فهم السّلف: بين الدعاوى وحقائق
09-05-2015, 12:34 PM
فهم السّلف: بين الدعاوى والحقائق.
بسم الله الرحمن الرحيم, وبه أستعين, مصليا على النبي الأمين وبعد.
كثيرا ما يدّعي بعض المتحمّسين أنّ منهجه أو عقيدته مستمدّة من فهم السّلف الصّالح, غير أنّ هذه الدّعوى قلّما تثبت أمام حقائق البحث والتّقصي والاستقراء لفهم السلف الصّالح.
فمن السّلف الذين قصدهم بلفظه, وأيّ فهم عناه بقوله, وبأيّ منهج استقرأ هذا الفهم...؟
لا شكّ أنّها تساؤلات تحتاج كلّ واحدة منها إلى وقفة من صاحبها, وقفة متأنيّة وموضوعيّة, , دون تبنّي شعارات رنّانة لا تمثّ للواقع بصلة.
معلوم أنّ المقصود بالسّلف هو تلك القرون الثّلاثة المفضّلة. وأمّا المراد بفهمهم, فهو علمهم المستنبط من النصوص وطريقتهم في التعامل معها.
ولا يعلم حقيقة فهم السّلف إلا بتقفي الآثار, وتتبّع الأخبار, واستقرائها سواء كانت أقوال أو أفعال وأحوال وردت في موضع استدلال.
ويستدلّ لذلك بالنّقل والعقل: فمن النّقل قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } يقول ابن جرير الطبري في معناها: ((والذين سبقوا الناس أولا إلى الإيمان بالله ورسوله (من المهاجرين) ، الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم (والأنصار) ، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله (والذين اتبعوهم بإحسان) ، يقول: والذين سَلَكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، طلبَ رضا الله (رضي الله عنهم ورضوا عنه)), ويروي الطبري أثرا عن عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه أنّه مرّ برجل يقرأ: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، حتى بلغ: (ورضوا عنه) ، قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب! فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه! فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم! قال: أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! قال: لقد كنت أظن أنّا رُفِعنا رَفْعة لا يبلغها أحدٌ بعدنا! فقال أبيّ: بلى، تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) ، إلى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، وفي سورة الحشر: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ) ، وفي الأنفال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) ، إلى آخر الآية.(تفسير الطبري:ج14/434) .
أمّا من السنّة فما رواه البخاري من حديث عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» - قَالَ عِمْرَانُ: لاَ أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً - قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ». (البخاري:3/171, رقم: 2652).
وهذا الدّليل و إن دلّ على عموم الخيريّة, فلا شكّ أنّ خيريّة الفهم فرد من أفراد هذا العموم. ويؤكّدها قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم:(( في حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بني إسرائيل حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بني إسرائيل تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي)). (الترمذي:4/323, رقم: 2641).
أمّا شاهد العقل فيقضي برجاحة فهم الصّحابة رضي الله عنهم, فهم الذين شهدوا نزول الوحي, وخالطوا النبي صلى الله عليه وسلّم, وكانوا أعرف بلغته, ومقصوده, وأحواله, فأحوال المتكلّم يدركها من عايشه, إضافة إلى كونهم أهل اللسان, كما قال الإمام أحمد : فيما نقله عنه محمد بن أحمد الجوزجاني, قال:((كتَبَ إليَّ أحمدُ بن حنبل : أَنَّ تَأوِيلَ مَن تَأَوَّلَ القرآنَ بلا سُنَّةٍ تَدُلُّ على معنَاهَا أو مَعْنى مَا أَرَادَ اللهُ سبحانه منه, أو أَثَرٍ عن أصْحَابِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يعرفُ ذلك بما جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو عَن أصحَابِهِ, فَهُم شَاهَدُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم, وشَهِدُوا تَنـزِيلَهُ, وما قَصَّه له في القرآنِ, وَمَا عَنى به, ومَا أَرَادَ به, أَخَاصٌّ هو أَمْ عَامٌّ, فَأمَّا مَن تَأَوَّلَهُ على ظَاهِرِهِ بلا دَلالَةٍ من رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولا أَحَدٍ من أصحَابِهِ, فَهذا تَأوِيلُ أهلِ البِدَع؛ لأنَّ الآيةَ قد تَكونُ خَاصَّةً, ويكونُ حُكمُها حُكما عاما, ويكونُ ظَاهِرُها على العُمُومِ, وإنما قُصِدَتْ لشيءٍ بعَينِهِ, ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبِّرُ عن كتَابِ الله تعالى وَمَا أرادَ, وأصحَابُهُ رضوان الله عليهم أعلَمُ بذلك منا لمشاهدتهم الأمر, وما أريد بذلك). (أخرجه الخلال في السنة :4/23). قال ابن تيمية: ((فمن المعلوم أنّ من شافهه الرسول بالخطاب يعلم من مراده بالاضطرار ما لا يعلمه غيره, وأنّ من كان أعلم بالأدلة الدالة على مراد المتكلم كان أعلم بمراده من غيره, وإن لم يكن نبيا فكيف بالأنبياء؟)). يضاف إليه خلوّ أذهانهم من الفلسفات والسفسطات, والشبه العقلية, والشبه الكلامة, وصدق سريرتهم وسلامة فطرتهم, وسعة ذكائهم, سداد نظرتهم, وشدّة تأثّرهم بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم, وهو الكلام الذي ينطبق أيضا على تابعيهم, وتابعي تابعيهم, قبل أن تفشو المدارس الكلامية, ويفسد اللّسان, ويظهر اللّحن, ويقوى ساعد الفرق البدعيّة,
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:((منْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالا ، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيم)). (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: رقم 1097).
ويمكن تقسيم فهم السّلف إلى قسمين:
1- فهم مجموع السّلف: فهذا هو الإجماع, وهو حجّة, ولا يجوز الخروج عنه, ويكون ذلك ب:
أ‌- إمّا بأن ينقل التّواتر بأنّهم أجمعوا على ذلك الفهم. وهو إجماع قطعي.
ب‌- أن ينقل عن آحادهم ذلك الفهم, ويشتهر الأمر, ولا يعلم مخالف, وهو الإجماع السّكوتي .
وهاذان الفهمان, لا يجوز العدول عنهما, ومن خالف في ذلك فقد تلبّس ببدعة, إلا أن يكون ممّا يجوز أن تتجدّد فيه الأفهام, أو ما يستنبط من اللّطائف والإشارات, بشرط أن لا يخالف صريح معنى النّص, وأن يكون القائل به من الفقهاء والعلماء الذين لهم دربة وتحصّلت لهم ملكة الفهم.
2- فهم آحاد السّلف: وينقسم إلى ثلاثة أقسام هي كالآتي:
أ‌- ما علم فيه الخلاف: ومثل هذا الفهم يجتهد المجتهد فإن اطمأنّ له أخذ به, وإن اطمأنّ لما يقابله من الفهوم المخالفة, أخذ بأيّ منها, ولا يعدّ بذلك خارجا عن فهم السّلف مادام يقول بقول بعضهم.
ب- ما لم يعلم فيه خلاف مع عدم اشتهاره: وهذا الفهم يجتهد المجتهد في اعتباره, أو الخروج عنه إلى غيره, لأنّ الحجّة لا تقوم بفهم آحاد السّلف. لا سيما إن كان قد اقتبسه صاحبه من الإسرائيليات, وغيرها.
ت‌- الفهم الشاذّ: وهو ما أجمعوا على إنكاره, أو فشا أمر إنكاره, وعدم اعتباره, فلا يلتفت إليه, ويشنّع على من دعا إلى اعتباره. مع إحسان الظنّ بقائله من السّلف, والتماس العذر له, وحفظ كرامته كمسألة المتعة, وكرخص ابن عباس, وغيرها ممّا هو معروف. قال الإمام الذهبي - رحمه الله -: "ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهادِه في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قُمنا عليه وبدَّعناه، وهجرناه، لما سلم معنا ابن نصير، ولا ابن مندهْ، ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلْق إلى الحق، هو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة".
وهنا قد يتساءل سائل؛ ألنا أن نحدث فهما جديدا:
والجواب هو التفصيل: فإن كان هذا الفهم مما قام المقتضى لأن يفهموه ولم يفهموه, أو كان فهما مناقضا لما فهمه مجموعهم, فمثل هذا الفهم لا يعتدّ به, وصاحبه قد أتى ببدعة شنيعة, أمّا إذا كان غير مناقض لفهم السّلف, بل مندرج تحته بوجه من الوجوه, وقد توفّرت لصاحبه ملكة الفهم والاستنباط, فلا بأس, كأن يكون ممّا تتجدّد فيه الفهوم بحسب قيام مقتضى ذلك الفهم, أو كان من قبيل اللطائف و الإشارات التي يفتح الله بها على أوليائه, في كلّ عهد وحين, فلا ضير فإنّ القرآن لا تنقضي عجائبه, ولا يشبع منه العلماء –بشرطتوفر شروط الإجتهاد-.
من أخطاء الإلزام بفهم السّلف:
1- الإلزام بفهم آحادهم: من بين الأخطاء التي يقع فيها كثير من السلفيّين, في مسألة الإلزام بفهم السّلف؛ الإلزام بقول آحادهم, دون مراعاة الخلاف الحاصل, أو ادّعاء اجماعهم مع اشتهار أمر المخالف. ومن ذلك مسألة الخروج على الحاكم الظّالم مثلا فقد أنكر فيها ابن حزم على ابن مجاهد ادّعاء الإجماع بعدم جواز ذلك. ومثل محاولة الالزام بمذهب بعض السّلف في مسألة هجر المبتدع, دون مراعاة القول المخالف, والذي يجيز التعامل معه, ونصحه.
2- الخلط بين فهم السّلف وبين فهم أتباع أئمةّ المذاهب لا سيما الإمام أحمد بن حنبل:
إذا كان أئمّة المذاهب الأربعة, بل حتّى أولئك الذين اندثرت مذاهبهم كالأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم, لا يمثّلون إجماع أهل عصر, (مع فرض أنّهم وجدوا في عصر واحد), ولا ينحصر الخلاف في اختلاف أقوالهم, فإنّ كلام أتباع واحد منهم, من باب أولى في ذلك, فمعلوم أنّ أتباع الأئمّة قد فرّعوا عن أصول أئمّتهم ما لم يخطر ببال الأئمّة أنفسهم في الفقه والأحكام, وحتّى في باب العقيدة والسّلوك ومنهج التّعامل وغيرها من المسائل, وأعظم شيء زاده أتباع الأئمّة, هو تنزيل كلام الإمام منزلة النّص, والتعصب لرموز المذهب, وتكفير أو تبديع أو تفسيق مخالفهم, وحصر دائرة الخلاف في اختلاف أئمة المذهب, وامتحان النّاس بكلامهم, وهو ما جعل كثيرا من السلفيّين يجعلون كلام أئمّة المذاهب أصولا يوالى ويعادى عليها, ومن بين أشهر هؤلاء الأئمّة؛ الإمام أحمد بن حنبل ولعلّ أهمّ أسباب ذلك.
- موقف الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن: فقد جعله ذلك قطب أهل السنّة, ومرجعهم.
- تأخّر وفاة الإمام أحمد بن حنبل عن أئمّة المذاهب: ولا شكّ أنّ ذلك جعله يدرك المرحلة الذهبية للتدوين, ويدرك الفرق الكلامية بعد تشكّلها, فصارت فتاويه هي المعوّل عليها في هذا الباب.
- ورعه وتركه لأبواب السّلاطين: وهو أمر أضفى عليه الكثير من المصداقيّة.
- تمكّنه من علم الرّواية وعلم الجرح والتّعديل: صيّره أحد أبرز النّاس في نقد الرّجال.
- اعتماد تلامذته من بعده على الخلافة العباسيّة: لا سيما أيام القادر بالله, صاحب الاعتقاد القادري, وقيام محمود سبكتكين بنصرة الحنابلة, وامتحان النّاس بهم.
- اعتماد الحنابلة في ظروف كثيرة : على أساليب القمع الفكري, والتّشهير بالنّاس, وبثّ الدعاية المغرضة ضدّهم, قصد تحجيمهم وتقزيمهم, وصدّ النّاس عنهم.
وهي أسباب لا تخفى على من درس التّاريخ. (قد استفدت
من كتاب: ما بعد السلفيّة, والذي أرى أنّ صاحبه قد وفّق كثيرا في وضع الحدود بين فهم السّلف وبين فهم الحنابلة, وإنّما يوجّه له الانتقاد في عدم انتقائه لعنوان آخر أقل عنفا من عنوانه الحالي, و أظنّ أنّ الغرض الدّعائي هو سبب هذا العنوان).
3- الخلط الرّهيب بين فهم السّلف وبين فهم محرّري العقائد:
إنّ مصطلح السّلف له دلالة زمنيّة خاصّة بأهل القرون الثّلاثة المفضّلة, وهم يدخلون في أهل الحديث باعتبار أنّ أهل الحديث هم روّاة السنّة وحماتها, ولكنّ مصطلح أهل الحديث بات يطلق غالبا على مدوّني السنّة والمحتجّين بها, ومن أولئك محرّري العقائد بالأسانيد, والتي غالبا ما تنتهي أسانيدهم إلى طبقة الإمام أحمد ومالك والشافعي, ويمكن تصنيفها كموسوعة آثار عن أئمة وأعلام هذه الأمّة والتي تحكي مواقفهم, وأحوالهم, وتعاملاتهم. وهنا تجد أنّ كثيرا من السلفيّين مثلا يجعل مذهب السّلف هو عينه ما جاء محررا في كتب الخلال وأبي يعلى والمروذي والبربهاري والهروي وغيرهم من محرّري العقائد في مرحلة تدوين العقيدة النّظريّة.
4- جعل ردود أفعال السلف ومواقفهم الظرفيّة أصولا ثابتة:
وهذه أعظم المعظلات, وأقواها فالسّلف قد اعترضتهم كثير من النّوازل, فصدرت مواقفهم, بحسب المصلحة الظرفيّة الخاصّة, بعد الاجتهاد . بيد أنّ المدرسة السلفيّة المعاصرة, قد جعلت من اجتهاداتهم ومواقفهم أصولا ثابتة, فوقع الخلل بإهمال السياق والملابسات, ومحاولة تجسيد الموقف وبناء ردود الأفعال مشابهة لمواقف السّلف, رغم دخول عوامل ومتغيّرات, جعلت المصلحة التي قصدها السّلف منتفية, أو ضئيلة بالنسبة للمفسدة الطّارئة في وقتنا الحاضر, فصاروا يريدون أن يحلّوا مشكلات اليوم بحلول الأمس الغابر, في مسائل تقبل الاجتهاد والتّأصيل.
انظر مثلا كيف امتنع كثير من الصّحابة عن كتابة الحديث, وحين رأى التابعون وتابعوهم ظهور الكذب, وذهاب قوّة الحفظ قرّروا كتابة الحديث, فقد راعوا مصلحة حفظ السّنة, لاسيما مع انتفاء مفسدة اختلاطها بالقرآن. ومن هذا القبيل نهي السلف عن مجالسة القصاصين, ثمّ ظهور روايات عن الإمام أحمد وغيره بجواز ذلك للعوام, وأيضا رأيهم بجواز الخروج أيام الحرة ومع العلويين, وغيرهم, ثمّ عدولهم عن ذلك حين رأوا المفسدة, ومثلها هجر من وقع في بدعة وعدم مجالسته. حين كانت معالم الدّين قائمة, ثمّ لجوئهم إلى المحاورة والمناظرة كمناظرة ابن عباس للخوارج, وإجابات ابن عمر لسؤالات نجدة الحروري. هذا والله أعلم وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه أخوكم أمين كرطالي