لِنحترمْ لُغتنا
24-06-2015, 11:40 PM

لا يفتأ الحديث عن اللغة يتجدّد في كلّ زمان ومكان، وتبقى قضاياها ومشاكلها مثيرا مستمرّا للنقاش والبحث، بناءً على أهمِّيتها وقيمتها في بناء الإنسان، وتكوين هويته التي تُميِّزه عن الآخرين، ولذلك تُصرّ الكثير من المناطق في مختلف أنحاء العالم على التعامل بلغاتها المحلية، وهذا من سمات الاعتزاز، ودلائل الوعي الحضاري بقيمة اللغة في الحفاظ على هوية صاحبها، وعندما تكون اللغة مهدّدة بالانحسار والتآكل تكون أكثر حاجة لأهلها، الذين ينبغي لهم أن يكونوا أكثر حساسية، وأشدّ يقظةً وأقوى تنبُّهاً لأسباب التآكل ومنافذ الخطر الداخلية، لأنّ الحَذِر قد يُؤتى من مأمنه.
ومِن أكثر الثّغور خطرا على العربية عندنا، ثَغرُ القواعد التي تتأسّس عليها اللغة، فهي المنطقة الأكثر هشاشةً وضعفا أثناء استعمالنا، مِن فَرْط ما لحِقها من هجمات متوالية وضربات قوية منذ زمن طويل، وبعد أن كانت مِن الحصانة والمَنَعة بحيث لا يقتحمها إلّا المُسلّحون بالعِلم، أضحت اليوم مُباحةً لمن شاء أن يعبث ويلهو، لأنّها تحرّرت أخيرا من سُلطة العلماء! يدفعُني إلى هذا الحديث ما أسمعه يوميّاً وأقرأه من تراكيب لغوية مُستحدَثة، لا يُكلّف أصحابُها أنفسهم عَرضَها على القواعد المعروفة لاختبار سلامتها، مثلما يفعلون مع الفحص التقني للسيارات مثلا!ولا يستشيرون فيها أهل الاختصاص المَوثوقين، لأنّ هذه اللغة لا بواكيَ لها! والقضية هنا بعيدة عن تُهمة الانغلاق اللُّغوي، السّهامِ الجاهزة دوماً في جِعاب أصحابها، ولا علاقة لها أيضا بالصِّراع الأيديولوجي بين المُعرّبين والمُفرنَسين، ولكنّي أنظر إليها من باب: احترامُ اللّغة، احترامٌ للذات.
ومِن أغرب هذه التراكيب المُستحدثة قولُهم في حالة التمثيل: " تمّ تكريم عِدّة عُلماء في صورة فلان وفلان.."، فتركيب " في صورة" والذي يقصدون به التّمثيلَ كقولهم :" ...مثل فلان وفلان"، هو ترجمةٌ حرفيةٌ سَمِجةٌ للتركيب الفرنسي: "…à l’image de…"، وقد بدأ هذا التركيب يشقّ له طريقا إلى بعض القنوات الإخبارية الخاصة في الجزائر، على سبيل البث التجريبي، والسؤال الذي أطرحه عليهم: ما الدّاعي إلى هذا العبَث والاعتداء وفي العربية ما يُغني و يَكفي؟! وهل يَقبل الفرنسيون أن يفعلوا بلُغتهم مثل هذا الصَّنيع؟! إنّ للغة الفرنسية قواعدُها التي يحرص كثيرٌ منّا على احترامها وتَحرّي الصّواب فيها، ويجعلون من يُخطئ فيها أُضحوكةً يتندّرون بها في مجالسهم، وللإنجليزية قواعدها وأساليبها التي ينبغي التوقّف عندها، وللعربية أيضا طُرقها في التعبير وأساليبها الخاصّة بها، فإن عجزَت عن الوفاء بالحاجة كان للمسألة وجهٌ آخر، أما وقد حفِلت العربية بأدوات التّشبيه وطُرق التمثيل، فما الدّاعي إلى إقحام هذا التركيب السّيء الذي لا يتوافق مع خصائص العربية؟ ولْنُلاحظ هنا أنّ الحرف "في" له عشرة معانٍ هي: الظرفية الزمانية والمكانية، المصاحَبة، التعليل، الاستعلاء، مرادِفة لكل من الباء ومِن وإلى، المقايَسة، التوكيد، وتأتي زائدة للتعويض، ولا تأتي أبدا للتمثيل ولا للتشبيه.وأمّا لفظ "صورة" فقد أُقحِم إقحاما في هذا الموضع، وحُمّل معنى لا يتحمّلُه في العربية، والنتيجة هي تركيب مِن السّوء والفساد بمكان عظيم، ولا يؤدّي في العربيةالمعنى المقصود الذي يؤدّيه في الفرنسية، أفلا يسيء هذا للعربية أكثر ممّا يُفيدها، إنْ كان فيه من الفائدة شيء؟ ثمّ إنِّي أتساءل: هل استُشير المجلس الأعلى للغة العربية في هذه المسألة؟ فإن كان، وأجاز ذلك، فليُعلِن هذا للمختصّين حتّى يكونوا على بيِّنة من لغتهم، ويُدرِّسوا هذا التركيب الجديد للناشئة في المدارس وإلّا، فواجبه أن يتدخّل ولا يترك الحقل اللّغوي وَعْر المسالك، مُباح الحِمى حتى تتغيّر اللُّغة ونحن غافلون. وأمّا تأثّر اللغة العربية بلُغات أخرى، فهذه مسألة لها أوجهٌ لا تخفى، ومنذ زمن بعيد، إذ أخذت من الفارسية والرومية والحبشية والسريانية وغيرها، لكنّها مسألةٌ لها ضوابطٌ تحترم المَسلَكَ العربيَّ في التعبير والتركيب.
إنّ الأمَّة التي تحترم نفسها هي التي تحترم لُغتها، أمّا عندنا فقد صارت العربية - وهي لسان هُويّتنا- مِن سَقط المَتاع، يُعبَث بها في وسائل الإعلام، وعلى منابر الجُمعة، وفي مُدرّجات الجامعات، وفي المؤسّسات التربوية والإدارية، وفي لافتات المَحلّات، وعلى ألسنة القادة والزعماء،فمتى نحترم لغتنا؟
عبد العزيز حامدي