تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > منتدى الأدب > منتدى النقد الأدبي

> قرأت لك عن الكاتب القبائلي مولود فرعون

 
أدوات الموضوع
  • ملف العضو
  • معلومات
العيد دوان
زائر
  • المشاركات : n/a
العيد دوان
زائر
قرأت لك عن الكاتب القبائلي مولود فرعون
20-06-2008, 11:23 PM
أولا
قريتـي

أنا لست من أولئك الذين يكرهون قريتهم، وإن كان ثمة أسباب تجعلني لا أفتخر بها كثيرا.
فهي تعرف أني سافرت وعشت بعيدا عنها زمنا طويلا، بيد أنها تعوّدت على عودتي. ونظرا لتكرار غيابي ثم عودتي، فهي لا تنتبه إلي كثيرا. إنها، إن شئتم، لا تخافني. فهي، كل مرة، تخصّني باستقبال بسيط، بوجهها العادي، مثلما تستقبل أبناءها الذين يغادرونها في الصباح ويعودون إليها من الحقول في المساء. إن لهذا النوع من الثقة، وقع كبير في نفسي، أقدره كثيرا.
والذين يعودون إليها ويقولون فيها سوءا، يفعلون ذلك بشيء من الاستخفاف. يؤاخذونها لأنها ذميمة وهي تعذرهم، بما أنها، في أعينهم، تبدو أكثر قبحا عندما يعودون من بعيد بعد غياب طويل، ورؤوسهم تزخر بالأشياء الجميلة. ومهما قالوا، فإنهم، في قرار أنفسهم، يحبونها جدا. إنهم دائما، يخلصون إلى رؤيتها كما هي، بل يختلقون لها الجمال، ويشعرون أنهم ينتسبون إليها. فلا يبقون جددا كما كانوا. كما هناك آخرون يرون فيهم القبح، وهم بدورهم، لا يستقرون على هذه الحال، فيصبح الجميع سواء. وقريتي تتفرج في أبنائها المهاجرين عند الذهاب وعند الإياب، في ثبات، ولا تبالي بغرورهم وهي تتعب آمالهم العريضة ولا تتزعزع.
وإذا استقبلت القادمين الجدد بقسوة، فذلك لأنهم يحملون معهم جو المدينة الآسن. فهي تظن أن الجميع يفهمونها ويحتقرونها. هذا ما يفسر تأثرها المفرط. كأنها تقول لابنها البار:
- يا صغيري، لا تتبختر بحقيبتك وبذلتك الجميلة. لا تنس أن بذلتك هذه ستفقد جدّتها. أنا التي سأعتني بذلك. ولسوف تلطخ بالزيت وتغطى بالغبار فيذهب بريقها. لسوف أحدث فيها ثقوبا. وذات يوم، وهو ليس ببعيد، ستخرجها وتلبسها وتذهب بها إلى الحقل. حينئذ، سترى ماذا ينتظرك! الحقيبة؟ "طيب، لنتحدث! أنا أعرف أين ستذهب هذه الحقيبة. ستذهب فوق "أكوفي"* الخزانة، أليس كذلك؟
- هذا يريحني.
- أمامها الوقت الكافي كي تسودّ بالدخان. وذات يوم ستخرجها لترحل من جديد. إنها ستجلب لك السخرية في القطار وفي الباخرة.
والذين يصلون من باريس مباشرة، عندما ينزلون من السيارة التي أجّروها لإبهار النساء، تفتح كل أبواب كل المنازل. تصبح للقرية، كأن لها مئات العيون أو كأنها هي نفسها تحوّلت إلى عين عملاقة تحدق فيك من أوجه متعددة.
- أزقتي ضيقة وموسخة؟ أنا لست في حاجة إلي الاختفاء. فلقد رأيتكم فرحين وأنتم صغارا تتخبطون مثل فرخ البط الموسخ.
مروا! هذا جامعكم. أكيد أنه يبدو مضحكا ولا يجدي نفعا. ليس مثل ساحة النجمة*! أتدرون كيف أتخيلكم أنا، في ساحة النجمة؟ تقريبا، كما ترون هذا القط الخائف عندما يمر أمام جامعكم المليء بالأطفال العفاريت. كوخكم صغير؟ نسيتم أنه لكم وأنه مليء بالذكريات ويزخر باسمكم وبآمالكم القديمة. إنه شاهد على أحلامكم الساذجة وأخطائكم وآلامكم الماضية. التزموا بالتواضع، ذلك أحسن! ستكونون بخير هنا، وسوف ترون، أنا التي سأضمن لكم ذلك...
ياه! مثل هذا الخطاب لا يعنيني. لا لأنها تخصني بتقدير مميز أو أنها تقدر اختلافي عن الآخرين، بل لأنها كرهت من السخرية مني بعد أن أصبحت تراني دائما. ولئن حدث أن قرأت في عيني نوعا من الاحتقار، وهو أمر خارق، فليس في وسعها إلا هز كتفيها.
- آه! هذا أنت، مرة أخرى؟ كن بسيطا! إنك لا تقلقني... أسرع إلى منزلك. هناك في نهاية الزقاق، حي آيت فلان، أطول الأزقة وأضيقها. الزقاق الذي يشرف على المنازل الشبيهة بالأقفاص ذات القضبان الخشبية، لأن كل واحد يريد أن ينزوي وراء فاصل من الأوتاد. أعرف أنك لست فخورا. ثم بإمكانك أن تلاحظ أن مزبلتي كبرت كثيرا. وسترى ذلك الحائط الذي كان يقي منزل جارتكم العجوز: لقد تهدم في الشتاء الماضي ورمم بالقصب... لا تشغل بالك كثيرا، فهناك من الوحل في الشوارع ما يكفي لتوسخ حذائك اللامع وأسفل سروالك الجديد. ليس الوحل فقط. عندما تجلس على بلاط الجامع...
تهمس في أذني شرورها الصغيرة في جو ودي، وتنجح في إزعاجي كل مرة، ثم تتركني وشأني. ولكني أخفي انزعاجي وأقول لها في مكر:
- أنت تهذين يا عجوز! لقد لاحظت فيك بعض مظاهر الحداثة. فقد تم تصليح الطريق الذي يصل المقبرة. وهو شيء جميل. واتسع وفرش بالأحجار. أعرف أنك فخورة بذلك، لا تنكري. هنالك مستودع لم يكن موجودا. بجانبه معصرة الزيتون ورحى الحبوب ذات صوت الدراجة النارية. كما حدثني بعض الناس عن مخبزة ذات العاجنة الميكانيكية. أنت الآن تأخذين الطابع الميكانيكي وتزدادين في الوتيرة! الأوساخ تقلقك؟ في الواقع، هناك أوساخ في كل مكان، وحتى في المدينة. الفارق أن هناك، كل شيء مخف. لا نرى شيئا ولكن الإفساد أكثر. الجو فيها آسن، وهذه حقيقة. صبّري نفسك يا عجوز!
أعرف أننا لن تغير وجهك تماما. وقد نتسبب في قبحه بمحاولاتنا ومحاكاتنا. لونك لون التراب وأنت مصنوعة من التراب. والتراب نقي متواضع وطاهر مثل القروية الفقيرة، بيد أنها حسنة المنشأ. ولكي تغيّري وجهك، لا بد أن تطليه وتمحي، ثم تحملي رمادك بعيدا ثم تشيّدين نفسك فوق هذا الرماد. بمعنى أنك أنت ستقضين على حياتك ونحن سنتوقف عن حبك.
إذن، لماذا تغتاظين وتسيئين استقبالنا؟ هل هناك دليل أحسن على الارتباط بك، مثل عودتنا العنيدة؟ لنجعل أننا متعلقين بك وأنك متعلقة بنا بقوة، وأننا لا نستطيع التنكر لبعضنا.
إن الذين نسوك، وأنت لا تجهلين ذلك، ليس في وسعهم سوى النسيان لأنهم يعيشون حياة رغدة، وهو شيء يغتفر. لقد تمكن منهم الشك، وهو شك يريحهم. ولو رأيت سعة عيشهم في قلب التمدن، لانمحيت باحتشام ولتمنيت أن تواري نفسك تحت التراب. مع ذلك فهم يشرفونك! وفي العسر: الديون، المرض، البؤس، الشيخوخة – لا يمكن أن نحتاط لكل شيء- يقولون في أنفسهم إن الوقت قد حان كي يعودوا. يتذكرون كل ما له علاقة بك فتلين قلوبهم. وبما أنهم يحتاجون إليك، فإنه يعمدون إلى محبتك. ثم ذات مساء، يأتونك لاسترجاع أماكنهم التي احتفظت بها بإخلاص من أجلهم. ولو أن، في أغلب الأحيان، يكون هذا المكان عبارة عن حفرة مستطيلة الشكل، هناك في نهاية السفر؛ عند نهاية الطريق المعبد، أين ننتهي كلنا في يوم من الأيام. قبر صغير سيقترن بغيره من القبور لأنه لن يحمل أية علامة مميزة وأنه، ابتداء من أول ربيع، سيتغطى بأعشاب واهنة وبأزهار بيضاء."
من كتاب: Jours de Kabylie
ترجمة الأستاذ العيد دوان[/B][/B][/B][/B]
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية روان علي شريف
روان علي شريف
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 11-04-2007
  • الدولة : وهران الباهية - الجزائر-
  • المشاركات : 2,556
  • معدل تقييم المستوى :

    20

  • روان علي شريف is on a distinguished road
الصورة الرمزية روان علي شريف
روان علي شريف
شروقي
رد: قرأت لك عن الكاتب القبائلي مولود فرعون
21-06-2008, 09:00 AM
اخي الأستاذ العيد دوان نحن في منتدى شروق نثمن مجهودك هذا الذي بفضلك يمكن للأعضاء او الزوار اكتشاف
أدب المرحوم ملود فرعون الذي يبقى من معالم الادب الجزائري برغم مرور 48 سنة على اغتياله الا انه يبقى في
قلوب الجزائريين ولا اقول القبائليين كما قلت.
في الوقت التي يتكتل فيه الجرمان ،الاسبان،الطليان وكل شعوب اوروبا تحت مسمى اوروبا الموحدة تاتي انت لتقول
الكاتب القبائلي بدلا ان تقول الكاتب الجزائري.
ما عادا هاته الملاحظة أشكرك اخي على الترجمة والمجهود القيم الذي قمت به.
شكرا لك.
ان احسست بالاختناق فابحث عن الحرية حيث ما تكون لكي لا تموت.

  • ملف العضو
  • معلومات
العيد دوان
زائر
  • المشاركات : n/a
العيد دوان
زائر
رد: قرأت لك عن الكاتب القبائلي مولود فرعون
17-08-2008, 07:58 PM
أخي علي،
أشكرك على الرد وإن كان يبيّت شيئا من العتاب الخفي. كان عليّ أن أتغاضى عنه ونمرّ إلى ما هو أجدى وأنفع لولا أني تذكرت أن العاتب مشرف. والعتاب إذا صدر من موقع المسؤولية يتضمن معنى التحذير مما يعني أن الذنب حاصل في الجهة الأخرى. وإلا ما معنى كلامك "أدب المرحوم مولود فرعون الذي يبقى من معالم الأدب الجزائري... ويبقى في قلوب الجزائريين ولا أقول القبائليين كما قلت"؟ لا أدري في أي موقع قلت مثل هذا الكلام ومع ذلك فأنا أزكيه وأتبناه ولا أرى في ذلك أي خلل يستحق قدر قلامة من اللوم. فأنا يا أخي، قبائلي أشهد، وإن كنت غير ملزم، أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. لغتي القبائلية أولا، ثم العربية في الدرجة الثانية وقد أختار الثالثة إن شئت. أما بلادي فهي الجزائر ثم الجزائر ولا غير الجزائر.
أما قولك:" في الوقت التي يتكتل فيه الجرمان ،الأسبان،الطليان وكل شعوب أوروبا تحت مسمى أوروبا الموحدة تأتي أنت لتقول الكاتب القبائلي بدلا أن تقول الكاتب الجزائري" فهذا الكلام مردود جملة وتفصيلا. وهو من الباب الحق الذي أريد به باطل. فالتكتلات يا أخي لا تنفي الجزئيات ولا تكبتها. والانتساب إلى فئة لا ينفي الانتماء إلى شعب أو أمة. ثم لماذا الخلط بين القضايا؟ أليس الأحسن أن نسمي الأشياء بمسمياتها؟ ثم ألم يأت الوقت كي ننسى هذه الطفيليات من القول ونعتني بعظائم الأمور؟ فبالأمس فقط تمكنت إيران من إرسال قمر صناعي من صنع محلي وهي تحقق العديد من النجاحات في ميادين مختلفة... إلخ هذه هي المواضيع التي تحتاج إلى الانتباه. أما حكاية أنا قبائلي وأنت كرغلي فقد مل الدهر منها حتى سكر، وإن بقيت صالحة للفن والأدب والفولكلور وهي أمور تفقد من قيمتها ومعانيها إذا أخرجت من سياقها وهذا الذي جعلني أفضل استعمال عبارة "كاتب قبائلي". وإن أهل النقد الأدبي يدركون ويفقهون معنى هذا الكلام.
والسلام عليكم ورحمة الله
العيد القبائلي.
التعديل الأخير تم بواسطة العيد دوان ; 17-08-2008 الساعة 08:01 PM
  • ملف العضو
  • معلومات
العيد دوان
زائر
  • المشاركات : n/a
العيد دوان
زائر
رد: قرأت لك عن الكاتب القبائلي مولود فرعون
18-08-2008, 03:32 PM
بعد توقف مديد نسبيا، لأسباب لا مجال لذكرها، هاأنذا أجدد العهد مع كتاب "أيام القبائل" لمولود فرعون الذي هو عبارة عن خواطر مركزة تتناول بعض يوميات المجتمع القبائلي. في المرة السابقة نشرنا ما يتعلق بالقرية على العموم. هذه المرة أنقل لكم ما يتعلق بجزء من النمط المعيشي الذي طبع حياة القبائل وما يزال ألا وهو الجامع الذي يمكن اعتباره برلمانا بدائيا فيه تتقرر الخطوط العريضة للعلاقات الداخلية والخارجية للقرية. للتذكير فإن الجامع عند القبائل يحمل معنيين لا ينفصلان عن بعضهما: مكان الاجتماع والجماعة الممثلة للقرية ولا يكون مسجدا بالضرورة.

ثانيـا

جامع بني فـلان
إن الجامع للرجال. لجميع الرجال. وهو ملك للأوقاف. فحسبك اسمه. بما أنه يسمى جامع، فأينما وجد، سواء في مدخل القرية أو في وسطها أو في أي مكان، أو أنه لا يتوفر إلا على أرصفة متداخلة مع الطريق، فهذا لا ينقص منه شيئا. له تاريخه وأهميته، كما له زبائنه.
لكل حي جامعه: لأهل الحي الأعلى جامع – ثاجماعث-أوفلى – ولأهل الحي الأسفل جامع أيضا – ثاجماعث-بوادا. وكذلك للحي الأوسط جامع يسمى أي شيء. في نهاية المطاف، هناك: جامعنا وجامعكم وجامعهم. وهكذا دواليك.
جامعنا، بطبيعة الحال، هو الأفضل. أنا، لا شك في ذلك. وأنا أحتقر الجوامع الأخرى قليلا. إنها قضية مبادئ. يجب أن نتمسك بما عندنا!
للرجال منازلهم وحقولهم، وبما أنه لا يكفي، فلهم جامع. وعليه فإنهم راضون تمام الرضا. والجامع ليس ملكا للحي. كل واحد يتخيل أنه يملكه هو وحده. لذلك، عندما يقول أحدهم "جامعنا"، فهو يعني "جامع-أنا". وهذا الشعور يساعده على الصبر وينسيه منزله الصغير جدا وساحته الضيقة.
تراه يسترخي على بلاط الجامع أو يتمدد ويقيل أو يدردش فيه مع الغير، محاط برجال عشيرته. المقاعد شاغرة وعريضة للعاطلين ولا داعي للتزاحم عند الجلوس. وإذا حدث مثلا، أن امتلأت، فلا بد من التظاهر بالسرور :) والأنس: منظر يعجب النظر. هذا، ويحتمل أن يكون بين الحاضرين أعداء أو أناس يتباغضون:D ويتفادون التماس أو التقارب. فالجامع ملك للجميع على العموم، وهو ملك لكل واحد على وجه الخصوص.
بإمكانك أن ترى، أسفل المقعد العريض، دولابا كبيرا من الحجر ذي اللون الأحمر. أوتي به من النهر على أكتاف مجهولين. وجدته هنا منذ مجيئي إلى هذه الحياة، وما يزال. الفلاح يشحذ عليه بلطته والتلميذ يحك عليه أقلامه والراعي يسن عليه سكينه.
هذه الرحى البدوية، كأنها لي. رأيتها مرة أخرى، منذ زمن غير بعيد. كأنها كانت تنتظرني، فنظرتها بعين المالك. كنت أود الجلوس بجانبها؛ بالمناسبة، كنت أحمل معي سكينا صغيرا. لماذا لم يوجد سوى ذلك الحجر ليستقبلني؟ نسيت أن أقول أن المقاعد تم تجديدها كما تم تغيير البلاط وتزيين الجامع كلية. فل لم يبق كما كان. أنا هناك، مثل أي ضيف. بيد أن الدولاب الأحمر، لم يبرح مكانه. وتجدد اللقاء فورا.
صورة الجامع القديم بقيت كاملة في ذهني. لا تختلف كثيرا عما نراه حاليا. ولكني أفضل الصورة الراسخة في ذهني. وهو شيء طبيعي. في السابق، لم يكن هناك سوى مقعد واحد مغطى. وكان الأمين والمرابي يتشرفان بالجلوس فيه؛ شخصيتان تتمتعان بالأولوية والأهمية. والاثنان من عشيرتنا. وعندما يصل الأمين، يتركون له المكان طواعية. إنه دبلوماسي محنك، وأصحاب الحي يفتخرون به. يستحق كل التقدير، وذلك كان مقبولا. أما الآخر فنعرف المدينين له من خلال اندفاعهم عندما يشعرون بقدومه.
كان بدينا وثقيلا. عندما يجلس يستحوذ على كل بلاط المقعد. وعلى الذي يجلس بجنبه أن يبتعد عنه قليلا، لأنه لا يحب الملامسة. وبما أن أهل القرية قد يحتاجون إليه، من يدري، فإنهم لا يظهرون كراهيتهم له، بل يتظاهرون بالاهتمام بكل ما يقول. هو إنسان ماكر:cool: ويعرف الناس جيدا ويطلع على بواطن أفكارهم. وعندما يلعب معه المقرضون، يقبلون أن يخسروا أمامه مجاملة وهو يعلن انتصاره ساخرا منهم، كأنه يقول لهم "نعم، من مصلحتكم أن تخسروا."
باستثناء الأمين والمرابي، لا يفاضل أهل الحي بين المقاعد. يجلسون في أي مكان. مع العلم أن هناك مكان خاص بأو-سعادة. وهو رجل أعمى، كان يحب هذا المقعد ولا ندري لماذا. بمرور الزمن، أصبح يسمى: "مقعد أو-سعادة." وبقيت التسمية منذ ذلك الوقت. هذا الشخص، كنت أعرفه قليلا، والذين لم يروه قط، ما زالوا يسمون المقعد كذلك دون فضول.
أعترف هنا أن علاقاتي بثاجماعث لم تكن شيئا ذا بال. وكنت أظن أن هذا يسمح لي باللامبالاة حيالها، كما أن هذا يفسر حضوري الغريزي في شبابي. بلى، كنت على خطأ. فجامعنا قد تغيّر فعلا. أحد القدامى شرح لي ذلك، بعد أن فهم أني كنت مستعدا لأستمع إليه. وجدته يطارد الصبيان وهم يصرخون ويقفزون من مقعد إلى آخر، وهو يضرب بعصاه فوق البلاط.
- حاول أن تمسنا يا حمادوش الشرير، قال له أكثرهم وقاحة.
ثم طاروا مثل العصافير وعاد إلي:
- رأيت ! لا يخشون أحدا. هم الأسياد الآن.
- لا تغضب:D يا بابا أحمد. الجامع للجميع والأطفال يحبون أن يمرحوا.
- نعم، هذا صحيح. أنا على خطأ. الناس لا يربون أولادهم، وهؤلاء أصبحوا يحكمون آباءهم وأمهاتهم، وحتى معلميهم. وأنا هنا، أقلق نفسي عبثا. ربما، هذا تشوق للماضي. الصبيان يسخرون مني والشباب يهينونني. لا أحبهم، أنا أيضا. لسوف أذيقهم مرارة العيش، ما دمت على قيد الحياة.
- في الماضي، كان أفضل.
- لمن يعود الذنب؟ أوه ! هؤلاء ليس ذنبهم. أتظن أن هذا الإهمال يثير الاستغراب؟ يتظاهرون بأنهم لا يرون شيئا. نسينا دروس آبائنا.
- الزمان أيضا يتغير، وهذا أفضل.
- يتغير لأننا أهملناه. أنا أعرف أن الجامع للجميع، لجميع الرجال. ولكن ليس هناك رجال. إذن، لن يكون هناك جامع.
- هذا شيء منطقي.
- منطقي؟ نأتي إلى الجامع لنتصرف مثل الرجال ونستعمل لغة الرجال وننظر إلى الغير في الوجوه: الأخ والصديق والعدو. نأتي لنستمع إلى الكبار أو نعلم الصغار. نأتي لنبيّن أنفسنا ولا نترك مكاننا شاغرا. ليس هناك أجمل من جامع عامر مثل أسرة كبيرة موحدة، عازمة وقوية. هكذا كان الجامع سابقا. وعندما يبعث "أصحاب الجهة المقابلة" جواسيسهم كي يتجسسوا علينا، فإننا نرحب بهم كي يفهموا أنهم ليسوا عند ذويهم. وكانوا يتصاغرون أمامنا؛ يمكثون معنا قليلا، تخلقا، ثم يرجعون عند ذويهم وقلوبهم مريضة. فالجامع هو شرف العشيرة. هو مكان الكلام الموزون وأفعال الرجال.
- بابا أحمد، إن أول تصرف رجولي صدر مني، كان في الجامع.
- آه ! رأيت.
- نعم، نعم، وكان عمري سنتان. جئت بين ذراعي والدي. وكان معنا موح- السعيد، رحمه الله، وكان يحلق شعر أحد الناس. ولما رآني أبكي، منح لي مقصا لأتسلى.
- طيب.
- طيب، وهذا المقص ما زال عندنا في المنزل منذ خمسة وثلاثين عاما. لم أرد إرجاعه، وهو نسيه. هذه القصة سمعتها عن والدي.
- أنت تمزح ! فهمت. لا، لم يكونوا يطردون الأطفال في السابق. هم رجال، لا شك في ذلك. ولكنهم كانوا يجلسون بجانب الرجال لكي يسمعوا وكان ذلك مشجع للآباء. وإلا سيذهبون إلى المقبرة أو إلى الخلاء ليتعاركوا. كانوا يعرفون أن الجامع للناس الجادين. لا تقل أنك لا تتذكر كل هذه الأشياء!
أكيد أنني أتذكّرها. كنت قطعة من الرجال وكنت ألتزم الهدوء. وكنت أمكث عدة ساعات بين عفريتين كبيرين أستمع إليهما. كنا، أنا وبعض الصغار، نترك ألعابنا ونذهب إلى الجامع لنستمع إلى الرجال. كنا آنذاك ما بين الحادية والثانية والثالثة عشر عاما من العمر. والجامع كان يمتلئ في المساء على العموم. يأتي إليه الفلاحون العائدون من الحقول لإنهاء يومهم، تاركين منازلهم للنساء كي يحضّرن الطعام. والاستراحة قد تدوم حتى الليل كما قد تطول، إذا كان القمر بدرا. كل المعلومات التي تراكمت في ذهني والتي سمعتها عن الرجال، ليست مقبولة على الإطلاق. كنت أسمعهم يتحدثون عن أوربا وغيرها، مستعينا ببعض المعلومات الجغرافيا الغامضة: باريس، الشمال، الوسط، الشرق، الغرب. كان علي أن أتبع الراوي إلى المنجم والمعمل، وأرافقه إلى السجن والمعتقل، عند القرويين وفي الحانة والمعرض كما عند الفتيات وأثناء الشجار. كان علي أن أرافقه إلى الخارج وإلى الثكنة والمعركة وإلى الجبهة مثل بطل رواية مستحيلة. إنه البطل العملاق الذي ينجو دائما ولا يقف دون الخطر أو الشبهة أو الكذب. ثم هناك أشياء تخص أهالينا، وهي معروفة، ولكنها ضرورية.
أهالينا لم يكن يساورهم أدنى شك في قيمة التعليم الذي يتلقاه الأطفال في الجامع. كانت مفيدة، فعلا. كنا نستمع في نهم إلى كل شيء ونصدق كل شيء كما كنا نخلص إلى معرفة كل شيء. فخيالنا نحن الأطفال، كان يتجول بكل حرية في مختلف الأرجاء. كنا نفكر في مستقبلنا المحتمل بجدية الكبار. البلاط كانت أغلظ من القطن. والدروس التي كنا نتلقاها كانت شاقة ونيئة. إلى جانب ذلك كانت دروس الأخلاق التي يقدمها المعلم واهنة، مثل ماء الورد. وكنا نحبها طبعا. مع ذلك فقد كانت أقل إبهارا.
وأحيانا، وأعني في غالب الأحيان، ولأسباب لم نكن نستوعبها دائما، نشهد نزالا بين فتيين. لحظة خفقان القلب عند الصبيان الذين يشاركون خفية. وللمتنازلين فسحة من الوقت كي يتبادلا بعض الضربات قبل أن ينهض الجميع ليفكوا بينهما. يتوصلون إلى الفصل بينهما، إلا أن الشجار قد يعم الحضور فتتعقد الأمور. أما الأطفال فلا يتحركون أبدا: المشهد ممتع؛ يتفرجون. وعندما يدركون أن الأمر يعنيهم، يظهر أجسرهم في مستوى الحدث فيرمي حجرة وسط الجمع. وينتهي كل شيء فيتم مرافقة المختصمين إلى أهليهما وتمتلئ المقاعد بالناس الهادئين مجددا.
إن هيئة الجماعة الهادئة، هيئة محترمة. الرجال يجلسون عادة، على البلاط متكئين على الجدار. الركبتان ملتصقتان بالصدر والرجلان تحت البرنس. تراهم في حالة الانكماش كأنهم سجناء أحكامهم المسبقة التي يتشبثون بها فوق كل شيء، إلا أن رؤوسهم تبقى يقظة وعيونهم تلمع من المكر. ترى الأحذية مرصوفة تحت المقاعد، معلنة رغبتها في الراحة التي دفعت الفلاحين خارج بيوتهم فيأتون ليعمروا الجامع. وما أن يشعروا بخطر ما، تنفتح البرانس فتتباعد السيقان وتتطاير الأحذية ثم يشرع في اللعب.
يمكن لبابا أحمد أن يتأسف:( من جامعه وأنا معه. لقد غيّر الشباب رأيهم وقرروا احتلال كل جوامع القرية. فقد استولوا عليها، ثم راحوا ينتقصون من شأنها جميعها ويستخفون منها وهم يتهكمون حتى من المبادئ.
- ذلك الغراب العجوز، يقول أحدهم، يبغضنا لأن لديه فتاتين وأصحابنا، من الجهة المقابلة، يأتون وينتظروننا هنا. هو يظن أنهم هنا من أجل ابنتيه. نحن أيضا نذهب عندهم ونرى بناتهم! وهذا لا يعجبهم طبعا. ولكن لو عملنا على إرضاء هؤلاء الشيوخ لكان لهم رأي لآخر. نحن نعرف جيدا ماذا يريدون. إي نعم. إنهم في حاجة إلى التحزب والسياسة وإلى كثير من الحسد والكراهية. وكراهيتهم بلغت درجة التعفن. حسبك أن تعرف ماذا حققوا في حياتهم. ليس أكثر من اختراع المحراث، على كل حال! أولهم اخترع محراثا من الخشب، ومنذ ذلك العهد، لا شيء. فما عليهم إلا أن يسكتوا. نحن، لا حاجة لنا إلى الجامع. هناك المقهى. وعندما نأتي إلى هنا، فلبعض الوقت فقط، ومن أجل إثارتهم. فلتسقط وحشية القدامى بين أبناء القرية الواحدة! ولتسقط المراسيم !
أنا من جهتي، أتمسك كثيرا بذكرياتي ولكن الشباب يتمسكون بأفكارهم والشبيبة هي التي ستغير العالم.
في الأسبوع الماضي تلقيت بعثة من شباب أبناء عمومتي جاؤوا يريدون استشارتي.
- قررنا أن نجدد جماعتنا.
- مرة أخرى !
- مرة أخرى، طبعا. نحن نعتمد عليك وعلى كبار شبابنا.
- آه ! وشيوخنا، إذن؟
- الشيوخ؟ يجب أن تعرف أنهم غير موافقين. هم، لا يهمهم إلا المسجد. يريدون أن يغيروه. مسجد كل القرية.
- قد يكونون على حق. مسجد كل القرية !
- تحديدا، نحن لا تهمنا القرية، بل تهمنا العشيرة، نحن الشباب.
- هيه ! ومنذ متى؟
- نحن بني فلان، أم لا؟ تعرف، أصحاب الجهة العليا جددوا جماعتهم. هي مسألة شرف يا ابن العم، حذار! لقد أهملنا الشيوخ ويجب علينا أن نرفع المشعل. أهالينا في باريس أرسلوا لنا ثمانين ألف فرنك. كما كتبنا إلى أصدقائنا بمنطقتي ليل وألزاس. على كل واحد أن يتبرع بما يستطيع. يجب أن يبقى جامعنا أجمل.
رجعوا كلهم وهم راضين، ضامنين أني أهتم كثيرا بجامعنا. ثم قلت في نفسي: عندما سأزوره الشهر القادم، سأجده مشوها. وربما سأجد رحاي الحجرية الحمراء العتيقة؟

إعداد وترجمة العيد دوان
  • ملف العضو
  • معلومات
العيد دوان
زائر
  • المشاركات : n/a
العيد دوان
زائر
رد: قرأت لك عن الكاتب القبائلي مولود فرعون
29-08-2008, 02:43 PM
فئة المرابطين جزء لايتجزأ من النسيج الاجتماعي للقبائل. هم الذين كانوا يحملون راية الدين وهم المرجعية الأساسية في تنظيم حياتهم. للتذكير فإن لكل قبيلة مرابطوها.

ثالثا

أولاد سـي شريف
إلهي، خلقتني قويا وحيدا،
اتركني أنام نوم التراب.


أولاد سي شريف، نفعنا الله ببركة أجداده ! يجب قول الحق، لكن ليس بالأمر البسيط. المرابطون هم أناس شديدو الحساسية ولا نتحدث عنهم بموضوعية. من هنا، فهم لا يربحون شيئا والذين يحكمون عليهم ليسوا مرتاحي الضمير وذلك من باب:" من دخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه." عند وقوع أية مصيبة، يدرك المعني بذنبه، فيحاول التكفير عن سيئاته. ولكن المصيبة وقعت ولم يبق له إلا أن يسكت ويرتمي في أحضان العبادة.
لذلك لا شيء يشيب هذه الكلام. الله يحفظني! المرابطون يعرفونني جيدا. مرابطو بلدتي، على الأقل. أناديهم "سيدي" تماما مثل أي كان. وعندما أقبّل رؤوسهم، أعرف جيدا أنهم لن يقبّلوا رأسي وأنهم سيتصنعون الرفض وأنهم في الأخير، سيبرزون الجبهة قائلين:
- عليك بركة جدي !
بالنظر إلى قيمة هذه البركة، من الأفضل أن نكسبها. ولكن استخفافنا يضيّعها كل مرة، بأسرع ما منحت لنا، بحيث لا نتأكد أبدا من تأييد جد أولاد شريف لنا. وحتى هؤلاء في واقع الحال، ينسون مزاياهم الوهمية؛ فإنهم يتصرفون تقريبا مثل كل الناس، في قرية يحتاجون فيها إلى الشفقة أكثر من حاجتهم إلى الاحترام؛ في قرية، لا نقبل فيها أي استعلاء. فنحن ننادي المرابط سيدي، تقديرا لأسلافه ونقبّل رأسه أو يده لنبق غير مدينين له. ولا نطلب أي شيء آخر. كم أن علينا أن ننادي زوجته: لالاّ. وهي لا تغادر منزلها إلا إذا شابت وأصبحت عجوزا. ثم طبعا، لا يمكننا نقبّلها.
يوجد بالقرية عائلة واحدة من المرابطين، تضاعف عدد أفرادها بمر السنين. إنهم هنا منذ عهود خلت. واليوم، يوهموننا أن كتبهم تحتوي على كل تاريخ القرية. ونحن من جهتنا، نرى أن هذه الكتب غير موجودة أو أنها غير مفهومة. نعتقد أن التاريخ الذي يرويه المرابطون لا يعني القبائل، بل يتعلق بالأسياد القدامى – نفعنا الله ببركتهم – لا غير.
والبركة أمر يقر به الناس بدون مناقشة، وتكرسها القبة البيضاء التي تعلو على المنازل المجهرية المنخفضة ، فلماذا البحث بعيدا. لسنا في حاجة إلى معرفة أكثر، شريطة أن يبقى ذلك من الأمور التي قضت. نحن نحب الماضي. وهؤلاء الناس الشجعان، لا نعترف لهم بأي استحقاق. نحن مضطرون أن ننظر إليهم كما هم حاليا. وهذا لا يرفع من شأنهم قط، وليس لهم أن يشترطوا شيئا، والشيخ يدرك ذلك تمام الإدراك !
- أنا، يقول الشيخ، أفهم جيدا حجتكم المفضلة ضدنا، أنتم القبائل، وهي:"افعلوا ما أقول، لا ما أفعل." والفلاح لا يرى بعيدا، طبعا. هو يحكم علينا بضمير مرتاح، كما لو كنا ملزمين بأن نضع أنفسنا محل القدوة. لا، نحن نقول لكم:"افعلوا هذا، لأنه قانون، ولا تفعلوا ذلك لأنه مخالف للقانون."
وأنا أجيب:
- إنكم تعلموننا القانون، هذا جيد جدا. ولكن، عليكم أن تطبقوه أنتم أولا. إلا أنكم...
- لا يكفي معرفة القانون لتنفيذه. أنتم تلوموننا على أننا رجال مثلكم. ولا يكفي أنكم تؤاخذوننا بل تنكرون القانون وتحملوننا مسؤولية ذلك. فعندما نسيء التصرف، لا يمكننا أن نقول لكم:"افعلوا ما نفعله نحن."
هذا النوع من الخطاب مع شيخنا، ليس له نهاية. لهذا لا نطيل الكلام وننهي حوارنا بأشياء مبتذلة.
أنا أحترم شيخنا كثيرا مع أنه في سني. صحيح أن السن لا شأن له هنا. عندما كنا شابين نحن الاثنين، لم نكن نتصور أننا سنبلغ ما بلغناه اليوم. إلا أنه، شيئا فشيئا، أصبح ينزع نحو أصوله. فقد كان يشاركنا الألعاب ويتعارك معنا كما كان يرافقنا إلى المدرسة الابتدائية. وكنا ننسى بسهولة أن آباءنا يحترمون أباه وكنا نتغافل نداءه سيدي. وكان يتعلم اللغة العربية مع أبناء عمومته في الصباح الباكر أو في المساء، ولا أحد يعرف ذلك باستثناء المعلم الذي قال له يوما:
- لا يجب الركض وراء أرنبين في آن واحد: إما الفرنسية أو العربية!
أتذكر أن معلمنا في يوم من الأيام، كان يلمح إلى مدرسة ما، يتصرف فيها التلاميذ مثل الببغاوات فقال:"القراءة بدون فهم كالصيد بدون مصيدة." كل التلاميذ كانوا مع المعلم، بما فيهم شيخنا إمام المستقبل، والذي لم يتوان عن الصيد بدون مصيدة.
لكن المصيدة ستتوفر له في المستقبل، عندما يموت أبوه برائحة القداسة. فقد ترك وصية مكتوبة بيده، قرئت في المقبرة أمام الملأ:" بسم الله الرحمن الرحيم، أنا إمامكم، أفارقكم اليوم لأدخل ملك الله المقدس، كما جئت عبدا ضعيفا، لأحاسب أمامه... أحييكم داعيا الله أن يغفر لكم ويبارك فيكم." كان الموقف جد مهيب وكانت عيوننا مليئة بالدموع. ثم ختمت الخطبة بدعوة ملحّة للإخوان المخلصين إلى إنابة ابنه الذي، رغم تجربته الضعيفة، يحمل الخاتم الإلهي. وهكذا جاءنا شيخ جديد.
أما نحن الذين كنا نعرفه، فقد كنا ندرك أنه لن يتغير بين عشية وضحاها. ولكن الظروف جعلتنا نخصّه بمكانة مميزة، المكانة الأولى؛ مكانة المشايخ. فأثناء الجنائز يرتاح له أهل الميت عندما يشاهدونه في مقدمة الموكب وهو يلبس الأبيض ويرتل القرآن مع مرابطين أجانب. ونفس الشيء أثناء مراسيم الزواج. ثم إنه يذهب عند كل الناس. والجميع يعاملونه معاملة خاصة، بما فيهم البسطاء والأغنياء. فالأثرياء يشترطون عليه الدعوات الطويلة بينما الفقراء يسهرون على راحته ويسألونه عن جودة طعامهم معتذرين عن أوانيهم الرديئة.
شيخنا لم يسبق أن أباح لي بأي سر من أسراره. بل يمكنني أن أؤكد أنه كان متضايقا في البداية وأنه لم يتكيف مع حالته الجديدة إلا شيئا فشيئا. أنا أضع نفسي في مكانه! أما الآن فقد تحسنت أحواله. وهو أمر واضح للعيان. يعرف الخطاب المناسب لكل واحد كما يعرف كيف يتخذ المواقف. ثم إن القبائل الآن، لا يحرجونه كما في السابق.
مع كبار السن، يتظاهر بالتعصب إلى أبعد الحدود: فلا يلومونه أبدا. عندما يصلّون وراءه في القبة، يقولون عنه إنه مثل أبيه – أنزل الله عليهم بركاته – وإنه من حيث الحيوية والورع، لا يجدون أفضل منه في القبيلة.
هو عالم بين العجائز اللائي يزرنه ليطلبن منه وصفة أو تميمة. كنا نعرف أنه يفعل ذلك مقابل أجر. شيء طبيعي. ثم أين المانع؟ فهن راضيات ولا يبدين أي اعتراض. بالعكس، بالنظر إلى درج الاحترام الذي يكنه له، نكاد نقرّ بأنه فعلا، مخصص بالخاتم الإلهي. ف"يده شفاء" كما تقول عجائزنا.
نحن الشباب نضحك، وأحيانا ننتقده فيما بيننا، وقلما نلومه صراحة، لأنه معنا أيضا، يستعمل أسلوبا خاصا. فهو يتحدث ويمزح ويضحك، ويتعامل معنا مثل أي زميل. وأحيانا يذكرنا بذلك الذي كان يلعب معنا في المدرسة. وقد يتضايق من مهنته، ولكن ماذا بوسعه أن يفعله؟ يتكيف معنا بسهولة إلى أن يأتي الشيوخ فيقلقوننا. وهو حينئذ، يستنجد بقول مأثور ممزوج بجملة عربية ويستعيد بها شيئا من كرامته التي يغطي بها نفسه.
إمامنا، لا يخفي احتقاره لظاهرة التطيّر والطرق التربوية المطبقة في الزوايا. لم ينس دروس المدرسة الابتدائية؛ يمكنني القول أن هذه الدروس، يتذكرها فقط، أمامنا. عجائب الرياضيات وقاعدة اسم الفاعل ودوران الأرض، هل كان عليه أن ينكر، من أجل ذلك، السماوات السبعة أمام الإخوان الشيوخ والاعتراف بدوران الأرض؟ هل كان عليه أن يشرح للعجائز أن التمائم لا تشفي إلا التصورات المعطوبة أو يشكك في المزايا المتعددة للسور القرآنية؟ الإمام يجعل نفسه في متناول كل واحد. وهنا يكمن استحقاقه. يجب أن نفهم.
حسنا، أنا خلصت إلى الفهم. فهمت، لما أصبت بمرض الحمى. والحمى، كلنا يعرف ما هي. هناك الذباب وهناك الكينيين. والشيخ يعرف ذلك أيضا.
لقد جاءني يوما ليعودني وأنا مريض، وكنت أرتعد تحت الأغطية.
- أنت مصاب بالكينيين؟
- نعم، نعم.
- ولا تريد أن تزول عنك؟
- لا. أنت ترى بعينك.
سكت لحظة. وكان يبدو عليه الحرج قليلا، وهو ينظر إلي، ثم اتخذ القرار وأخرج أدواته.
- اسمع، أظن أننا "أمسكنا" بالحمى. جدي كان يكتب ضد حمى المستنقعات، وأبي أيضا. وها أنا أحاول بدوري، والناس يقرون بجدوى ذلك. اسمع، يجب أن نحاول. لا تتظاهر بالقوة الروحية. الجراثيم وكل ما شابه ذلك، في حقيقة الأمر، مقبولة عندما نكون في صحة جيدة. أما عندما نصاب بالمرض، فشيء آخر، أليس كذلك؟ نشعر بأننا صغار وضعاف بين يدي الله، وهو الشافي، في نهاية المطاف، هيه؟ فكر قليلا. الكينيين، لا أقول العكس، لكن مع ذلك يجب أن نحاول.
أوه! كان الشيخ ودودا! حالتي كانت سيئة للغاية. لا تظنوا أنه لم يقنعن! فقد قبلت كل علاجه، كما استحوذ علي بعد الشفاء. هذا لا يعني أني أنكر الكينيين، ولكن الشيخ سينتظرني عند المنعرج: فقد أخذل في يوم من الأيام ويأتيني مبتسما وهكذا.
إن شيخنا يعرف متى نحتاج إلى الإيمان . ففي تلك الأوقات ننزع نحو السذاجة والليونة مثل الصبيان. هي أوقات جد مهمة في عينه وفيها نكون قريبين إلى الله. أما الذين قد يساورهم الشك، لهم أن يقتدوا به. فأولاده يعلقون التمائم وبقرته تحمل حرزا على الجبهة وكيسا صغيرا في الرقبة. صحيح أن البعض يرون ذلك أمرا دعائيا، وهم على حق. والقبة هي ملجأ العجائب وهي من مجالات شيخنا. نسمعه يهمهم بالقرآن دون أن نفهمه. أما الرقى والابتهالات والأدعية وما شابه ذلك، فهو يمارسها بالعربية مدعما إياها بالآيات القرآنية مما يجعلنا نخاف فنتأثر أيما تأثر.
عندما يريد أحد الناس أن يهاجر إلى فرنسا، ويأتي إلى الشيخ ليظفر ببركته، يعرف جيدا أن الشيخ ليسا غنيا. هنا يخطر ببالنا السؤال التالي: إذا كانت فاتحته تغني شيئا، فلماذا لا يرزق نفسه أولا؟ هذه من الأفكار التي تساورنا على الدوام. وربما كانت الروح الخبيثة هي التي توحي إلينا مثل هذه الأفكار التي علينا أن نتبرأ منها. وقضاء الله وقدره لا يعرف أحد أسرارهما. وما أسعد البسطاء لأنهم قد يستفيدون منها. أما المنافقون فهم يتظاهرون بالسذاجة. إنهم يؤمنون بالفاتحة، فتراهم يأخذونها معهم إلى ما وراء البحر، كمصدر سحري يساعدهم على كسب الرزق. وبعضهم يجسدونها في حرز من الجلد يضعونه بين أوراقهم تبركا، وهكذا!
والشيخ يمنح فاتحته في جدية متناهية، ولا يستهزئ بها إلا من كان كافرا. فالفقراء مثل المرضى، في حاجة إلى الأمل. والأغنياء في حاجة إلى الوقاية والاطمئنان. لهذا فإنهم جميعا يرتاحون إليها. أما المرضى فيعتقدون أن الشيخ يشفيهم. والجميع يؤمن بالتبرك أما الجاحدون فيكتفون بهز الأكتاف لأنهم ليسوا محتاجين.
وقد تتحقق أماني بعض الناس فيتوجهون إلى الشيخ ليقدموا له الشكر الجزيل؛ النساء يغمرن أرجاء القبة بالزغاريد. والرجال يقدمون القرابين. أما شيخنا في مثل هذه الظروف، فيتغيّر كلية. يبدو كأنه يحوم فوق الجميع ولا أحد يستطيع أن ينافسه الاحترام والتقدير. وإذا سمح لنفسه بجلسة قصيرة في الجامع، ترى الناس يسارعون إلى ترك أماكنهم تقديرا له وهو يشكرنهم بابتسامة شاحبة تأبى أن ترتسم في وجهه؛ ابتسامة الذي يشك في قوته.
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 05:25 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى