الآلة الحاسبة العلمية... أداة من أدوات التخلف والجهل
13-09-2014, 07:13 PM
كانت "سارة" من ألمع وأذكى أساتذة الفرقة البيداغوجية للمقياس الذي كنا ندرسه.. لكنها رحلت منذ أكثر ثلاث سنين واستقرت رفقة زوجها وابنها في كندا.. كانت ولاتزال فتاة تحمل عزيمة فلاذية لا تقهر.. كابدت الكثير من العناء وبذلت جهدا كبيرا لتتمكن من التأقلم هناك... واستطاعت بتوفيق من الله أن تشق طريقها هناك بخطوات ثابتة... قامت بالتسجيل في الجامعة لتبدأ الدراسة من الصفر في نفس التخصص الذي كانت تدرسه هنا في الجامعة.. وفي الوقت نفسه كانت تجري تربصا تطبيقيا بمكتبة تحضيرا للحصول على وظيفة داخل المكتبة الجامعية حسبما فهمت منها.
مؤخرا جاءت في زيارة لأهلها في الجزائر.. وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما اتصلت بنا وطلبت أن ترانا.. آاااااه كم اشتقنا للقائها وافتقدناها بيننا... فقمنا بتوجيه دعوة لها لمأدبة غداء في أحد المطاعم القريبة من الجامعة لتتمكن من زيارة مكان عملها القديم وتتفقد بعض الزملاء....المهم ما إن جلسنا حتى دخلنا في دردشة طويلة للاستفسار منها عن أحوالها وكيف استطاعت أن تتدبر أمورها هناك وبقينا على ذلك الحال لأكثر من ساعتين متتاليتين... من بين الكلام الذي قالته ولا يزال وقعه يحز في نفسي إلى يومنا هذا كلما تذكرته... أنه خلال اجرائها للتربص كلفوها بإنجاز مشروع معين.. وكان من بين الأدوات التي استعملتها لانجازه "آلة حاسبة علمية"... قالت سارة: نظرت إلي المعلمة والزملاء الذين كانوا معي بنفس الصف باندهاش شديد لما أخرجتها.. ثم سألتها المعلمة: هل مازلتم تستعملون هذه هناك في بلدك الذي جئت منه؟؟؟ فأجابتها: نعم.... فانفجر زملاؤها في الصف بالضحك... قالت سارة تمالكت نفسي وسألتها: هل يمكن أن توضحي لي ما المشكله في استعمال هذه الآلة؟.. فأجابتها تلك المعلمة: هنا عندما نعهد بمشكلة أو مشروع ما للموظف (وكذلك المتربص) كي يتكفل به ينبغي عليه استعمال الحاسوب وأن يصمم بنفسه برنامجا خاصا لمعالجة المشكل الذي بين يديه.. برنامج يسمح بمعالجة معطيات المشكل وإعطاء الحلول والنتائج الملائمة له.
قالت "سارة" أنهم يعتبرون الآلة الحاسبة العلمية من الأدوات التي توحي بالتخلف والجهل.. وقالت أيضا أنها اضطرت لأخذ دروس مكثفة في البرمجة لتتمكن من اتمام تربصها لأنهم في إداراتهم عندما يوظفون عاملا ينبغي أن يتقن ويجمع بين المهارات الادارية ومهارات البرمجة واستعمال مختلف تطبيقات الحاسوب... حينها تذكرت ما قاله لي أحد التقنيين في الإعلام الآلي بالجهاز الذي كنت أشتغل فيه... قال: اتصل بمكتبي أحد الموظفين الذي يعمل في الطابق السابع (إطار سامي) وطلب مني الصعود لأن حاسوبه لا يشتغل (مصلحة الإعلام الآلي تقع في الطابق الأول) قال فصعدت إليه وبعدما تفقدت الجهاز تبين أنه لم يشتغل لأنه لم يكن موصولا بالكهرباء!!!!!!
تطرقت "سارة" خلال حديثها معنا لجزئيات عديدة تصنع فارقا وهوة كبيرة في نمط المعيشة بيننا وبينهم... وفي كيفية استغلالهم لمواردهم الطبيعية والبشرية والمالية برشادة وحسن تدبير كبيريين... تحدثت عن أمور عديدة لكن... ما قالته عن "الآلة الحاسبة العلمية" كان أكثر شيء آلمني... عادت سارة لكندا وبقيت ندبة "الآلة الحاسبة" محفورة بداخلي.
لا يتعلق أمر الندبة أبدا بالانبهار أمام ما وصل إليه الغرب من تطور مادي وتكنولوجي.. فهذه جزئية يمكننا تجاوزها بسهولة –نسبية- إذا تظافرت الجهود واتقدت العزائم نارا لا تنطفي شعلتها أبدا حتى يتم بلوغ الغاية المرجوة.. فلدينا من الأدمغة والعباقرة والإمكانيات ما يمكننا أن نواجه به هذا التطور في شتى المجالات... إنما يتعلق الأمر بتضييعنا للدرب الصحيح الذي يوصلنا لأن نستحق وصف "حق خير أمة أخرجت للناس"...كلما نظرت للهوان والخزي الذي تعيشه أوطاننا وتناحر التيارات الاسلامية وعلماء الأمة والانبطاح الذي نعيشه في مختلف الميادين بتبعيتنا لأقوام أخرى تقفز إلى مخيلتي من جديد قصة "الآلة الحاسبة العلمية" فينفتح الجرح ويتجدد الألم.
لست أدري ما الحل!!! لكني على الأقل متيقنة أنه ليس في أن يتحايل المعلم في تقديم الدرس في قسمه ليدفع تلميذه لأخذ دروس خصوصية عنده ولا في أن يتجرد الطبيب من ضميره المهني وانسانيته ويتاجر في أوجاع المرضى أو أن يشرف على الحالات الطبية بلامبالاة واهمال يستحق عليه درجة الامتياز ولا في تهاون الطالب في تحصيله العلمي ليحصد نجاحه عبر ممر موسوم بعبارة "غشاش"... ولا في هروب الموظف من مكان عمله قبل انتهاء ساعات العمل.. ولا في تلهف الشباب لحصولهم على وظيفة دائمة في إدارات الدولة لنزيد في دائرة البطالة المقنعة ونرفع من معدلات التضخم وبالمقابل تعرف قطاعات الانتاج التي تعطي قيما إضافية حقيقة وتخلق الثروة شللا رهيبا تتضح ملامحه بوضوح من خلال سلع الأجناس الأخرى التي عوموا بها أسواقنا.. فنحن كما لا يخفى على الجميع قوم لا نأكل ولا نلبس ولا نتداوى إلا بسلع أقوام غيرنا...
لست أدري ما الحل!!! ولكني متيقنة بأنه لا يكمن أبدا في التناحر الذي نراه بين السلفيين والاخوان ولا في إراقة دماء المسلمين بأيدي بعضهم البعض مثلما يحدث في سوريا وليبيا والعراق، ولا في دعم الصهاينة وطعن وخيانة أسود المقاومة في غزة من طرف حكام وعلماء الخزي والعار ولا فيما تفعله داعش ولا فيما يتنطع به بعض الذين قال فيهم أحمد مطر ذات يوم:
لَيستِ الدّهشةُ أَنّا
لَمْ نَزَلْ نَقبَعُ في أسفلِ قاعْ .
بَل لأِنّا
نَحسَبُ العالَمَ لا يَرقى إلى (وَهْدَتِنا)
خَوْفَ دُوارِ الإرتفاعْ !
من كان منا يعتقد بأنه قد طال الثريا بأفكاره ومنهجه والطائفة التي ينتمي إليها وبأن غيره (من بقية الأمم أو بقية طوائف المجتمع الاسلامي) لا يرقى للوصول إلى مكانته خشية التعرض لدوار المرتفعات... رجاء فليستيقظ ويضع قدميه على أرض ثابتة ليقف على حجم الدمار والخراب والخزي والهوان الذي يحيط بنا من جانب... رجاء فليستيقظ لنلملم ما يمكن لملمته ولنحاول إيجاد الدرب الصحيح الذي أضعناه منذ زمن طوووووويل... درب يستحيل أن تتضح معالمه ما لم يتوقف كل من عند نفسه ليحاسبها ويقوم اعوجاجها وما لم نتعلم كيف نتعايش مع بعضنا البعض... بكل اختلافاتنا ومشاربنا وحتى عثراتنا وأخطائنا.