قرأت لك عن الكاتب القبائلي مولود فرعون
20-06-2008, 11:23 PM
أولا
قريتـي
أنا لست من أولئك الذين يكرهون قريتهم، وإن كان ثمة أسباب تجعلني لا أفتخر بها كثيرا.
فهي تعرف أني سافرت وعشت بعيدا عنها زمنا طويلا، بيد أنها تعوّدت على عودتي. ونظرا لتكرار غيابي ثم عودتي، فهي لا تنتبه إلي كثيرا. إنها، إن شئتم، لا تخافني. فهي، كل مرة، تخصّني باستقبال بسيط، بوجهها العادي، مثلما تستقبل أبناءها الذين يغادرونها في الصباح ويعودون إليها من الحقول في المساء. إن لهذا النوع من الثقة، وقع كبير في نفسي، أقدره كثيرا.
والذين يعودون إليها ويقولون فيها سوءا، يفعلون ذلك بشيء من الاستخفاف. يؤاخذونها لأنها ذميمة وهي تعذرهم، بما أنها، في أعينهم، تبدو أكثر قبحا عندما يعودون من بعيد بعد غياب طويل، ورؤوسهم تزخر بالأشياء الجميلة. ومهما قالوا، فإنهم، في قرار أنفسهم، يحبونها جدا. إنهم دائما، يخلصون إلى رؤيتها كما هي، بل يختلقون لها الجمال، ويشعرون أنهم ينتسبون إليها. فلا يبقون جددا كما كانوا. كما هناك آخرون يرون فيهم القبح، وهم بدورهم، لا يستقرون على هذه الحال، فيصبح الجميع سواء. وقريتي تتفرج في أبنائها المهاجرين عند الذهاب وعند الإياب، في ثبات، ولا تبالي بغرورهم وهي تتعب آمالهم العريضة ولا تتزعزع.
وإذا استقبلت القادمين الجدد بقسوة، فذلك لأنهم يحملون معهم جو المدينة الآسن. فهي تظن أن الجميع يفهمونها ويحتقرونها. هذا ما يفسر تأثرها المفرط. كأنها تقول لابنها البار:
- يا صغيري، لا تتبختر بحقيبتك وبذلتك الجميلة. لا تنس أن بذلتك هذه ستفقد جدّتها. أنا التي سأعتني بذلك. ولسوف تلطخ بالزيت وتغطى بالغبار فيذهب بريقها. لسوف أحدث فيها ثقوبا. وذات يوم، وهو ليس ببعيد، ستخرجها وتلبسها وتذهب بها إلى الحقل. حينئذ، سترى ماذا ينتظرك! الحقيبة؟ "طيب، لنتحدث! أنا أعرف أين ستذهب هذه الحقيبة. ستذهب فوق "أكوفي"* الخزانة، أليس كذلك؟
- هذا يريحني.
- أمامها الوقت الكافي كي تسودّ بالدخان. وذات يوم ستخرجها لترحل من جديد. إنها ستجلب لك السخرية في القطار وفي الباخرة.
والذين يصلون من باريس مباشرة، عندما ينزلون من السيارة التي أجّروها لإبهار النساء، تفتح كل أبواب كل المنازل. تصبح للقرية، كأن لها مئات العيون أو كأنها هي نفسها تحوّلت إلى عين عملاقة تحدق فيك من أوجه متعددة.
- أزقتي ضيقة وموسخة؟ أنا لست في حاجة إلي الاختفاء. فلقد رأيتكم فرحين وأنتم صغارا تتخبطون مثل فرخ البط الموسخ.
مروا! هذا جامعكم. أكيد أنه يبدو مضحكا ولا يجدي نفعا. ليس مثل ساحة النجمة*! أتدرون كيف أتخيلكم أنا، في ساحة النجمة؟ تقريبا، كما ترون هذا القط الخائف عندما يمر أمام جامعكم المليء بالأطفال العفاريت. كوخكم صغير؟ نسيتم أنه لكم وأنه مليء بالذكريات ويزخر باسمكم وبآمالكم القديمة. إنه شاهد على أحلامكم الساذجة وأخطائكم وآلامكم الماضية. التزموا بالتواضع، ذلك أحسن! ستكونون بخير هنا، وسوف ترون، أنا التي سأضمن لكم ذلك...
ياه! مثل هذا الخطاب لا يعنيني. لا لأنها تخصني بتقدير مميز أو أنها تقدر اختلافي عن الآخرين، بل لأنها كرهت من السخرية مني بعد أن أصبحت تراني دائما. ولئن حدث أن قرأت في عيني نوعا من الاحتقار، وهو أمر خارق، فليس في وسعها إلا هز كتفيها.
- آه! هذا أنت، مرة أخرى؟ كن بسيطا! إنك لا تقلقني... أسرع إلى منزلك. هناك في نهاية الزقاق، حي آيت فلان، أطول الأزقة وأضيقها. الزقاق الذي يشرف على المنازل الشبيهة بالأقفاص ذات القضبان الخشبية، لأن كل واحد يريد أن ينزوي وراء فاصل من الأوتاد. أعرف أنك لست فخورا. ثم بإمكانك أن تلاحظ أن مزبلتي كبرت كثيرا. وسترى ذلك الحائط الذي كان يقي منزل جارتكم العجوز: لقد تهدم في الشتاء الماضي ورمم بالقصب... لا تشغل بالك كثيرا، فهناك من الوحل في الشوارع ما يكفي لتوسخ حذائك اللامع وأسفل سروالك الجديد. ليس الوحل فقط. عندما تجلس على بلاط الجامع...
تهمس في أذني شرورها الصغيرة في جو ودي، وتنجح في إزعاجي كل مرة، ثم تتركني وشأني. ولكني أخفي انزعاجي وأقول لها في مكر:
- أنت تهذين يا عجوز! لقد لاحظت فيك بعض مظاهر الحداثة. فقد تم تصليح الطريق الذي يصل المقبرة. وهو شيء جميل. واتسع وفرش بالأحجار. أعرف أنك فخورة بذلك، لا تنكري. هنالك مستودع لم يكن موجودا. بجانبه معصرة الزيتون ورحى الحبوب ذات صوت الدراجة النارية. كما حدثني بعض الناس عن مخبزة ذات العاجنة الميكانيكية. أنت الآن تأخذين الطابع الميكانيكي وتزدادين في الوتيرة! الأوساخ تقلقك؟ في الواقع، هناك أوساخ في كل مكان، وحتى في المدينة. الفارق أن هناك، كل شيء مخف. لا نرى شيئا ولكن الإفساد أكثر. الجو فيها آسن، وهذه حقيقة. صبّري نفسك يا عجوز!
أعرف أننا لن تغير وجهك تماما. وقد نتسبب في قبحه بمحاولاتنا ومحاكاتنا. لونك لون التراب وأنت مصنوعة من التراب. والتراب نقي متواضع وطاهر مثل القروية الفقيرة، بيد أنها حسنة المنشأ. ولكي تغيّري وجهك، لا بد أن تطليه وتمحي، ثم تحملي رمادك بعيدا ثم تشيّدين نفسك فوق هذا الرماد. بمعنى أنك أنت ستقضين على حياتك ونحن سنتوقف عن حبك.
إذن، لماذا تغتاظين وتسيئين استقبالنا؟ هل هناك دليل أحسن على الارتباط بك، مثل عودتنا العنيدة؟ لنجعل أننا متعلقين بك وأنك متعلقة بنا بقوة، وأننا لا نستطيع التنكر لبعضنا.
إن الذين نسوك، وأنت لا تجهلين ذلك، ليس في وسعهم سوى النسيان لأنهم يعيشون حياة رغدة، وهو شيء يغتفر. لقد تمكن منهم الشك، وهو شك يريحهم. ولو رأيت سعة عيشهم في قلب التمدن، لانمحيت باحتشام ولتمنيت أن تواري نفسك تحت التراب. مع ذلك فهم يشرفونك! وفي العسر: الديون، المرض، البؤس، الشيخوخة – لا يمكن أن نحتاط لكل شيء- يقولون في أنفسهم إن الوقت قد حان كي يعودوا. يتذكرون كل ما له علاقة بك فتلين قلوبهم. وبما أنهم يحتاجون إليك، فإنه يعمدون إلى محبتك. ثم ذات مساء، يأتونك لاسترجاع أماكنهم التي احتفظت بها بإخلاص من أجلهم. ولو أن، في أغلب الأحيان، يكون هذا المكان عبارة عن حفرة مستطيلة الشكل، هناك في نهاية السفر؛ عند نهاية الطريق المعبد، أين ننتهي كلنا في يوم من الأيام. قبر صغير سيقترن بغيره من القبور لأنه لن يحمل أية علامة مميزة وأنه، ابتداء من أول ربيع، سيتغطى بأعشاب واهنة وبأزهار بيضاء."
من كتاب: Jours de Kabylie
ترجمة الأستاذ العيد دوان[/B][/B][/B][/B]
قريتـي
أنا لست من أولئك الذين يكرهون قريتهم، وإن كان ثمة أسباب تجعلني لا أفتخر بها كثيرا.
فهي تعرف أني سافرت وعشت بعيدا عنها زمنا طويلا، بيد أنها تعوّدت على عودتي. ونظرا لتكرار غيابي ثم عودتي، فهي لا تنتبه إلي كثيرا. إنها، إن شئتم، لا تخافني. فهي، كل مرة، تخصّني باستقبال بسيط، بوجهها العادي، مثلما تستقبل أبناءها الذين يغادرونها في الصباح ويعودون إليها من الحقول في المساء. إن لهذا النوع من الثقة، وقع كبير في نفسي، أقدره كثيرا.
والذين يعودون إليها ويقولون فيها سوءا، يفعلون ذلك بشيء من الاستخفاف. يؤاخذونها لأنها ذميمة وهي تعذرهم، بما أنها، في أعينهم، تبدو أكثر قبحا عندما يعودون من بعيد بعد غياب طويل، ورؤوسهم تزخر بالأشياء الجميلة. ومهما قالوا، فإنهم، في قرار أنفسهم، يحبونها جدا. إنهم دائما، يخلصون إلى رؤيتها كما هي، بل يختلقون لها الجمال، ويشعرون أنهم ينتسبون إليها. فلا يبقون جددا كما كانوا. كما هناك آخرون يرون فيهم القبح، وهم بدورهم، لا يستقرون على هذه الحال، فيصبح الجميع سواء. وقريتي تتفرج في أبنائها المهاجرين عند الذهاب وعند الإياب، في ثبات، ولا تبالي بغرورهم وهي تتعب آمالهم العريضة ولا تتزعزع.
وإذا استقبلت القادمين الجدد بقسوة، فذلك لأنهم يحملون معهم جو المدينة الآسن. فهي تظن أن الجميع يفهمونها ويحتقرونها. هذا ما يفسر تأثرها المفرط. كأنها تقول لابنها البار:
- يا صغيري، لا تتبختر بحقيبتك وبذلتك الجميلة. لا تنس أن بذلتك هذه ستفقد جدّتها. أنا التي سأعتني بذلك. ولسوف تلطخ بالزيت وتغطى بالغبار فيذهب بريقها. لسوف أحدث فيها ثقوبا. وذات يوم، وهو ليس ببعيد، ستخرجها وتلبسها وتذهب بها إلى الحقل. حينئذ، سترى ماذا ينتظرك! الحقيبة؟ "طيب، لنتحدث! أنا أعرف أين ستذهب هذه الحقيبة. ستذهب فوق "أكوفي"* الخزانة، أليس كذلك؟
- هذا يريحني.
- أمامها الوقت الكافي كي تسودّ بالدخان. وذات يوم ستخرجها لترحل من جديد. إنها ستجلب لك السخرية في القطار وفي الباخرة.
والذين يصلون من باريس مباشرة، عندما ينزلون من السيارة التي أجّروها لإبهار النساء، تفتح كل أبواب كل المنازل. تصبح للقرية، كأن لها مئات العيون أو كأنها هي نفسها تحوّلت إلى عين عملاقة تحدق فيك من أوجه متعددة.
- أزقتي ضيقة وموسخة؟ أنا لست في حاجة إلي الاختفاء. فلقد رأيتكم فرحين وأنتم صغارا تتخبطون مثل فرخ البط الموسخ.
مروا! هذا جامعكم. أكيد أنه يبدو مضحكا ولا يجدي نفعا. ليس مثل ساحة النجمة*! أتدرون كيف أتخيلكم أنا، في ساحة النجمة؟ تقريبا، كما ترون هذا القط الخائف عندما يمر أمام جامعكم المليء بالأطفال العفاريت. كوخكم صغير؟ نسيتم أنه لكم وأنه مليء بالذكريات ويزخر باسمكم وبآمالكم القديمة. إنه شاهد على أحلامكم الساذجة وأخطائكم وآلامكم الماضية. التزموا بالتواضع، ذلك أحسن! ستكونون بخير هنا، وسوف ترون، أنا التي سأضمن لكم ذلك...
ياه! مثل هذا الخطاب لا يعنيني. لا لأنها تخصني بتقدير مميز أو أنها تقدر اختلافي عن الآخرين، بل لأنها كرهت من السخرية مني بعد أن أصبحت تراني دائما. ولئن حدث أن قرأت في عيني نوعا من الاحتقار، وهو أمر خارق، فليس في وسعها إلا هز كتفيها.
- آه! هذا أنت، مرة أخرى؟ كن بسيطا! إنك لا تقلقني... أسرع إلى منزلك. هناك في نهاية الزقاق، حي آيت فلان، أطول الأزقة وأضيقها. الزقاق الذي يشرف على المنازل الشبيهة بالأقفاص ذات القضبان الخشبية، لأن كل واحد يريد أن ينزوي وراء فاصل من الأوتاد. أعرف أنك لست فخورا. ثم بإمكانك أن تلاحظ أن مزبلتي كبرت كثيرا. وسترى ذلك الحائط الذي كان يقي منزل جارتكم العجوز: لقد تهدم في الشتاء الماضي ورمم بالقصب... لا تشغل بالك كثيرا، فهناك من الوحل في الشوارع ما يكفي لتوسخ حذائك اللامع وأسفل سروالك الجديد. ليس الوحل فقط. عندما تجلس على بلاط الجامع...
تهمس في أذني شرورها الصغيرة في جو ودي، وتنجح في إزعاجي كل مرة، ثم تتركني وشأني. ولكني أخفي انزعاجي وأقول لها في مكر:
- أنت تهذين يا عجوز! لقد لاحظت فيك بعض مظاهر الحداثة. فقد تم تصليح الطريق الذي يصل المقبرة. وهو شيء جميل. واتسع وفرش بالأحجار. أعرف أنك فخورة بذلك، لا تنكري. هنالك مستودع لم يكن موجودا. بجانبه معصرة الزيتون ورحى الحبوب ذات صوت الدراجة النارية. كما حدثني بعض الناس عن مخبزة ذات العاجنة الميكانيكية. أنت الآن تأخذين الطابع الميكانيكي وتزدادين في الوتيرة! الأوساخ تقلقك؟ في الواقع، هناك أوساخ في كل مكان، وحتى في المدينة. الفارق أن هناك، كل شيء مخف. لا نرى شيئا ولكن الإفساد أكثر. الجو فيها آسن، وهذه حقيقة. صبّري نفسك يا عجوز!
أعرف أننا لن تغير وجهك تماما. وقد نتسبب في قبحه بمحاولاتنا ومحاكاتنا. لونك لون التراب وأنت مصنوعة من التراب. والتراب نقي متواضع وطاهر مثل القروية الفقيرة، بيد أنها حسنة المنشأ. ولكي تغيّري وجهك، لا بد أن تطليه وتمحي، ثم تحملي رمادك بعيدا ثم تشيّدين نفسك فوق هذا الرماد. بمعنى أنك أنت ستقضين على حياتك ونحن سنتوقف عن حبك.
إذن، لماذا تغتاظين وتسيئين استقبالنا؟ هل هناك دليل أحسن على الارتباط بك، مثل عودتنا العنيدة؟ لنجعل أننا متعلقين بك وأنك متعلقة بنا بقوة، وأننا لا نستطيع التنكر لبعضنا.
إن الذين نسوك، وأنت لا تجهلين ذلك، ليس في وسعهم سوى النسيان لأنهم يعيشون حياة رغدة، وهو شيء يغتفر. لقد تمكن منهم الشك، وهو شك يريحهم. ولو رأيت سعة عيشهم في قلب التمدن، لانمحيت باحتشام ولتمنيت أن تواري نفسك تحت التراب. مع ذلك فهم يشرفونك! وفي العسر: الديون، المرض، البؤس، الشيخوخة – لا يمكن أن نحتاط لكل شيء- يقولون في أنفسهم إن الوقت قد حان كي يعودوا. يتذكرون كل ما له علاقة بك فتلين قلوبهم. وبما أنهم يحتاجون إليك، فإنه يعمدون إلى محبتك. ثم ذات مساء، يأتونك لاسترجاع أماكنهم التي احتفظت بها بإخلاص من أجلهم. ولو أن، في أغلب الأحيان، يكون هذا المكان عبارة عن حفرة مستطيلة الشكل، هناك في نهاية السفر؛ عند نهاية الطريق المعبد، أين ننتهي كلنا في يوم من الأيام. قبر صغير سيقترن بغيره من القبور لأنه لن يحمل أية علامة مميزة وأنه، ابتداء من أول ربيع، سيتغطى بأعشاب واهنة وبأزهار بيضاء."
من كتاب: Jours de Kabylie
ترجمة الأستاذ العيد دوان[/B][/B][/B][/B]
من مواضيعي
0 التغذية: نصائح وحيل حول الأكل الصحي اهمالها قد يسبب لنا مشاكل صحية لا نعرف اين سببها؟
0 فوضى سينوفاك الصينية.. لقاح واحد و3 نتائج متضاربة
0 "نوع آخر مثير للقلق".. سلالات كورونا المتحورة تنتشر في 50 بلدا
0 إجراء تغييرات إيجابية: نصائح وحيل للتغذية السليمة ولتقوية الاعصاب
0 هل لديك وزن زائد؟ نستطيع مساعدتك
0 يؤثر نظامك الغذائي على صحتك: كيفية الحفاظ على التغذية الجيدة
0 فوضى سينوفاك الصينية.. لقاح واحد و3 نتائج متضاربة
0 "نوع آخر مثير للقلق".. سلالات كورونا المتحورة تنتشر في 50 بلدا
0 إجراء تغييرات إيجابية: نصائح وحيل للتغذية السليمة ولتقوية الاعصاب
0 هل لديك وزن زائد؟ نستطيع مساعدتك
0 يؤثر نظامك الغذائي على صحتك: كيفية الحفاظ على التغذية الجيدة