اللِّباس بيْن الذَّوقِ والالتِزام
06-07-2015, 10:51 AM

لقد قرأتُ كثيرا من المواضيع المَنشورة في الصّحافة الوطنية حول موضوع الحِجاب، ويَبدو لي أنَّ النِّقاش حَول اللِّباس خرجَ في بعض صُوَره إلى منطق ردِّ الفِعل، فَغُمَّ بذلك على كثير من النّاس الرافضين للحجاب خاصَّةً، الدَّورُ الحضاري للِّباس، وعلاقَتُه القوِيَّة بالأُطُر الفِكرية والأيديولوجيا التي يَتبنَّاها مُجتمعٌ ما، وتفَكَّكَت عندهم الرَّوابط الدّالة على الانسجام الحضاري للفَرد مع ما يُؤمِن به من خلال طريقة اللِّباس، وهكذا تشتَّتت الشَّخصية بَين ثقافةٍ بلا زِيٍّ يُعبِّر عنها، أو زِيٍّ بلا ثقافةٍ أو فَهمٍ لِما يَدُلُّ عليه، وإنَّ النِّقاشات الصَّاخِبة مع التَّمَترُس المُسبَق بأفكارٍ مُعيَّنةٍ والاعتصام بها، قد تَحرِمُنا إِمكانيةَ استخلاصِ الصَّواب من الآراء المُخالِفة، فوَجَب علَينا استِردادُ السَّيطرة على حِواراتنا التي أخذَت تَنزَلِق إلى مَعارِك جانبية.

لعلَّ الهُجوم الذي يتعرَّض له حجاب المرأة المُسلمة مِن الداخل و الخارج، هو إحدى نتائج التَّطرُّف المُستشري في صفوف الكثير من المُتحدِّثين باسم الإسلام، جماعاتٍ أو فُرادى، ولذلك فإنَّ النِّقاش حول حُرية المرأة الجزائرية أو غيرها في ارتداء ما تشاء من اللِّباس، أو إلزامها بالحجاب، هو نقاشٌ بيزنطي قد لا نَخلُص منه إلى نتائج مُرضِية مع تَمسُّك كُلّ طرف برأيه والمُنافَحة عنه، بعيدا عن أيِّ استعداد لِتَقبُّل الرأي المُخالف إذا بدا صوابه، كما أنَّ الرافضين للحجاب يعلمون أنَّه واجبٌ بنصٍّ قُرآنيٍّ صريحٍ واضح، وقطعي لا يُمكِنُهم رَدُّه، ولذلك عَلَينا أن لا نَستهلِكَ مزيدا من الوقت والجُهد في تبيين مَحاسِن الحجاب وَوُجوبه، وإدانة السُّفور والتَّعرِّي وأنصارِه، بينما هُم بعيدون عن فَهم حِكمة الإسلام في اللِّباس، وقد رقَّ الدّين وقلَّ الالتزامُ به، والأَوْلى رَفعُ مُستوى الالتزام بالدِّين، والفرقُ بين الحجاب و السُّفور أَوضح من أن يُوضَّح، وقد تحدَّثَت في الأيام الماضية بعضُ وسائل الإعلام العالمية عن حادثة بَدت غريبةً حتى عند الغربيين، ذلك أنَّ فتاة أسترالية في العقد الثالث أُدخِلت المستشفى في حالة حرجة بسبب ارتدائها سروالا ضيِّقا، ممّا أدّى إلى تَعطُّل سَريان الدِّماء بشكل طبيعي في رِجلَيها فسقطت في الطريق العام، لأنَّها أصبحت عاجزة عن المَشي. لعلَّ العُدولَ عن أُسلوب الهجوم والهجوم المُضادِّ أَجدى لِتبيُّن الصَّواب والوصول إلى الحقِّ.

إنَّ هذا التَّركيز المُفرِط على مسألة الحجاب في مُجتمعنا كثيرا ما أدَّى إلى نتائج عكسية، وجَعلنا نُهمِل قضيةً أهَم، وهي قَضية اللِّباس وفلسفته في الإسلام، ومدى انسجامه مع ثقافتنا، واللِّباس هو شأن المرأة والرجل لا المرأة وحدها، وقد يكون هذا من الأسباب المُهمَّةِ التي جعلت شبابنا اليَوم فريسةً سَهلةً للموضة الغربية، فهُم لا يَعرفون أنَّ الرَّجل عليه هو الآخر ضوابط تَحكُم تَمظهُرَه، وأمام هذا التَّردِّي الكبير في لباس الشباب ونُزوع كثير منهم نحو التَّأنُّث، يَبدو النِّقاش الذي كان مُسَيطرا على عُقول الشَّباب المُتديِّن في سنوات مَضت حول إسبال الثَّوب وتَقصيره، يبدو اليَوم نقاشاً راقيا جدّاً بالمُقارنة مع ما نُجَرُّ للحديث عنه بخصوص السراويل المُمزٌّقة أو الهابطة التي لا تَستُر عَورةً و لا تَحفَظُ مروءة. تكادُ معايير الجمال في شأن المَظهر و اللِّباس تتماهى عند الجِنْسَيْن، وقد مضى عليْنا وقتٌ كان الذَّوق العامُّ يأبى على الرّجل أن يلبس ألبِسةً ذات ألوان مُعيَّنةٍ لأنَّ تلكَ الألوان أليَقُ بالطرف الآخر، وكذلك الشَّأن بالنِّسبة للمرأة، وهذا ما لاحظَهُ الدُّكتور أحمد الأبيض في كتابه "فلسفة الزِّي الإسلامي" حين قال: " إنَّ الزِّي الإسلامي رغم إيماننا بكَونه في مُستواه الحضاري المَنشود لا يقتَصِر على المَرأة دون الرَّجُل، ذلك أنَّ الرَّجُل العربي المُسلِم تماهى في لِباسِه الآن مع الرَّجُل الغَربي، بل لقد استساغَه، في حين بَقِي الزِّيُّ الإسلامي حِكراً على المَرأة، ونحنُ حين نُثير هذه المسألة فليس لِتفجير قَضية وهمية مُفتَعَلة، بل لإثارةِ إشكالٍ نَتعمَّد نحن الرَّجال إلى تجاهُله". وأمام تنامي دعاوى المُساواة والحُرية، فمِن الطبيعي أن تتساءل المرأةُ: لماذا لا يُنكَر على الرَّجل لباسُه الغربي و يُنكَر على المرأة؟ فهل نحن مُطالبون اليوم بدعوة الشّباب إلى احترام تقاليد اللِّباس بعدما كان اهتمامنا مُركَّزا على المرأة؟ كثيرٌ مِنّا نسيَ أنَّ لكلِّ مجتمع ثقافته في اللِّباس، بل في المجتمع الواحد تتعدَّد أنماط اللِّباس، فإخواننا في الجنوب يَختلِف زيُّهم عن أهل الشمال، والمرأة القبائلية لباسها مشهور لِشدَّة تميُّزه، فلماذا نُصرُّ على اتِّباع الغَرب في أَنماطه، إلى حدٍّ تعرَّت فيه المرأةُ بما يخدش حياء المُجتمع الذي لا يزال يتبنى خُلُق السّتر والحياء رغم كلِّ هذا الانفتاح، وإلى حدٍّ لَم يَعُد فيه لِألبِسة الشباب ضابط إلّا الوُلوع بالتَّقليد والغرابة والتَّمرُّد على الثقافة التي يُؤمن بها!

إنَّ اللِّباس ليس مسألة ذوقٍ ابتداءً، بل هو مسألة التزام، التزامٍ بالسِّتر أوَّلا، فَهوَ حاجةٌ إنسانيةٌ منذُ آدم عليه السَّلام، ثم هو خُلق إسلامي يتغلغل في كُلٍّ شؤون حياتنا بطُرُقٍ مُختلِفة، يَعضُدُه خُلُق الحياء وهو شُعبَةٌ من الإيمان، ويَسري في حياتنا كُلِّها أيضا، ومبدآ الستر و الحياء كافِيان لو التزَمناهما بردِّ الأُمور إلى نِصابها، ثمَّ إنَّ اللِّباس التزامٌ بثقافةٍ ما، والعَربي لا يزال إلى اليوم يُصوَّر في الثَّقافة الغربية بلباسه المعروف، إذ هما فيها مُتلازمان، ولعلَّ الرُّسوم المُسيئة للنّبي صلى الله عليه وسلم تُؤكِّد ذلك، وكذلك الأفلام الأمريكية، وهل يقبَل مُجتمعُنا بأن يرتديَ فردٌ منه الزِّيَّ اليهودي بدعوى الحُرِّية؟ إنَّ اليهودَ أنفسَهم لا يستطيعون ذلك، كما أنَّ كثيرا من المِهن لها أزياءٌ خاصةٌ بها، كالمُحاماة، والقضاء، وأسلاك الأمن بأنواعها، والطِّب، وغيرها، فيُلزَم كلُّ مُنتسِبٍ إلى مِهنةٍ بالتَّقيُّد بزيِّها إذا كان لها زِيٌّ مَعروف، فالمسألة لا شأن لها بالحُرية ابتداءً بل بالالتزام، وبعدَ هذا يأتي الذَّوقُ لِيتحرَّك في حدود الالتزام، ويَنضبِط به، والحاصلُ عندنا أنَّنا نريد أن نضبط الالتزام بالذَّوق، وهذا لا يَستقيم، لأنَّ الذَّوق يختلف من شخصٍ لآخر، ومِن وَقتٍ لآخر، وهو شديد التَّغيُّر لا يكادُ يثبُتُ على حال، والسَّراويل المُمزَّقة والمُرقَّعة التي يتهافَت عليها شبابُنا اليوم، كانت في وقتٍ سابق لباسَ الفُقراء، وهي اليَوم موضة عالمية! وإنَّ فلسفةَ الزِّي في الإسلام لَتَتَّسع حتّى تكون فَلسَفةً لِتَمَظهُر الفَرد في مُجتمَعه، فَيَضبط آداب الحديث والمَشي والجلوس وغيرها، وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أبي دُجانة حين رآه يتبختر: "هذه مِشيةٌ يُبغِضُها الله و رسوله إلّا في هذا المَوطن" وكان مَوطنَ حرب، وفي القرآن قولُه تعالى:" ولا تَمشِ في الأَرضِ مَرحا"، وفي سياقٍ آخَر قال تباركَ وتعالى: " فلا تَخضَعنَ بالقَوْل" وغيرُها كثيرٌ جدّاً.

إنَّ احترام أَدبيات الثقافة التي نتبنّاها، وفَهمَ فلسفة اللِّباس في الإسلام وأُسُسها، وفَهم الدَّور الحضاري للزِّي وعلاقَته بِمجتمعٍ ما، أو مَنطِقةٍ ما، أو حِقبةٍ تاريخيةٍ ما، كُلُّ هذا من شأنه أن يَضبط شيئا من الفَوضى السائدة عندنا، والمُشكِلةُ التي تَعترضُنا هنا هي أنَّ شَبابنا لا يَقرأ حتى يُمكنَه أن يَفهم. و إذا كانتَ الشَّركات العالمية تُحقِّق أرباحا هائلةَ جرّاء استثمارها في أسواق الألبِسة، فهذا مفهوم لأنَّ ثقافتنا لا تَعنيها، لكن كيف لتُجارٍ ورجال أعمال مُسلمين يستثمرون في أزياء العُري، ويبيعون ألبِسةً خارمةً للمروءة؟ ثمَّ يَتنصَّلون من كُلِّ مسؤولية، وعُذرُهم هو السّوق والمُنافسة التي تَقتَضيها، وهذه مُشكِلةٌ أخرى جَعلت اللِّباس مِحورَ منافسة اقتصادية مَحمومة، ومِن ورائِها وسائلُ تَرويجيةٌ هائلة، فمتى يَعي شبابُنا ونساؤنا أنَّ اللِّباس ليس قضيةً دينيةً فقط، وإنَّ الدَّعوة للحجاب هي أيضا حربٌ اقتصاديةٌ على هذه الشَّركات العالمية وفروعها، وكذلك الدَّعوةُ إلى نبذ الألبِسة الرِّجالية الخارمة للمروءة، وإنِّي أرجو من أدعياء الموضة و الحرِّية أن لا يفصلوا مسألة الزِّي عن الروابط الثقافية المُتَّصلة بها.
عبد العزيز حامدي