وضع اللسان العربي في الجزائر
par Mr D. Amar Talbi
في سنة 1962 انتزعت الجزائر استقلالها بعد جهاد مرير، ولكن هذه السياسة الفرنسية اللغوية الثقافية استمرت بوسائل أخرى عديدة منها أنها أنشأت "الأكاديمية البربرية" لتمزيق مجتمعنا تمزيقا لا يقتصر على استعمال اللسان فحسب، وإنما يمتد إلى العرق، فقد ورد في وثيقة صدرت سنة 1973 أن: "تاريخ شمال إفريقيا كما يدرس اليوم كله تزييف وتحريف، ويجب على البربر أن يتحدوا ضد جريمة نكراء اسمها العروبة"
[10] وذلك لنسف سياسة تمكين اللسان العربي ليتخذ مكانته في التعليم والإدارة والحياة اليومية وغيرها، فلجأت السياسة الفرنسية إلى استعمال العرق، وإحياء لسان آخر لا في ذاته، وإنما لينازع العربية، ويصدها عن سبيلها لتبقى الفرنسية مسيطرة في نهاية الأمر.
لم يكن الأمازيغي قبل الصدمة الثقافية أو الإبادة اللغوية بالأحرى يتصور هويته الجزائرية خارج الهوية العربية الإسلامية، وكان ينظر إلى العربية نظرة تقديس، وأصبح بعضهم اليوم يعاديها ويعادي الإسلام ذاته وإن كان هذا ضئيلا محدودا، كما أشار إلى ذلك ابن خدّه رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة في مذكراته.
[11]
والعنصر الرئيسي لهذه النزعة الأمازيغية تمثله بعض العناصر من النخبة التي تخرّجت من المدرسة الفرنسية، وهم جماعة متعصبة لفرنسا
[12] لغة وثقافة كما أشار إلى ذلك محمد حربي
[13] أيضا، ومن هؤلاء من ينكر ذاته ويقع في عشق الرجل الاستعماري ويتماهى به، كما يمثله المحامي بلقاسم إيعزيزن الذي عمّد، وأعطى له اسم أوغسطين، تمثيلا صارخا في التبعية والاندماج، ومعاداة العرب، ويدعي أن الأمازيغي ليس ساميا، وأنه أقرب إلى الشعوب اللاتينية، ومن آثار الأبحاث السيوسولوجية الكولونيالية والاتنوغرافيا أنها غرست هذه الأسطورة الأمازيغية في السياق الانقسامي للمجتمعات المغاربية، وأكد هذا المؤرخ الفرنسي أجرون وبين أن الاتربولوجيا الاستعمارية تصطنع العرقية، برفع شأن العرق الأمازيغي وبالحط من العرق العربي
[14] بطريق علمي مزيف، يقوم به ماكرون ينسبون أنفسهم إلى العلم بقصد الاحتواء الثقافي، والسياسي، والاقتصادي، ويشبه هذا من وجه مّا دعاة الفرعونية في مصر في وقت مّا، ويذهب الكولونيل ديما
[15] والنقيب فابر
[16] إلى أن الشعب القبائلي (الأمازيغي) ورث بعض الأصول الجرمانية، وبذلك فهو أقرب إلى المسيحية، وأن إيمانه بالإسلام ضعيف، وأنه يمكن اصطناع فرنسيين جدد من هؤلاء البربر
[17].
واتخذت الوسائل الكفيلة بالاستيطان اللغوي، مع استيطان الأرض بإدماج السكان في ثقافة فرنسا، وأحدث هذا من التأثير ما لم يحدث في المغرب وتونس، وبذلك ما تزال الثقافة في بلادنا تحمل في طياتها ألغاما آخذة في التفجير شيئا فشيئا، وفي سنة 1962 استقلت الجزائر ولكن هذه السياسة الفرنسية استمرت بوسائل جديدة، منها أن فرنسا أنشأت "الأكاديمية البربرية" تستعمل الحروف اللاتينية في كتابة الأمازيغية، وتؤكد الصراع العرقي الذي تحدثه لتمزيق مجتمعنا لغويا وعرقيا لتبقى السيادة للفرنسية.
ولما نشأت شريحة من المجتمع في الجزائر تخرجت من مدارسها بعد الاستقلال تنطق باللسان العربي أصبحت بمثابة يتامى لغويا فلا هم شرقيون ولا هم غربيون، سدت الأبواب أمامهم، وأخذت مفاتيحها طائفة من الذين يتحكمون وما يزالون في مقاليد معظم الإدارات الحكومية، أمية في اللسان العربي، فغشّى على قلوبها كره وخوف على مصالحها، وتعصب جعلها تجرؤ على احتقار العربية إن سرا وإن علانية، ويسمون الناطقين بالعربية بالرجعية والتخلف، والعاهات الذهنية، وأصبح هؤلاء المعربون حملة الشهادات العربية مبعدين عن الوظائف التي يمسك بزمامها أصحاب الفرنكفونية، في أعلى هيئات الدولة والمؤسسات التربوية، وغيرها، وتفطن لهذا الرئيس بومدين رحمه الله، وعبر عن الجهاز المدرسي بأنه "قنبلة مؤقتة" عند إضراب الطلاب المعرّبين في الجامعة سنة 1975، وفي سنة 1988 انفجرت هذه القنبلة وظهر هذا الفريق المهيمن على حقيقته وكشف هذا عن التيار المعارض للتعريب والتيار الأمازيغي، والتيار الإسلامي أيضا، وادعى المعارضون أن المدرسة الأساسية مدرسة أصولية ولابد من عودة الفرنسية إلى التعليم، وانقسمت المرجعية على نفسها، فوجدت نظرتان مختلفتان إلى العالم الثقافي، وكانت عاقبة ذلك تعارضا شديدا، ففشلت السياسة اللغوية، وأحدث ذلك شرخا في الهوية، وتركزت الأزمة والأخذ والرد في قلب هذه المشكلة، وكشف اللوبي التغريبي عن مواجهته الصارخة لنشر العربية، وضرورة استعمالها في مختلف مظاهر الحياة، وفي هذه الظروف نشأت جمعية الدفاع عن اللغة العربية (1989) وجعلت المدرسة الجزائرية ميدان حرب سياسية، ونشبت أيضا حرب ضروس بين نخبتين، عندما تأسست اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية 13 ماي 2000، دعت هذه اللجنة إلى أولوية الفرنسية لا الانجليزية لغة ثانية بدعوى أنها أقرب إلى المجتمع الجزائري، وأصبحت الصحافة مجالا للصراع، وصمت فيها المدرسة الأساسية أنها خزان للإرهابيين، وصرح أحد أعضاء المجلس الأعلى للدولة لصحيفة فرنسية بأن المنظومة التربوية هي المسؤولة عما سمّاه تصاعد الأصولية في الجزائر، ونصّت المنظومة التربوية الجديدة على أن الفرنسية تدرس في المدرسة الابتدائية ابتداء من السنة الثانية، وأجلت الإنجليزية إلى السنة السابعة، وكان رد الفعل إنشاء "التنسيقية الوطنية لدعم المدرسة الجزائرية" التي قدمت عريضة تدعو فيها لإجراء استفتاء شعبي وأن لا تمر هذه المنظومة بلا استفتاء، وصدر كتاب للسيد علي بن محمد الوزير الأسبق معارضا لهذه المنظومة عنوانه: "المصير والهوية في المنظومة التربوية، الصراع بين الأصالة والانسلاخ في المدرسة الجزائرية"
[18] وحدثت مواجهات بين هذه الجماعة والذين أثرت فيهم الثقافة الأجنبية ولغتها، يتذرعون بالمصلحة، وبأن العربية ليست قادرة على مواكبة التطور العلمي، وأغرب من ذلك فإن جماعة من الجزائريين احتجوا أمام البرلمان الأوربي على الدولة الجزائرية بسبب صدور قانون تعميم استعمال اللغة العربية سنة 1980، وقع هذا الاحتجاج في فترة المجلس الأعلى للدولة الانتقالي، وسعى البرلمان الأوربي في هذا الشأن، وعبّر عن انشغاله بهذا الموقف الذي وقفته الدولة الجزائرية.
[19]
إن اللغة ليست مجرد آلة حيادية، إنها قضية ثقافية ومنظومة قيم، وذهنية وسلوك[20] ولذلك نجد من بين العناصر التي تخرجت باللغة الفرنسية صنفين متباينين، فمالك حداد الكاتب باللسان الفرنسي يعبر عن مأساته لجهله باللسان العربي يقول: "إني في منفى" أما كاتب ياسين فيزعم أن اللسان الفرنسي غنيمة حرب نتخذها للتقدم العلمي والثقافي ونعنى بها. إن الفرنسية بقيت في بلادنا إلى الآن لمدة 179 سنة بما في ذلك عهد الاستقلال وهي مستعملة في الإدارة والاقتصاد والصناعة وفي التعليم العالي، فما هي مكانة الجزائر اليوم في هذه المجالات هل تقدمنا خطوة مهمة؟
[21]
تعاني الجزائر اليوم في اللسان العربي تناقضا صارخا بين الدعوة النظرية والتشريع، من جهة والتطبيق من جهة أخرى فهي رسمية دستوريا،وصدرت في سبيل تعميمها تشريعات كثيرة إلزامية يعاقب مخالفوها وإذا رجعت إلى الواقع وجدت سبلا تعمل لتبقى الجزائر رهينة ثقافة أخرى، وسجينة لغة أجنبية واحدة هي الفرنسية.
[22]
وأما البعد الثالث لهويتنا الثقافية وهي الأمازيغية فقد خرج بعضهم عن حقيقتها الطبيعية واكتسبت أبعادا أخرى انحرفت بها، وأصبحت عنصر تفرقة وتشتيت وعامل اغتراب وانسلاخ.
[23]
صرح سفير فرنسا في الجزائر سنة 2000 غداة صدور تقرير اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية بأن: "بلاده مرتاحة للتعديلات التي عرفتها المنظومة التربوية في الجزائر وخاصة ما يتعلق بإعادة الاعتبار للغة الفرنسية التي أصبحت تدرس ابتدءا من السنة الثانية في المدارس الابتدائية. وهو الأمر الذي ستدعمه فرنسا وتعمل على تشجيعه ماديا ومعنويا وستسعى لدعم مكانة اللغة الفرنسية في الجزائر وذلك بحكم العلاقات التاريخية التي تجمع البلدين".
[24]
يسعى الفرنسيون لنشر لغتهم، ولكن يستعملون وسيطا آخر لإضعاف العربية وبقاء الفرنسية ويدبرون لإحياء الأمازيغية في الجزائر في الوقت الذي يقاومون بضراوة على حد تعبير أستاذنا أيمن مصطفى حجازي، تعليم لغات الأقليات مثل كورسيكا في فرنسا، والباسك وكتلان في اسبانيا، فكل دولة في الاتحاد الأوربي تعتز بلغتها فلا تدرس في المدارس ولا تذيع في أجهزة الإعلام إلا بها، ولا يعرض فيلم أمريكي في ألمانيا مثلا إلا في صورة مدبلجة، وكذلك الأمر في كوريا
[25]، إن هدف من يدعون إلى الفرنسية هو إبعاد الأمازيغية عن العنصرين الآخرين: العربية والإسلام، وهذه دعوة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالفرانكفونية
[26] لضرب وحدة المجتمع واجتثاث أصوله من جذورها، ذلك أن الأمازيغية لها حوالي عشرة فروع تفرعت عنها الأمازيغية الأصلية فأيها يمكن أن يسود ويبعث إلى الحياة؟ إن الأمازيغ القدماء في عهد الرومان لم يستعملوا الأمازيغية لغة كتابة، فهذا أوغسطين وهذا أبوليوس وهما قد استعملا اللغة اللاتينية ولم يتخذ ماسّينيسا اللغة الأمازيغية لغة رسمية وهو الذي قاوم الرومان من أجل الاستقلال.
هذا الاضطراب في النخبة أدى إلى انحسار العربية وزحزحتها عن مواقعها الإستراتيجية في مختلف المجالات وزاد حضور الفرنسية توسعا وتمكنا. إن دولة باكستان استعملت الأردية وأصبحت دولة نووية وأثرت الأردية في اللغات الهندية، وهذه كوريا وما بلغته من شأن في التقدم التقني، وفنلندة والدانمرك كلها استعملت لغاتها.
أما الجزائر فإن الجانب النظري والمبدأ لا غبار عليهما شعبيا ورسميا، فهذا الرئيس بومدين رحمه الله يصرح في خطبة افتتاح الندوة الوطنية الأولى للتعريب 14-17 ماي 1975 :
"....يجب أن يكون واضحا بادئ ذي بدء أننا لا نجتمع اليوم لمناقشة مبدأ التعريب فذلك أمر مفروغ منه، ولا نقاش مطلقا حول المبدأ وببساطة لأن الفرنسي يتكلم الفرنسية والصيني يتكلم بلغته الوطنية والروسي يتكلم بلغته الوطنية حتى الصهيوني الذي يحتل جزءا من أراضينا العربية تمكن من أن يعيد إلى الحياة لغة ميتة أكل عليها الدهر وشرب، من الطبيعي إذن أن نستعمل نحن اللغة العربية، ومن غير الطبيعي جدا ألا نستعمل لغتنا الوطنية، وإذا كان هناك من كانوا بالأمس ضحية أوضاع تاريخية شاذة فلا عذر اليوم لأي أحد، لأن القضية أصبحت قضية كرامة، واللغة العربية هي جزء لا يتجزأ من الشخصية الوطنية التي لن تكتمل إلا باسترجاع أحد مقوماتها الرئيسية وهي اللغة العربية، إن هنالك نقطة أخرى يجب أن تكون واضحة وهي أنه لا مجال للمقارنة أو المفاضلة بين اللغة العربية وأية لغة أخرى فرنسية كانت أو انجليزية لأن الفرنسية كانت وستبقى مثلما بقيت في ظل الاستعمار لغة أجنبية، لا لغة الجماهير الشعبية، وأن ما لم يتمكن المستعمر من تحقيقه بالأمس بالسلاح لن يتحقق بأي حال من الأحوال على أيدي أبناء الشهداء......