أكثر ما يلفت الانتباه في أسلوب الأستاذ عمرو هو تلك الملكة التي حباه الله بها المتعلقة بقوة التأمل ودقة الملاحظة لديه، فلطالما نظر إلى الأمور من زوايا لم يسبق لي وأن سمعت أحدا يتحدث انطلاقا منها، كما أن لسان حاله يساير مشاكل العصر فتجد خطابه ملامس جدا لاحتياجات الأفراد خصوصا الشباب منهم، وبذلك فهو يضع أصبعه تماما على الجرح عندما يستقرأ الوقائع ويشخص المشاكل، مما جعله يكتسب بصمة متفردة عن من سواه. عندما تقرأ اكتابه "دعوة للتعايش" تشعر وكـأنك تحضر إحدى محاضراته، فهو يستعمل ضمائر المخاطب في كثير من الأحيان خلال حديثه، ويصور لك الحدث بشكل مميز وفق خطوات متناسقة ومنطقية بحيث يربطه بما قبله وما بعده، هذا الأسلوب يدفعك لتخيل الحدث واستحضار مشاهده أمامك، أقل ما يمكنني أن أقوله أن نفسي تأبى ترك هذا الكتاب كلما أمسكته بين يدي لمواصلة القراءة، وفيما يلي سأورد لكم بعض الفقرات لعلها تشعركم بمدى تميز الكاتب والكتاب:
"هناك كلمة جميلة سوف نستعملها في الكتاب، أحد العلماء يقول: الآن استطعت أن أرى بوضوح لأني صعدت على أكتاف الجميع يوم استمعت لآراء الجميع،..."
" سنيحث عن طريقة لنخلق مساحة مشتركة بنية التقارب، وبنية التآلف مع جارك وزميلك في العمل سنتفق هنا على مصطلحات، فعندما أقول كلمة الآخر، الناس تعتقد أني أتحدث عن الغرب، وأنا أقول لكم إن علماء النفس أقروا أنه أول ما يفطم الطفل، يصرخ لانفصاله عن الأم، معنويا وجسديا ونفسيا، ثم يسكن صراخه لأن هذه أول مرة يتعايش مع الإطار من حوله، ويبدأ التعايش مع أمه بطريقة جديدة، فالتعايش في علم النفس يبدأ مع الآخر الذي هو الأم، حتى الأم "آخر" في علم النفس. والقرآن –في الحقيقة- عندما تكلم عن الآخر، تحدث عنه في أمر غريب جدا وهو بين الإخوة، وأنا أريد سؤالكم سؤالا هل يعرف أحد ماهو أول درس علمه الله للبشرية؟ أول درس كان درس التعايش، ستنزلون إلى الأرض ولابد أن تتعلموا كيف تعيشون مع الآخر، والآية تقول عن ابني آدم عندما نزلوا إلى الأرض: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر...)، كلمة الآخر جاءت في القرآن رغم أنهما أخوان، ولكن اعتبر الثاني آخر لأنهما مختلفان في التفكير..."
"ستعلمك القصص القادمة كيف تتعايش وكيف تأخذ من مواردنا نحن، فإذا أردت بناء نهضة فلماذا لا أبنيها على البناء الذي بناه أجدادنا، لماذا أهدم الموجود؟ سأقص عليكم قصة لطيفة...كان هناك مركب في البحر في منطقة بين التقاء البحر والنهر والصيادون في المركب..نفذت المياه منهم وأرادوا الحصول على مياه عذبة وهم في وسط البحر ولم يلاحظوا أنهم في منطقة إلتقاء البحر مع النهر وتحتهم مياه عذبة، فأشاروا لسفينة قادمة من بلدة غريبة بعيدة، يقولون لهم أرسلوا لنا مياها، فقبطان السفينة الغريبة قال لهم أنتم تطلبون منا نحن؟ المياه العذبة تحتكم، وأنا أقول نفس الفكرة..المياه العذبة عندنا، المياه العذبة في تاريخنا"
"نحن اليوم يا مسلمون، يسبُ بعضنا بعضا دون أن نعرف ما يقوله الآخر، لأننا لانريد أن نتحاور أو نفهم، نحكم على الناس بالسوء دون مقابلتهم أو محاورتهم أو سماعهم، اعتمادا على ما يقوله الناس، هذا لا يجب لأن ألف باء التعايش أن تحاور وتسمع....التعايش هو العيش، كيف نعيش مع بعضنا البعض؟ كيف نفهم بعضنا البعض؟ كيف نتفاعل ونقبل الآخر؟ لا أقصد قبول أفكار الآخر وإنما قبول وجوده. كيف أبني جسورا لا حوائط؟ ما هو أدب الاختلاف وأدب الحوار؟ كيف ننظر إلى اختلاف البشر على أنه ميزة وليس عيبا؟ حكمة الله في خلقنا أن نعمر الأرض، كيف سنعمرها بأفكار واحدة؟ لا يمكن، إذا فالاختلاف ثراء للأفكار لتعمير الأرض، هذا هو التعايش."
يسرد الكتاب قصة الأئمة الأربعة مع واقع التعايش في تصرفاتهم وأفعالهم بدءا بالإمام أبي حنيفة أول مؤسس لمدرسة الفقة في الشريعة الإسلامية، حيث يقول عنه في احدى الفقرات:
" يقول الإمام الشافعي: (ما علمت في الارض أفقه من أبي حنيفة) وعند مجيئئه يقولون: (هذا عالم الدنيا). ذات مرة، دخل الامام أبو حنيفة على الامام المنصور فقال له: (يا أبا حنيفة ممن أخذت العلم؟ قال: من أصحاب عمر عن عمر بن الخطاب، ومن أصحاب ابن مسعود عن ابن مسعود، ومن أصحاب علي عن علي بن أبي طالب؟، فقال: كفاك قد استوثقت علما). لم يعرف أحد أن يأتي بعلم أكثر من هذا، ورغم كل هذا العلم قَبِلَ أن يُقال له أخطأت، ولما قيل له: كيف تقبل هذا، قال: قبلها عمر وهو على المنبر من امرأة. أرأيت جو الحرية والحوار؟ أتستطيع أن تسمع هكذا؟ نحن لا نحتمل أن يقول لنا أحد هذا خطأ، يضيق صدرنا، ونرغب في الرحيل، نحن لانحب أن يختلف معنا أحد، هذه هي ثقافتنا..."
"...هناك مثال آخر جميل ولطيف جدا: كانت الكوفة مقرا لسيدنا علي بن أبي طالب وهناك من هم بالكوفة متعصبون لسيدنا علي ويسبون عثمان بن عفان، وكان هنتك أحد الأشخاص بالكوفة يمشي ويقول: (عثمان كافر، غير مسلم). تخيل أن يقول أحدهم هذا عن سيدنا عثمان، وهل ينفع معه اقناع عقلي؟ لا، بل يجب استخدام التطبيق العملي معه. فماذا ستفعل معه يا أبا حنيفة؟ ذهب إليه أبو حنيفة وطرق بابه وكان الرجل مازال يقول: (كافر، غير مسلم). فوجد الرجل الإمام أبا حنيفة على بابه ففرح بشدة.
فقال له أبو حنيفة: جئتك خاطبا لابنتك.
قال: لمن؟
قال: لرجل شريف، عظيم النسب، كثير المال، سمح، كثير الأدب، جميل المحيا، عظبم العبادة.
قال الرجل: نعم يا إمام، ويكفي أنه من طرفك يا إمام.
فقال أبو حنيفة: غبر أنه فيه خصلة
فقال: وماهي؟
قال: غير مسلم.
فقال: يا إمام أتأمرني أن أزوج ابنتي لرجل غير مسلم؟ وكيف هذا؟
فقال: فكيف قبل عقلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنتيه لرجل غير مسلم؟؟ وذلك لأن عثمان بن عفان قد تزوج من بنتي النبي، رقية وأم كلثوم.
فقال الرجل: أستغفر الله، تبت يا إمام."
التعديل الأخير تم بواسطة قطر.الندى ; 25-11-2012 الساعة 09:21 AM