كشف المناهج الخفية و بيان المناهج الشرعية من قضايا الجرح و التعديل
16-04-2009, 10:18 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
كشف المناهج الخفية و بيان المناهج الشرعية
من قضايا الجرح و التعديل
ذم أشباه القضاة بعدم التفريق بين جرح العلماء وجرح الرواة

الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده،وبعد
منذ مدة صدرت بيانات تحذيرية من هنا وهناك تجرح بعض مشائخ السلفيين الفضلاء من أمثال الشيخ أبي الحسن السليماني،و علي حسن الحلبي، والمغراوي ،و أبي إسحاق الحويني و غيرهم[1] .
فكان الواجب على طلبة العلم ،ومن يدعي لنفسه حظا من العلم و الإنصاف النظر في تعليلاتهم بميزان الشرع، ووفق قواعد الجرح و التعديل، لا إحداث قواعد جديدة أو التمسك بعبارات المدح و القدح خرجت بسبب اختلاف الفهم، وعدم الإحاطة الموضوعية بالقضايا المتنازع حولها.
ومعلوم أنه لا يجوز معاقبة الناس و التحذير منهم بدون دليل شرعي صحيح، ومن اخذ بالأحكام بدون أدلتها الشرعية فهو من الظالمين الجاهلين الذين يحبون أن تشيع ما يشبه الفاحشة في أهل العلم و طلبته.
و لصد هذا العدوان على الشريعة المتمثل في اختراع أسلوب جديد في الجرح و التعديل يعتمد الحكم بدون دليل مسبق،ويخلط بين قواعد جرح الرواة وقواعد جرح العلماء أذكر التفاصيل التالية :
يخلط كثير ممن يدعي لنفسه الدراية بعلم الجرح و التعديل بين مسألتين جوهريتين تتطلب كل منهما كفاءة و تخصصات مختلفة، ففي حين يكفي الكلام على الرواة تجريحا و تعديلا العلم بطبقات الرواة و الأسماء و الألقاب و الكنى وما قيل فيهم في كتب التراجم و الرجال، مما يتعلق بعلم الجرح و التعديل، لان المترجم لهم يحتاج إلى شيئين اثنين: معرفة ضبطهم و عدالتهم، ومتى تحقق ضبطهم لم يعتبر الاختلاف المذهبي خارما لعدالتهم إلا في حدود مشروطة مضبوطة ،وهو بحث رواية الداعية إلى بدعته ،وهنا أكثر الذين منعوا الرواية عنه منعوها من جهة عدم التشييخ لا من جهة الثقة، فقد روى أئمة السنة و على رأسهم صاحبا الصحيحين عن مبتدعة دعاة إلى بدعهم، وهذا بحث فصلته في كتابي"المنهج المنير في مسائل الهجر و التحذير" ،و أفضل منه كتاب العلامة المعلمي"التنكيل" و"شرح العلل"لابن رجب الحنبلي.
أما من يريد جرح العلماء ليحكم عليهم إن كانوا مبتدعة أم لا؟ فإنه يحتاج أولا التمكن في موضوع النزاع، فإن تعلق الموضوع بمباحث العقيدة وعلم الكلام أو مقالات الفرق أو قضايا أصول الفقه وجب عليه الإحاطة بهذه العلوم و المشاركة فيها ، و إلا حكم بغير علم، فقد يبدع في مسألة هي إما عين ما قرره أهل السنة أو من لوازم أقوالهم،فقد تكلم بعضهم في الحسن البصري و قتادة و رموهم بالقدر لعدم إحاطتهم بموضوع القدر[2]، الأمر الذي نفاه عنهما شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه" القدر " ضمن مجموع الفتاوى.
ومع أن تهمتهم اشتهرت في كتب الجرح و التعديل ووردت في عدة منها حتى يظن الظان أن أكثر المحدثين من علماء الجرح و التعديل على جرحهم بهذه التهمة ،فإذا نظرت فيها وجدت التهمة مكررة ينقل هذا عن هذا حتى تصل مخرجها في طبقتهما.
قال الصفدي في" الوافي بالوافيات"{225/7}:"قال الشيخ شمس الدين: وقد تفوه بشيء من القدر، قال: كل شيء بقدر إلا المعاصي،وكان رأساً في الغريب والعربية والأنساب، وقد وثقه غير واحد.قال معمر: لولا كلامه في القدر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ذكر القدر فأمسكوا " ، لما عدلت به أحداً من أهل دهره."
قال السيوطي في" طبقات الحفاظ"{7/1}:": كان يتهم بالقدر ."
قال الذهبي في"سير أعلام النبلاء"{269/5}:"وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر، نسأل الله العفو.ومع هذا فما توقف أحد في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل.
ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك."
وقال عفان: قال لنا قيس بن الربيع: قدم علينا قتادة الكوفة، فأردنا أن نأتيه فقيل لنا: إنه يبغض عليا رضي الله عنه فلم نأته، ثم قيل لنا بعد: إنه أبعد الناس من هذا، فأخذنا عن رجل عنه.
قال حنظلة بن أبي سفيان: وكان قتادة يتهم بالقدر.قال وكيع: كان سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي وغيرهما يقولون: قال قتادة: كل شئ بقدر إلا المعاصي.
وروى ضمرة، عن ابن شوذب، قال: ما كان قتادة لا يرضى حتى يصيح به صياحا يعني: القدر".
شرح و تعليل:
يغلب على الظن أن القدر الذي نفاه قتادة رحمه الله إنما هو القدر الذي حكاه الله تعالى عن المشركين في قوله :{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ} وقد رد الله مقالتهم تلك ووصفهم بالكذب والجهل، واتباع الظنون والأوهام، فقال: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم، فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} وقد اتفق الأئمة الذين يعتد بهم في هذا الشأن: أن قدرة العبد مؤثرة في عمله كتأثير سائر الأسباب في المسببات بمشيئة الله الذي ربط بعضها ببعض كما هو ثابت بالحس والوجدان والقرآن.
والله سبحانه يكره من عباده أن يعملوا الشر وإن وقع بإرادته إذ لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، وليس معنى المشيئة أنه يحب ذلك الشر بل معناها: أن الشر لا يقع على الرغم منه، وحاشا له.
وإرادة الله لا ترغم العبد على فعل الشر، فلو أن العبد فعل الخير بدل الشر، لكان فعل الخير بإرادته سبحانه أيضا، فالطاعات والمعاصي تقع من العبد بإرادة الله سبحانه ومشيئته، أي: بغير أن يكون مكرها على وقوعها، كما أن مشيئته تعالى لم تكره العبد على المعصية التي تقع منه.
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"{3/371}:"كذلك رواه عبد بن حميد في تفسيره قال : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراتعها . وقال حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة : { قدر فهدى } قال : " لا والله ما أكره الله عبدا على معصية قط ولا على ضلالة ولا رضيها له ولا أمره ولكن رضي لكم الطاعة فأمركم بها ونهاكم عن معصيته " . ( قلت : قتادة ذكر هذا عند هذه الآية ليبين أن الله قدر ما قدره من السعادة والشقاوة كما قال الحسن وقتادة وغيرهما من أئمة المسلمين فإنهم لم يكونوا متنازعين . فما سبق من سبق تقدير الله وإنما كان نزاع بعضهم في الإرادة وخلق الأفعال . وإنما نازع في التقدير السابق والكتاب أولئك الذين تبرأ منهم الصحابة كابن عمر وابن عباس وغيرهما . وذكر قتادة أن الله لم يكره أحدا على معصية . وهذا صحيح فإن أهل السنة المثبتين للقدر متفقون على أن الله لا يكره أحدا على معصية كما يكره الوالي والقاضي وغيرهما للمخلوق على خلاف مراده يكرهونه بالعقوبة والوعيد . بل هو سبحانه يخلق إرادة العبد للعمل وقدرته وعمله وهو خالق كل شيء . وهذا الذي قاله قتادة قد يظن فيه أنه من قول القدرية وأنه لسبب مثل هذا اتهم قتادة بالقدر حتى قيل : إن مالكا كره لمعمر أن يروي عنه التفسير لكونه اتهم بالقدر . وهذا القول حق ولم يعرف أحد من السلف قال " إن الله أكره أحدا على معصية " . بل أبلغ من ذلك أن لفظ " الجبر " منعوا من إطلاقه كالأوزاعي والثوري والزبيدي وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم . نهوا عن أن يقال " إن الله جبر العباد " وقالوا : إن هذا بدعة في الشرع وهو مفهم للمعنى الفاسد ..."ثم فصّل شيخ الإسلام المسألة تفصيلا دقيقا.
و المقصود أن الذين اتهموا قتادة و الحسن البصري بالقدر لم يدققوا في قوله فطارت التهمة في الآفاق كما وقع له في تهمة بغض علي،إلا أنهم تبينوا بطلانها لأنها ليست من المقالات الدقيقة كالقول في القدر،وكذلك وقع لابن أبي ذئب اتهم بالقدر لمجالسته لبعضهم كما اشرنا إليه في موضعه وهذا موضوع آخر.
و لعل أحسن مثال على هذه القاعدة، يسهل تصوره وفهمه محنة البخاري، فإن الذي جرحه و بدعه لما لم يفهم مقاصد الإمام احمد بدعه بما هو في الحقيقة مذهب أهل السنة و الجماعة قاطبة، فلم يفرق بين سد الذريعة في قول أحمد و حقيقة الأمر مع أنه من أئمة الحديث ، فنال البخاري ما ناله، لان الرجل الذي انتهك عرض البخاري انتقل من جرح الرواة و تعديلهم الذي يحسنه ويحيط به إلى جرح العلماء دون أن تكون له دراية واسعة بالموضوع.
المثال الثاني: اتهام احمد بن صالح و ابن حبان بالفلسفة، وهي تهمة باطلة، و إن صدرت من إمام في الجرح و التعديل،فإن بعض الأئمة يعد كل كلام جدلي فلسفة، قال ابن دقيق العيد نقلا عن "التدريب"{370/2}:"والوجوه التي تدخل الآفة منها خمسة، وذكر منها:الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم و أكثر ذلك في المتأخرين".
قلت: هذا تفصيل هام، به نعرف أن بعض من نصب نفسه لجرح العلماء خاصة أهل السنة منهم ، لا يمكنه أن يقوم بهذه المهمة، و لا أدل من ذلك من كون بعض أهل العلم من أهل السنة قد اشتغلوا بالمنطق، وهو علم مبتدع فاسد، ذمه العلماء، و يلحق بذمهم لعلم الكلام ومع ذلك لا نجد تبديعا لهم عند علماء الحديث،لأنهم يجهلون هذا العلم، ولا يعرفون الباطل الذي يحويه.فلا يمكنهم تعليل جرحهم تعليلا مقبولا، فاحتاج الجارح به إلى استخراج الباطل من أصوله المعقدة ليجرح به.
فمعرفة مراتب العلماء ضروري جدا لجرح العلماء، و إلا جرحنا بباطل، بل جرحنا الحق و نهينا عن الحق، و بعض فضلاء المعاصرين قال بأمور لو أغفلنا هذا الأصل لبدعناه بها فمن ينكر مثلا الإجماع، ولا يعتد إلا بالمعلوم بالضرورة من الدين ، قوله هذا مخالف لمنهج السلف الصالح و لمعنى الإجماع عندهم، وهو أشبه بقول المعتزلة كالنظام و غيره،ومع ذلك لا نبدعه، لأنه بمقولته هذه علمنا أنه لم ينتبه إلى حقيقة الإجماع عند السلف الصالح،ولان كثير من قواعد المبتدعة دخلت علم أصول الفقه واستقرت فيه فيحتاج من يخوض فيه إلى معرفة مسالك علم الكلام ليميز بين قواعد المتكلمين التي طردوها في علم أصول الفقه وبين القواعد التي هي أخص بهذا العلم.
كما أن الذين يحدث قولا ثالثا إذا اختلفت الأمة على قولين، و إن لم يدرك لازم قوله فإن هذا أصل عند المعتزلة يرده أهل السنة، لان الصحابة إذا اختلفوا على قولين كان الحق في احدهما، و إذا اجزنا إحداث قول ثالث أجزنا الباطل، لان القول الثالث باطلا حتما.
وفي نفس السياق مسألة الاختلاف حول الحديث الآحاد، و حمل المجمل على المفصل و التفريق بين النص و الظاهر هي مسائل دقيقة يجب أن نعرف فيها متى يكون قول القائل فيها خارجا عن منهج أهل السنة معارضا لعقيدتهم و طريقتهم ،ومتى لا يكون؟
فالمسائل تتفرع إلى فروع يقول بها أهل السنة وفروع لا يقولون بها ومن لم يحط بجوانب المسائل،قد يبدع بما لا يستوجب التبديع عند أئمة السنة.
فإن لم نعرف هذه التفاصيل غلطنا، و غالطنا، و بغينا و ظلمنا، و عاد الذم علينا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في"الدرء"{275/4} :" وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله ورسوله مأمور به وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه، وأما الكلام بلا علم فيذم، ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم، وقد يتكلم بما يظنه علما : إما برأي رآه، وإما بنقل بلغه، ويكون كلاما بلا علم، وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإن لم يتبع، وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغيا،كما ذم الله ذلك بقوله : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } فالبغي مذموم مطلقا، سواء كان في أن يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم، ويذمهم على تركه، أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه، والله يغفر لهم خطأهم فيه، فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى، ويعاقبهم فقد بغى عليهم، لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه، وقد قال تعالى : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } والله تعالى قد قال : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات }
فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه، وإلا فالإنسان ظلوم جهول، وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار أوجبت بين الناس العداوة والبغضاء، فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس، فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار ،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار " فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب، فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين وخلقه وأمره ووعده ووعيده ؟"
شروط جرح العلماء:
شروط نقل كلامهم و الخبر عنهم:
1 ـ من المعلوم بداهة من صنيع الأئمة و كلامهم أنه يُشترط في الجارح الصدق، فإن كان كاذبا سقط هو قبل غيره، و يلحق به من يصدق الكاذبين فينقل أخباره عن الفسقة و المجاهيل لأنها توافق هواه، فهذا يستلزم تكذيب الصادقين، وتصديق الكاذبين، وهو نوع من الكذب، و يتضمن جرح العدول و توثيق الفسقة و المجاهيل بالتضمن لأنه صدقهم.
2 ـ فيجب أن يكون صادقا، وهذا لا يكفي، فإمام الجرح و التعديل يجب عليه تحري الصدق فكونه صادقا هو صفة لنفسه، وكونه يتحرى الصدق هو صفة لصناعته :الجرح و التعديل. ومن تأمل في بعض المواقع "السلفية" المشهورة بجرح العلماء و الدعاة وجد فيها تشييخا لأناس لا يعلمون بطلب علم ولا بشم رائحته، بل لا يعرفهم احد من مشائخ بلدهم ولا سمع بذكرهم ،بغض النظر عن عدالتهم، فهل يصح لمن يقبل خبر هؤلاء جرح أهل العلم؟!
وعندما يتكلم في أهل العلم من لا يعرف شروط قبول الخبر،بحيث ينقل على شبكته خبر مجهول العين، بل المجهول بالمعنى اللغوي فحتى اسمه لا يعرفونه ،وهذه طامة كبرى و بدعة عصرية يشتهر بها هذا الموقع: جرح العلماء و الدعاة بالتستر تحت الأسماء المستعارة،وعليه يتبين لكل منصف أن هذا الموقع موقع السباب و الضباب،سب الناس و الضباب في العلم.
3 ـ يجب عليه عندما يجرح العلماء أن ينقل ألفاظهم لا معانيها ،فإن المعاني واسعة يحملها المغرضون على أهوائهم، فإذا نقل اللفظ ولم يجرده عن قرائنه أمكن أهل العلم فحص جرحه ومن ثم موافقته أو مخالفته .
4 ـ أن لا ينقل كلام العلماء من شريط يقوم بإفراغه، فإن هذا كلام المذاكرة يحتاج قائله لمراجعته فمن المعلوم أن نقل الكلام عن العلماء من أفواههم يجب أن يراعى فيه السياق، فلا يختزل بطريقة تغير معناه ،فلا يمكن أن ننسب كل كلمة قالها إلى أنها مذهبه و عقيدته،ور أيه، ذلك أن الكلام الجزئي يجب تنزيله على الكلام الكلي بمعنى أنه يجب رد التفاصيل إلى الكليات، فإن جاء القول المراد الجرح به في سياق كلام شفوي عفوي فيجب رده إلى مذهب العالم الثابت عنه، ذلك أن الاسترسال في الكلام المباشر يقع فيه السقط و الغفلة بخلاف الكتابة.
وكمثال على ذلك ما نقله الأخ عكاشة عبد المنان الطيبي من كلام العلامة الألباني رحمه الله في كتاب سماه :"فتاوى الألباني" فإنه نقل فيه {ص:296} قول الألباني:" و الواقع يشهد أن أي جماعة مسلمة تقوم إما بمقاتلة المعتدي كما وضع للأفغان مثلا،أو بالخروج على الحاكم الذي ظهر كفره، كما وقع في الجزائر" مع العلم أن مذهب الألباني المعروف عنه و المشهور به في كتبه كــ"فتنة التكفير" وكثير من الأشرطة التي تضمنت موضوع الجزائر ليس فيها هذا الأمر.
ـ ومعلوم لأهل العلم أنه يقع في كلام كثير من العلماء و الأئمة عبارات لا توافق أصولهم و مذهبهم، و لذلك يرفضها أئمة المذهب تجد هذا بكثرة في كتب الفقه، وهو شائع بين أهل العلم .
فأهمية القرائن كبيرة لان العالم في الشريط و الجلسات يرد على الأسئلة المباشرة قد لا يحضره علمه، أو لا يسعه التفصيل،أو يغفل عن اللوازم، بخلاف الكتابة فإنه يراجع ويدقق الأمر ،و يحذف ما لا يتناسب مع مذهبه،و ليس هذا خاصا بالعلماء بل أي كاتب يكتب رسالة إلى صديقه يراجعها باستمرار فتراه يضيف ويحذف حتى يستقيم له المعنى الذي أراد فإن المعاني أوسع من الألفاظ، وقد لا تطيق حملها الألفاظ فيحتاج إلى إضافة قرائن و جملا استطرادية ليتضح المعنى الذي يقصده.
كذلك قد يجيب العالم بطرق متنوعة فأحيانا يسرد أدلته، و أحيانا يفترض أدلة خصومه، ويفترض صحة مقدماتهم من باب عكس الدليل، لا من باب قبول المقدمة والاقتناع بها، فيأتي من لا يفهم كلامه ولا يعرف طرق الاستدلال و الاعتراض فيتهمه.
5 ـ على إمام الجرح و التعديل! أن يسمي المنقول عنه، وهذه طامة تلطخت بها صفحات الكتب و المواقع على الشبكة ، فتجد نواب إمام الجرح و التعديل ينقلون أخبارا يجرحون بها عن أناس لا يعرفونهم بحال، فينقل واحد من السعودية عن مجهول من الجزائر، لا يعرفون وصفه ولا فصله،إن كان طويلا أو قصيرا ،كبيرا أو صغيرا، هل جالسه احد طلبة العلم ببلده مثلا ،وهم معروفون معدودون على أصابع اليد ،أو هل عرف بعلم إما بتعليم الناس مثلا حتى في قريته بدروس عامة أو خاصة أو بخطب منبرية أو بكتب نظر فيها أهل العلم فعرفوا قدر الرجل في العلم، وما حباه الله به؟؟؟؟
ثم بعد ذلك هل يعرف من تكلم فيه، هل جالسه أو جاوره أو شاركه في تجارة أو دراسة أو سفر بل هل لقيه، ولومن بعيد، لأنه لا يكفي شرط المعاصرة في الجرح و التعديل خاصة إذا لم نامن الدس والتدليس و التزوير و الكذب و البهتان! ،وهل هو من أقرانه، فربما بينهما فرق في العمر يصل إلى عشرين سنة ؟؟؟
كثير من الأسئلة تسقط المتسلطون على العلماء و الدعاة، لا في الجهل فحسب، بل في الكذب و استعمال الكذب، لان الجرح إما رواية فيشترط له صحة السند وهي العدالة و الضبط، وفي مثل هذه المسائل الفقه و الفهم،و إما معاينة وهي منعدمة في هذا المثال ، ومعلوم حكم هؤلاء عند أهل العلم قديما وحديثا.
و معلوم أن العالم المحقق و المتحري لا يروي ما لا ينضبط من الروايات التي هي ترهات لا تحقق شيء بعد فحصها،فمن بنى تعديله أو تجريحه على رواية الترهات كان علمه من جنسها.
و السؤال :هل يجوز لمثل هؤلاء الكلام على السماسرة في السوق فضلا عن أهل العلم، ممن زكاهم من نصّب أئمة الجرح و التعديل كالشيخ أبي الحسن الماربي و علي الحلبي و أبي إسحاق الحويني و المغراوي، ولا اذكر أهل بلدي حتى لا يقال: متعصب له غرض أو متحالف، فإن شرطة الضمائر سمتها الشك و التهمة، وتوقع الغيب.
ثم السؤال الآخر: هل نحمل شيخهم مسؤولية هذا العمل المشين، فربما قام بعضهم بتذكيره و إن كنت لا أريد الدخول في التفاصيل، و أترفع عن كلام في شاب لا علاقة لي به، لا من قريب ولا من بعيد، حركته حماسته ، وبعض من يحيط به ،وجرفه التيار العام ، ولا اقصده بكلامي، كما لا ألومه و لا احمل له أي حقد أو ضغينة،خاصة وقد أصبح من خصومهم، إنما العيب و اللوم يقع على من يدعي العلم و اتباع السنة، فإني لا اعتقد أن من أهل السنة من يجيز الكذب على الناس، ولا قبول خبر المجاهيل و الكذبة، وكل ما ذكرته أتحداهم به مناظرة وكتابة ومباهلة، قد عاينتني فدع عنك الخبر.
و لعلي في الأيام القادمة اخصص بحثا أكشف به المناهج المبتدعة في الجرح و التعديل بتفاصيل أدق و أمثلة كالسمكة حية تضطرب.
6 ـ أن يكون عارفا بحال المتكلم فيه إن جرحه بالرواية أي بالخبر عنه، وهذا فصلته سابقا، و إن جرحه اجتهادا كما يفعل القضاة، وجب أن يكون مشاركا له في علمه، عارفا بمرتبته في العلم.
7 ـ وأن يكون الجارح عارفا بمدلولات الألفاظ فإن قال: هو مبتدع أو مبتدع ضال،لا يجب أن يقصد به من وقع في بدعة اجتهادا،أو وقع في بدعة خفية غير ظاهرة،فإنه حينئذ يكون الجارح مغالطا جائرا مائلا عن محجة العلماء.
8 ـ يجب عليه أن يعبر عنه بعبارة لا تزيد عليه ولا تنقص عنه،فلا يقول: للمتهم بالكذب كذابا،ولا لقليل الوهم كثير الوهم،ولا يترك هواه يغلبه الهوى فيزيد على المجروح ما ليس فيه ككونه اخطر على الإسلام من كذا وكذا،وهو حرب على السنة،وغيرها من ألفاظ التنفير التي لا تصلح في علم الجرح و التعديل، وهذا تعلمه من الجارح إذا وجدته يطنب في مدح من يوافقه، ويبالغ في ذم من يخالفه و إن كان المخالف له أجل و اعلم من أتباعه، فتراه يمتدح الصغير في العلم لأنه موافق له، و يذم الجهبذ لأنه يخالفه،و إذا ترجم مخالفه جاء بكل ما قيل فيه من جرح و قصّر في نقل التعديل، وإذا ترجم موافقه عكس القضية.
و إن كنا نعلم أن التجرد عن الهوى يندر في هذه الأزمان، ولكن هذا شرط العلماء في كل الناس بله في العلماء، بل هو شرط الله في المسلمين ، فمن نصّب نفسه لجرح العلماء و الدعاة و لم يرود نفسه على العدل ليقهر به هواه ، ويحمل نفسه على الإنصاف كرها كثر خصومه في الدنيا و الآخرة.
و بالنسبة لموضوعنا: التفريق بين شروط جرح الرواية وشروط جرح العلماء،فإن أهم الشروط أن يشارك المجروح في علمه و يعرف مرتبته فيه، فمن عرف بعض مسائل الاعتقاد كيف يجرح من أحاط به مجملا ومفصلا ، بادلته الشرعية، و بادلته الجدلية مثلا.
ومن أحسن الأمثلة على ذلك كلام ابن معين في الشافعي، وقول الإمام أحمد ابن حنبل: إنه لا يعرف الشافعي، ولا يعرف ما يقول".
وقد يسأل عن احد الدعاة أو العلماء فيقول: مسكين، دعونا منه لا أحب الكلام عنه، سقط الرجل،مات مسكين، الله يهديه، الله يصلحه،عبارات الذم و القدح و التجريح في صورة الشفقة و الرحمة.
وقد يتكلم عن نفسه فيقول: رحم الله من أهداني عيوبي، إن كان فيّ خطا فأخبروني به جزاكم الله خيرا، والله لو اخطات أتوب حالا وهو في الحقيقة وهذا يظهر من واقعه لا يظن نفسه أنه أخطأ أو سيخطئ، مدح النفس و الطواف حولها بعبارات التواضع.
وحتى نزيد الأمر توثيقا فيرسخ في الأذهان هذا مثال آخر من ضمن عشرات الأمثلة، لا يسع هذا المقال ذكرها كلها، يبين أن عدم المشاركة في العلم مطب كبير و حاجز مرتفع وحفرة سحيقة تقف أمام الإنصاف وتخلط الغث بالسمين .
يعلم من يطالع كتاب الذهبي "سير أعلام النبلاء" أنه قد حاد ى عن الصواب في بعض انتقاداته لشيخ الإسلام ابن تيمية ،وهي انتقادات يخرجها أحيانا في صورة التعقب، و الذهبي نفسه يتناقض في بعض المسائل ويجازف ببعض العبارات، كما في مسألة "إقعاد النبي على العرش" في كتابه " العلو" قال في ترجمة الآمدي :"قال لي شيخنا ابن تيمية:يغلب على الآمدي الحيرة و الوقوف حتى انه أورد على نفسه سؤالا في تسلسل العلل وزعم أنه لا يعرف عنه جوابا و بنى إثبات الصانع على ذلك فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع ولا حدوث العالم ولا وحدانية الله ولا النبوات ولا شيئا من الأصول الكبار".
ثم قال:"قلت: هذا يدل على كمال ذهنه،إذ تقرير ذلك بالنظر لا ينهض و إنما ينهض بالكتاب و السنة،وبكل قد كان السيف غاية، ومعرفته في المعقول نهاية، وكان الفضلاء يزدحمون في حلقته"
قلت:ما نقله شيخ الإسلام عن الامدي ثابت عنه في كتبه، وهذا يدل على أن الذهبي لم يحقق المسألة ،و قال بما ظهر له ،وكلام الذهبي يبطل نفسه بنفسه حيث إن ابن تيمية لم يقل: إن هذه المسائل تقرر بالعقل وحده، بل شيخ الإسلام ما ناقض الامدي إلا ليثبت له أنها تقرر بالكتاب و السنة، ولكن الطريق التي اختاراها المتكلمون هي تقرير هذه المسائل بالأدلة العقلية، وعندما يورد الآمدي على نفسه سؤالا في هذه المسائل الكبار التي بنى عليها دينه، ثم يقف متحيرا يكون متناقضا،هذا لا مرية فيه.
و إذا لم تقرر هذه المسائل بالعقل عند المتكلمين فماذا يوجد في كتب الامدي كـ" أبكار الأفكار" ، و"غاية المرام"،و"دقائق الحقائق "إلا هذه المسائل التي يثبتها مرة و يتوقف فيها مرة أخرى.
فلعل الذهبي لم ينظر في كتب الآمدي نظر الفاحص ، فإن تقرير هذه المسائل فيها مشهور و بالتالي سقط تعقبه و استدراكه، إذ العبرة بالدليل، وابن تيمية أثبت شيئا موجودا في كتب الآمدي و الذهبي نفى ما لم يعلم انتفاؤه، وهذا واضح في المفارقة، خاصة و أن الذهبي قال عن الامدي بأنه كان غاية في المعقول!
ولم أجد في كتب الذهبي ما يدل على أنه كان يعرف المعقول، فكيف يحكم على الآمدي أنه كان غاية في المعقول؟ مع أن الذهبي رحمه الله عندما يترجم الفلاسفة و المتكلمين كثيرا ما يحكم فيهم بترجمة شيخ الإسلام لهم .
ثم نقول: إذا كان الامدي غاية ومعرفته في المعقول نهاية فلماذا قال فيه في نفس الترجمة:" قلت: ثم أقرأ الفلسفة والمنطق بمصر بالجامع الظافري، وأعاد بقبة الشافعي، وصنف التصانيف، ثم قاموا عليه، ورموه بالانحلال، وكتبوا محضرا بذلك.
قال القاضي ابن خلكان: وضعوا خطوطهم بما يستباح به الدم، فخرج مستخفيا، ونزل حماة.
وألف في الأصلين، والحكمة المشؤومة ، والمنطق، والخلاف، وله كتاب " أبكار الأفكار " في الكلام، و " منتهى السول في الأصول " و " طريقة " في الخلاف،.
ثم تحول إلى دمشق، ودرس بالعزيزية مدة، ثم عزل عنها لسبب اتهم فيه، وأقام بطالا في بيته."
وقال عنه أيضا:" أخرجه منها الاشرف، ونادى في المدارس: من ذكر غير التفسير والفقة، أو تعرض لكلام الفلاسفة نفيته، فأقام السيف خاملا في بيته إلى أن مات، ودفن بتربته بقاسيون".
قلت: فلو ترك الذهب تعقبه لكان أحسن مسلكا و أفضل مخرجا .
ثم السؤال: أين قرر الامدي أمر النبوات و الوحدانية و غيرها بغير المعقول في كتبه؟!
قال الامدي في "غاية المرام في علم الكلام"{16/1}:"فكان اللائق البحث والفحص عن الأهم فالأهم والنظر في تحصيل ما الفائدة في تحصيله أعم وأهم المطالب وأسنى المراتب من الأمور العملية والعلمية ما كان محصلا للسعادة الأبدية وكمالا للنفس الناطقة الإنسانية وهو اطلاعها على المعلومات وإحاطتها بالمعقولاوت[3] لما كانت المطلوبات متعددة والمعلومات متكثرة وكل منها فهو عارض لموضوع علم يستفاد منه وتستنبط معرفته عنه كان الواجب الجزم واللازم الحتم على كل ذي عزم البداية بتقديم النظر في الأشرف الأجل والأسنى منها في الرتبة والمحل ، وأشرف العلوم إنما هو العلم الملقب بعلم الكلام الباحث عن ذات واجب الوجود وصفاته وأفعاله ومتعلقاته إذ شرف كل علم إنما هو تابع لشرف موضوعه الباحث عن أحواله العارضة لذاته ولا محالة أن شرف موضوع هذا العلم يزيد على شرف كل موضوع ويتقاصر عن حلول ذراه كل موجود مصنوع إذ هو مبدأ الكائنات ومنشأ الحادثات وهو بذاته مستغن عن الحقائق والذوات مبرأ في وجوده عن الاحتياج إلى العلل والمعلولات كيف والعلم به أصل الشرائع والديانات ومرجع النواميس الدينيات ومستند صلاح نظام المخلوقات،فلا جرم سرحت عنان النظر وأطلقت جواد الفكر في مسارح ساحاته ومطارح غاياته وطرقت أبكار أسراره ووقفت منه على أغواره فلم تبق غمة ألا ورفعتها ولا ظلمة إلا وقشعتها حتى تمهد سراحه واتسع براحه فكنت بصدد جنى ثمراته والتلذذ بحلواته "
قلت:فأين قول الذهبي:" إذ تقرير ذلك بالنظر لا ينهض و إنما ينهض بالكتاب و السنة" فهذا الآمدي يقرر بأن أهم مسائل الدين تقرر بعلم الكلام،وبدا بتقرير مسألة إثبات الواجب بذاته،طريق إثبات الواجب، فأين الكتاب و السنة في كل كتب الآمدي أم هو التعليق من أجل سبب ما!
وبهذا يتبين أن الجرح و التعديل يطلق على موضوعين مختلفين: توثيق رواة الحديث وتجريحهم،وتزكية العلماء وتجريحهم.
و الجانب المتعلق بتوثيق العلماء و تجريحهم من حيث السنة و البدعة موضوعه شاسع لا يقوم به علم الحديث وحده كما أوضحته في هذا المقال ،وكل من تكلم فيه وهو ضعيف في غير علم الحديث، غير مشارك للعلماء في علومهم، وغير عارف بمراتبهم فيها، فهو متطفل على علم الجرح و التعديل في شقه هذا .
إن الذين حسبوا أنفسهم أوصياء على علم الجرح و التعديل يعتقد أتباعهم فيهم أنهم أئمة في الجرح و التعديل، أي أئمة في كتب الجرح والتعديل من ابن حجر فصاعدا، و أن مثل الشيخ علي الحلبي و أبي الحسن الماربي و المغرواي و أبي إسحاق الحويني مثل أولئك الرواة المترجم لهم في "ضعفاء العقيلي" و " المجروحين" لابن حبان .
ومن عجيب هذا الزمان أن تجد رجلا جالسا في مقهى قد انتشى بسيجارة محشوة يسمع احدهم يقول: قال القرضاوي، فيقول له:مجروح!
و أعجب منه أن يصير علم الجرح و التعديل علما يقلد فيه ،ومعلوم أن علامة فساد استخدام هذا العلم هو انقلابه على أصحابه ، ومن علامة فساد العداوة الدينية و أنها لغير الله تعالى تلبسها بالجهل ،وهو هنا عدم الانضباط بقواعد الجرح ،و بالتعدي وهو هنا رد ما مع المخالف من حق.
و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على اشرف المرسلين.
أرزيو في2009-04-10
مختار الأخضر طيباوي

[1] ــ قد يظن بعض الناس أننا نريد الدفاع عن هؤلاء المشائخ لمجرد الدفاع، أو قد يقولون أشياء أخرى، وليس هذا المهم، فإن الرجال يزولون و يبقى الدين، فعندما نقر بالباطل في أي صورة تلبس بها، فإننا حينئذ نخذل الدين لا نخذل الرجال، والواجب على المسلم أن يقوم مع الحق أين توجهت ركائبه، فإذا أقرينا المحذرين من هؤلاء المشائخ الفضلاء بهذا الأسلوب الباطل، نكون قد أقرينا الباطل في ديننا، فإن كانوا مظلومين فينصرهم الله، أما نحن فقد ظلمنا الدين بالإقرار على الباطل، فالمشكل أكبر بكثير من قضية المشائخ المجروحين على أهميتها..
إنه مشكل في صميم المنهج، لا يمكن السكوت عنه، فإما يتكلمون في الدين بالحق، و الحق وحده، و إلا فإن كثيرا من الناس سيكونون حربا عليهم، ولو قال قائل: يجب التحذير من هؤلاء المحذرين لكان قد أصاب الحق، فإن هؤلاء من عامية الأذهان و التصور، لو تركوا على باطلهم لساد الفساد، فيجب على المؤمن أن يقوم مع الحق ولا يدع طائفته أو أصحابه أو مشيخته يتكلمون في الدين أو في الناس بالباطل، فإنه أحق الناس بنصيحتهم والرد عليهم.
وفي هذا المقال سترى بالدليل المعتبر مجانبة المحذرين للصراط المستقيم، وسلوكهم درب الاعوجاج و العدوان، و الجمود على شبهات لا تنفق عند العقلاء، و لا تصمد أمام النقض، وعلى الله التكلان.

[2]ـقال الإمام العالم العابد أبو سعيد بن الأعرابي"{سير أعلام النبلاء"{245/16}:" كان يجلس إلى الحسن طائفة من هؤلاء فيتكلم في الخصوص حتى نسبته القدرية إلى الجبر و تكلم في الاكتساب حتى نسبته السنة إلى القدر، كل ذلك لافتنانه و تفاوت الناس عنده و تفاوتهم في الأخذ عنه وهو بريء من القدر ومن كل بدعة".
ثم نقل الذهبي عن قتادة أن الحسن البصري قال:" الخير بقدر و الشر ليس بقدر "، قال الذهبي:" قد رمي قتادة بالقدر" كأنه يضعف السند، ومعلوم أن قتادة رمي بالقدر ولم يرم بالكذب، فإنه من كبارأهل طبقته، وقول الحسن:" والشر ليس بقدر"، إن قصد الشر المحض فقوله صحيح، فإن الشر المحض عدم، و العدم لا ينسب إلى الله و الشر المطلق لا ينسب إلى الله فإن فعله كله خير.

[3] ـ هذا مذهب الفلاسفة في السعادة وهو : العلم بالمجهولات و إدراك المعقولات"