بَيننا و بَينكُم الجنائز
26-08-2015, 12:29 PM
"قولوا لِأَهل البِدَع: بَيننا وَ بَينكُم الجنائز".. هكذا قال أحمد بن حنبَل - رحمه الله- وقد لاقى من ظُلمِ السّاسة والحُكّام، وبطانة السوء، أذى كثيرا، وتعذيبا شديداً، رَسَفَ تحتَ القيود طويلا، وأثْقَلتْه سلاسلُ الحديد، وَضُرِبَ بالسِّياط، وهو اليومَ في أعيُنِنا أَعظَم قَدراً من الخُلفاء الذين عذَّبوه، وأبقى مِنهم ذِكراً، وإنَّما كانت كَلمتُه هذه مُوجَّهةً لِأهل البِدَع، والظَّلَمة مِن الحُكّام، وأذنابهم، اللذين اجتهدوا أن يَحمِلوه على كَلمَةٍ واحدةٍ تُوافقُ هواهُم فما قَدروا عليه، مع كُلِّ القوة التي توفّرت لديهم، ذلك أنّه كان يَصنع رأياً عامّاً مُضادّاً، فكان يُمثِّل تهديدا للنِّظام السياسي و سُمعته.
نَعم، "قولوا لأَهلِ البِدَع: بيننا و بينكم الجنائز" ..إنَّها كلمةٌ تَحمِلُ في أعطافها خُلاصةَ ما عاشه في مِحنتِه، شُعوراً قَويّاً بالضَّيم، وإيمانا ثابتاً بالنَّصر، وتَحدِّياً صريحا لأهلِ الظُّلم، وسُلالةُ الظُّلم لا تَنقطِع، وَنَسلُ إمام أهل السُّنَّة متَّصِل، وقد تَرك هذا العَلَمُ الجَليل إرثاً فقهيا، سياسيا، وفكريا عظيما. "قولوا لِأهل البِدَع..." فأنتُم شُهداء اللّه في الأرض، أنتُم الأصلُ وهُم الفَرع، وإنَّها اللَّحظةُ التي تَصفو فيها أحكامكم من أَثَر الدِّعاية، وتضليل السِّياسة، وإنَّهُ المَوت..اللَّحظةُ التي تَزول فيها عن الأعيُن حُجُبُ الأكاذيب والدِّعايات، وتتمزَّق عندها أَغشيةُ الزَّيف، ويَبطُلُ السِّحرُ. "... إنَّ بيننا و بَينكم الجنائز" فَحياتنا ليست كَحياتكم، وَمَوتُنا لا يُشبِه مَوتَكم، فَجنائزُنا جَنائز فيها هَيْبَةُ المَوتِ و سكينَتُه، وجَنائزُكم كأنَّها جوائز، تجعلُ المَوت سُلَّماً آخر لأطْماعكُم، فيها صَخَبُ الدُّنيا و فِتنتُها، تتوارى فيها عِبرةُ المَوت، كأنَّكم تَكرهون ما يُذكِّرُكم به، جنائزُنا و جنائزُكم فَيصلٌ بيننا و بَينَكُم، فدِماؤنا تَسري في أجسادكم المَيِّتة رجاءَ حياةٍ طويلة، مثلما هي وَقودٌ لسيارات مواكِبكم الطَّويلة.
عندما تَسرقون الحياة، وتستأثرون بِخَيرات البلاد، وتتمسَّكون بمَبدأ المُفاصَلة الشُّعورية بينكم و بَين شَعبِكم، فلا غَرْوَ بعدها إن تَمسَّكتُم بالمَوت لتَستَخلصوا مِنه آخِر أنفاس الحياة، ولا عَجَب في أن ترتجَّ تحتَ أقدامكم المَقابر، التي لا تَعرفونها إلا عندما تَدفنون فيها آمال الشَّعب في حياةٍ أفضل، وأحلامَه في بَلدٍ يَستحي فيها الظُّلم أن يَسير في جَنائزكم. إنَّ لِلمَوت هَيبةٌ و رَهبة، وللنَّعش المُسجّى بغطاءٍ بسيط فِعلٌ في القُلوب عجيب، وهذا ما أثار إعجاب بعض الشَّخصيات الغربية في جنازة المَلِك السُّعودي، نَعشٌ مُسجّى مَحمولٌ على أكتاف الرِّجال! لن يَنفع صاحبَه مزيدٌ من تبذير أموال الشَّعب في تشييعِهِ مِثلما يُشيَّعُ كُلُّ الأموات، فلماذا تُضيِّقُون على الشَّعب أنفاسهُ، وتُثقِلون كاهلَه المُثقَل أساساً بأحمالِكم التي تتكبَّرون على حَملها؟! كُلُّ هذا مِن أَجل دَفن مَوتاكم مِثلما نَدفن مَوتانا! في تُربةٍ لن يُحوِّلها كِبرُكم بالتّأكيد ذهباً ولا فِضَّة. رُبَّما استأثَرتم بالشَّوارع دون هذا الشَّعب الذي تَحكمونه، ودَخلتُم مُدنَه وأغلقتموها دونه، واسْتَنكفتُم أن تُخالطوه إلا بجَيشٍ من الحَرس يَقيكُم شرَّه! ثمَّ تَزعمون أنَّكُم تَحرسونه، لكنَّكم بالتَّأكيد لا تُشبهونه، ومَهما زوَّقتُم خطاباتكُم فإنَّكُم لا تُساوونَه، وَلو قَدِرتم على دمائه أن تُحوِّلوها إلى نِفط، لأَثَّثْتُم بها حياتَكم العامِرة بِخراب القُلوب، وَسَرقة الجُيوب، ولَجَهَّزتُم بها جنازةً لتَشييع الديمقراطية، والعدل، والإنسانية إلى مَثواها الأخير..ليست السِّياسةُ وحدها ما يَفصل بيننا و بينكم، ولا تِلك الحصون التي تتمَترسون خَلفها، ولا تِلك الكَلِمات التي تُخدِّروننا بها، بل الجنائز أيضا.. فأنتُم تَصنعون من المَوت فُرصةً أخرى للتَّباهي، والتَّرفع، فُرصةً أخرى لقَتل أمَل الشَّعب في أن يَشعُر ولو لِبَعض الوَقت أنَّه فعلا منكم وأنَّكم مِنه، وأنَّه يُمكِنُه أن يَقترِب مِنكم دون أن يَحترِق، أو يُصيبكم منه بأس، لأنَّه يُفتَرض أنَّكم تَخدمونه، لكن بكُلِّ أسف إنَّهم يَحرسونكم أكثر ممّا يَحرسونه، لأنَّكم ببساطة كلُّ شيء دونه.
بَيننا وَبينكم الجنائز، فجنائزنا لا يُشيِّعُها إلّا الطّامعون في ثواب الآخرة، الصّادقون في حُزنهم مَعنا، السّائرون في رِكابنا لأنَّهم يُشبهوننا، الذين إذا بَكَوْا فاحت من دُموعهم رائحةُ الصِّدق، وإن قالوا كان قولُهم خالياً من الرِّياء والنِّفاق. فقولوا لأهل الظّلم: إنَّ بَيننا و بَينكم الجنائز.
عبد العزيز حامدي