مجزرة الديمقراطية الفتية في موريتانيا
10-08-2008, 02:00 PM
الانقلاب العسكري في موريتانيا / مجزرة الديمقراطية الفتية ؟!
استفاقت شعوب العالم وخاصة في منطقتنا العربية صبيحة يوم الأربعاء 6/8/2008 على خبر الانقلاب العسكري في موريتانيا ،حيث أقدم جنرالات المؤسسة العسكرية في مقدمتهم الجنرال "محمد ولد عبد العزيز" قائد أركان الحرس الرئاسي والجنرال "محمد ولد الغزواني" قائد أركان الجيش ، أقدموا على إنهاء حكم رئيس الجمهورية المورتانية المنتخب ديمقراطيا منذ سنة ونصف "سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله" ، الذي أعتقل رفقة رئيس الحكومة الشرعية المنبثقة عن انتخابات تشريعية شهد الجميع أنها كانت نزيهة إلى حد كبير جدا " يحي ولد أحمد الواقف"، الانقلابيون شكلوا ما سموه (مجلسا للدولة) يتكون من كبار العسكر ليحل محل السلطة الشرعية في تسيير دواليب الدولة وأعلنوا عن حكومة تصريف أعمال يقودها طبعا مهندس العملية الانقلابية الجنرال محمد ولد عبد العزيز .
مرة أخرى يؤكد العسكر في مورتانيا أنهم لا ينظرون إلى المشهد السياسي في بلدهم إلا من خلال فوهات المدافع والبنادق والرشاشات ،ليحققوا بذلك رقما قياسيا جديدا في العالم العربي من حيث الانقلابات العسكرية ،مرة أخرى يثبتون للعالم أجمع أنهم وحدهم أصحاب القرار الفعلي في "بلاد شنقيط" ولسان حالهم يردد : " نحن السلطة والسلطة نحن " على نهج " أنا ربكم الأعلى ولا أريكم إلا ما أرى " ،أما سواهم من المؤسسات المساة زورا دستورية على شاكلة البرلمان ومجلس الشيوخ فما هي في حقيقة الأمر سوى دمى تحركها أيادي من خلف الستار ،أما ممثلوا الشعب المنتخبون ديمقراطيا فمجرد أشياء خفيفة الوزن يميلون حيث تميل رياح العسكر التي لا تعرف وجهة محددة.
العملية الانقلابية جاءت لتؤكد أن الصراع الذي كان يبدو للبعض ظاهريا بين الرئيس المنقلب عليه ولد عبد الله وبعض من كانوا يسمون أنفسهم ممثلي الشعب من حزبه الحاكم "عادل" والذي انتهى بانسحاب العشرات منهم وعزمهم على تشكيل حزب سياسي جديد معارض إنما كان في حقيقته عملية لي أذرع بين الرئيس الذي حاول فيما يبدو إبعاد المؤسسات السياسية عن الأصابع العسكرية وبين أصحاب الأحذية الغليظة الذين خلقوا له أزمة سياسية نادرة الحدوث ضد نواب الأغلبية الذين يفترض فيهم أن يشكلوا الدائرة المقربة منه والتي تسانده وتقف إلى جانبه عند حدوث الأزمات السياسية لا أن تقف في وجهه ،ولما تأكد ولد عبد الله أن كبار الجنرالات هم الذين يضعون العصي في دواليب العملية السياسية حاول استعمال سلطاته الدستورية فقرر عزلهم مرة واحدة وأصدر أمرا رئاسيا باقالتهم لكن البيان رقم واحد عاجله قبل أن يقوم من مقامه حيث أعلنوا عن العملية الانقلابية التي أنهت تجربة كانت تعتبر نموذجا ديمقراطيا نادرا في منطقتنا العربية التي لاتزال أغلبية أقطارها مرتعا للحكم الفردي المطلق أو القبلي أو الديمقراطي الصوري في أحسن الأحوال.
الغريب فيما حدث في بلاد شنقيط هو أن لا أحد من الانقلابيين كانت له الشجاعة والاقدام على تلاوة بيانهم رقم واحد الذي أرّخ لعودة أصحاب الأحذية الغليظة والذي تم تكليفه بهذه المهمة هو وزير الثقافة والاتصال في الحكومة المنقلب عليها تصوروا وزير في حكومة شرعية منبثقة عن انتخابات نزيهة وشفافة إلى أبعد الحدود بشهادة الكل، يتقدم أمام التلفزة التي يحاصر الجيش مبناها وقد أقال مديرها العام لا ليندد بالعملية الانقلابية ويعلن عن وقوفه إلى جانب الشرعية المغتصبة بل ليتلو بيانا باسم العسكر الذين اعتقلوا رئيسه ورئيس حكومته والكثير من أصدقائه منهم النواب ووزير الداخلية والعديد من القادة الأمنيين ؟!في حين كانت النسوة الموريتانيات تصرخن في شوارع نواكشوط تحت لهيب حرارة شهر أوت اللافحة ضد الانقلاب والانقلابيين وتلك إحدى مفارقات الزمن الانقلابي الذي تعيشه الشعوب العربية اليوم.
ما يمكن التوقف عنده أيضا فيما حدث يتمثل في موقف بعض النخب المثقفة في بلاد شنقيط ومنهم من كانوا ضحية العملية الانقلابية كما هو حال بعض البرلمانيين المنشقين حيث لم يتورع أحدهم عن وصف الانقلاب العسكري بأنه تدخل موفق من الجيش لانقاذ البلاد من الحكم الواحد؟في حين أشار آخر أن الانقلاب قرار مفهوم ومقبول بالنسبة للنواب؟ولم يتورع آخر عن التصريح أن الرئيس هو من دبر للانقلاب على نفسه وما حدث هو صنيعة يديه؟بل إن بعض من يطلق عليهم قيادات سياسية سارعت إلى التطبيل والتزمير والتهليل باسم الانقلابيين وكلفوا أنفسهم عناء إخراج الغوغاء إلى الشارع ابتهاجا باجهاض التجربية الديمقراطية الوليدة ؟ إنها هواية الركوع عند أقدام الجلاد ، وكان الوحيد الذي غرد خارج السرب هو المتحدث باسم الرئاسة المغتصبة "عبد الله مامادو" الذي تخندق في صف الشرعية حيث أكد في تصريح علني تناقلته وسائل الاعلام في نفس اليوم: " ما حدث في موريتانيا هو انقلاب عسكري منظم من قبل متمردين أقالهم الرئيس ولد الشيخ عبد الله طبقا للسلطات الدستورية المخولة له باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة في البلاد ".
بالنسبة للخارج تناقلت وسائل الاعلام إدانات دولية لمجزرة الديمقراطية الفتية في موريتانيا لكننا لاحظنا صمت أهل القبور الذي أطبق على شفاه ما يسمى الحكام العرب حتى أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء الاستفسار عن مصير زميلهم الرئيس الشرعي المنتخب المنقلب عليه ،واكتفوا ببيان هزيل لا يساوي قيمة الورق المكتوب عليه صادر عن هيكلهم العظمي المسمى (جامعة عربية) ،ونحن نتفهم هذا الصمت بل نضيف أن القوم كانوا يتمنون الفشل الذريع لتجربة موريتانيا السياسية لأنها فيما يبدو أحرجتهم كثيرا وشكلت نقطة ضوء في سماء أنظمتهم المتكلسة التي تحكم رقاب البلاد والعباد بقوة الحديد والنار منذ عقود.
سواء كان ما حدث للرئيس المنقلب عليه يدخل في إطار صراع القوى الدولية الكبرى أو أنه ذهب ضحية سياساته الخاطئة ومحاولته الانفراد بالحكم والفساد المالي لأفراد أسرته مثلما يروج معارضوه ،إلا أن الأكيد أن حلم الموريتانيين بانتقال مقاليد الحكم إلى المدنيين بعد سيطرة العسكر منذ سنة 1978 تاريخ أول انقلاب عسكري أطاح بالرئيس آنذاك المختار ولد داده هذا الحلم تحول إلى سراب حيث لم يتجاوز السنة ونصف وقد تبخر مع مياه المحيط تحت تأثير حرارة شهر أوت اللافحة , والأكيد أيضا أن أصحاب الأحذية الغليظة قد عادوا هذا الصيف إلى حكم بلاد شنقيط مباشرة ودون وكلاء .
نختم بمفارقة أخرى حيث خرج زعيم الانقلابيين بعد يوم من اغتصاب السلطة الشرعية ليعلن أن المؤسسة العسكرية هي التي أتت بالديمقراطية وتتعهد بالحفاظ عليها وعلى القانون والعدالة والديمقراطية وبالتزامن مع ذلك كانت القوى الأمنية تفرق مسيرة سلمية خرجت في شوارع نواكشوط للتنديد بالانقلاب ومساندة الشرعية ، غريب أن يجد البعض ما يربط بين الديمقراطية والعدالة والقانون من جهة والقمع الوحشي باستعمال العصي والغازات المسيلة للدموع وتلك مفارقة أخرى من مفارقات الزمن الانقلابي الذي نعيشه اليوم في عالمنا العربي.

جمـــــــــــــاعي لخضــر / ولاية تندوف