفة .
كثيرا ما دونت وخربشت ، فمحيت ما كتبت ، لأن وساويس الشيطان قد تجرني إلى قول غير عادل تنتابه الإنية والذاتية ، فالصراع بين الذاتية والغيرية أو بين (الأنا والآخر) أكبر من أن يقاوم ،
ووزن تأثيرات الحملة موضوع أسال حبرا واستنفذ قرطاسا وشغل عقولا ، فعقلي الصغير لا يمكنه أن يستوعب
هذا الزبد المعرفي الذي تطرده قناعات انغرست في الوجدان .
تأثيرات صدمة حملة نابليون على مصر تجاذبتها عند المسلمين مدرستان متناقضتان في الفكر والتوجه .
[
مدرسة التقليديين الذين يرون كل جديد بدعة والتي تنامت بفعل انغراس الصوفية التي شجعها العثمانيون ،و تمدد الفكر السلفي الوهابي الذي كان معاصرا لأحداث تلك الحملة .]
[
..ومدرسة الحداثيين الذين بهرتهم بهارج العصرنة والتطور والتقدم العلمي ، هذا التقدم الذي كشر عن أنيابه في الصدامات الأولى محققا انتصارات عسكرية كاسحة بفضل التمدن النامي .]
والغريب أن كل مدرسة من المدرستين تلغي الأخرى بالحجج العقلية والنقلية .
فالمدرسة الأولى مثّلها مؤرخ أزهري عاصر أحداث الغزوة وأرخ لها وهو (
عبد الرحمن الجبرتي ) ومن سايره . والمدرسة الثانية مثلها آنذاك أزهريون آخرون من أمثال (حسن العطار) القائل:(
إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها ) و تلميذه ر
فاعة الطهطاوي صاحب ( ت
خليص الإبريز في تلخيص باريز) ومن سار ركبهما ؟؟؟
هل أساير طرح التقليديين النكوصي؟ ؟ ، أم انبهر بالجديد كما انبهر فريق الحداثيين ؟؟
في الحقيقة لا يمكن أن اقتنع بالفريقين إلا ب
وضع الحدث في سياقه و سبر
أغوار التأثير والتأثر فيما وقع بين أرض الإسلام التي رضخت لحين من الدهر للفرنسيين ، فأمة مصر قد
صدمتها في الحقيقة موجتان متناطحتان ،
امتداد الإسلام الوهابي النجدي ، القادم من البراري الصحراوية ، وم
وجة الزحفة النابلونية القادمة من بلاد الفرنج ،
ولكل موجة مد وجزر في حياة المصريين .
لا يمكنني أن أقيّم السياسة بتبدلاتها وألوانها ، ....فلنترك التخمين السياسي جانبا ونهتم بجانب الإيقاظ الحضاري ، والتمدن ، ونحاول الإجابة عن سؤال محوري مهم ،
هل الحملة الفرنسية على مصر نعمة أم نقمة ؟ أو بعبارة أخرى
هل كانت حملة نابليون على بلاد الكنانة مؤثرة أم متأثرة ؟
هل حقا أشعل الغازي قناديل الشرق المنطفئة ،
أم أنه إقتبس هو من أنوار الشرق المضيئة ؟؟
الإجابة عن التساؤل لا يمكن أن يكون إجمالا وبصيغة القبول أو الرفض ، لأن الحملة فيها
الخيّر وفيها السيّء ،
فيها السفن والمدافع والبارود .... وفيها الغزاة المتعطشون لتسييل الدماء ..... ، وفيها كذلك 176 عالما من مختلف التخصصات وفيها كذلك سفينة (
ORIONالشرق) التي تحمل على متنها
المطبعة بثلاث لغات منها (العربية ) والتي طبع فيها
المنشور النابليوني بالعربية ا و وزع على شعب مصراستهلالا بقدوم المنقذ الفرنسي ! .
°°°جرائم الغزاة الفرنسيين يندى لها الجبين ، وهي الصورة المرافقة لكل غزو ، حتى الغزو الوهابي الإسلامي لبلاد الحجاز الإسلامية أوقع في نفوس المسلمين
ما لم يوقعه نابليون ؟ فالسياسة والعسكر لهما منطقهما وأساليبهما التي يستنكرها كل عاقل له فهمٌ ايجابي للإسلام الذي لا شك وأنه يعني في كلياته
الأمن والسلام .
°°° شئنا أم أبينا فتأثيرات الفرنسيين على مصر عميقة ومفصلية ، فعلماء الحملة انكبوا على دراسة الحالة المصرية ، وبهرتهم آثارها وجوها وبحرها وأهراماتها وقبور فراعنتها ، وبهرهم إسلام الناس ، وبهرهم الجند المملوكي بشجاعته وإقدامه ، وانصدم المصريون بدورهم بتقدم الفرنسيين في مجالات التنظيم والتسليح والعلم ....
وهذا نتاج كل تلاق بين أمتين وحضارتين ، فالحضارة في جوهرها هي أخذ وعطاء بين الأمم والملل .
°°° نظم نابليون
المعهد العلمي المصري وشكل فريقا مشتركا من علماء مصر وعلماء الحملة الذين أنجزوا عملا رائعا تمثل في 24 مجلدا ضخما حمل عنوان [
وصف مصر] وهو الأساس العلمي الرائد لتطور مصر فيما بعد (عهد محمد على ونجليه ), والفرنسيون هم من اكتشف (
حجر رشيد) الذي اعتمد عليه [ شامبليون ] بمقارباته وضنك محاولاته في
فك رموز الخط الهيروغليفي ، وبفضل ذلك انفتحت أعين العلماء على دراسة تاريخ مصر القديم وفكت كثير من الطلاسم والمبهمات التي كانت غامضة سابقا ، وظهر علماء متخصصون في علم الآثار المصرية سمي (
بعلم المصريات ) فلولا ذلك لما عرفنا تاريخ
أخناتون ، ولا تاريخ
رمسيس الثاني ، ولما عرفنا مقدار
مساهمة الأمازيغ في ثراء تلك الحضارة بجهود [ شيشنق] والأسرتين الثانية والعشرين وما بعدها ....، و سُجلت المواليد والوفيات والزيجات في سجلات لم يكن معمولا بها سابقا ، ورسمت أول الخرائط الطبوغرافية للقطر المصري ، والفرنسيون هم من ايقظ الحس الوطني عند المصريين وأشعروهم بأن بلادهم مستهدفة من استعمار ثلاثي الأقطاب ( الأتراك) ، و(الأنجليز) ، و(الوهابيين) ، لهذا اختاروا [ محمد علي ] الألباني لقيادة البلاد ،
°°° رحل الفرنسيون عن مصر بعد ثل
اث سنوات من غزوها ، ولم ترحل ذكراهم عن المصريين ، و لم تنمحي صورة الشرق من أذهان ووجدان الغزاة بمن فيهم نابليون نفسه ، فقد أصابتهم صعقة (
التمصر) وأخذت في نفوسهم كل مأخذ ، فعاد بعضهم إليها طالبا ودها ، أو أخذوا من تراثها شيئا كثيرا استنئناسا به ، وتعويضا لهم عن فقدها ، وهو ما تُظهرهُ التحف المصرية المتهافتة في
أروقة اللوفر ، وتبرزه بجلاء
المسلة المصرية المنصوبة في باحة [ الكونكرد ] قبالة التويلوري أعرق الأمكنة في العاصمة باريس .
°°°أنوار الشرق هي التي ألهمت نابليون تأسيس أمبراطورية عظيمة ، فهو قد رحل عن مصر كرها تاركا وراءه خليفته [كليبر] وأوصاه خيرا بالمسلمين ، وقد قتله غدرا واحدٌ من طلاب الأزهر اسمه(سليمان الحلبي)، وخلفه الضابط [جاك مينو ] الذي أسلم وتزوج من مسلمة .
°°°تأثر نابليون بشجاعة جند المماليك وإقدامهم وقال عنهم :(
لو أن لي حفنة يد من هؤلاء الفرسان لهزمت بهم العالم ) لهذا أوصى بتشكيل فرقة منهم مكونة من 160 نفرا ، لتكون له مددا في توسعاته الأوربية ، واستعمل تلك الفرقة الإنكشارية
بزيها الإسلامي وبشعار الهلال والنجمة واللون الأخضر والعمامة الكبيرة في الضربات النهائية الخاطفة ، وذاك ما خلده الرسام فرانسيسكو قويا في أحدى لوحاته المعلقة في متحف اللوفر بعنوان هجوم المماليك ، ، كما كان ( رستم) حارسه الشخصي مملوكي رافقه في حله وترحاله وعندما مات ، استبدله نابليون بحارس فرنسي فرض عليه لبس الزي المملوكي وسمي ب(علي) .
(المماليك) قوة صاعقة في الجيش الأمبراطوري
°°° درس نابليون دين الإسلام وفهم أحكامه ، وعمل على استبدال القانون الروماني الذي كان معمولا به بقانون جديد سماه (القانون المدني الفرنسي) تسعون بالمائة من مواده هي ترجمة لفقه الإمام مالك ، فشريعة الإسلام أخذت لنفسها مقعدا وثيرا في قوانين نابليون ودستوره.
القانون المدني الفرنسي النابليوني المعدل .
مفصل القول وإجابة عن تساؤلي الإفتراضي فإن الصدام العسكري المملوكي الفرنسي أفرز تبدلات عميقة في مجال التلاقح الحضاري والفكري بين الغرب والشرق ، فكان الشرق تواق للتعرف على منجزات الغرب وكشف أسرار تفوقه العلمي على جبهة البعثات الطلابية نحو فرنسا ، ونشط الغرب في معرفة كنوز الشرق و أساراره عبر إرساليات المستشرقين الذين كان لهم سوق معرفي يوسم بفكر الإستشراق .