تسجيل الدخول

" من مــآســـي الرَّحيــل ... "
القاصّ : سعدي صبّــــاح

* إلـى روح الفقيد صاحب أجراس المكــان ...

بليلة صيفيّـة أنجبت صباحـاً ينذرُ بالسواد ! صحوتُ على إشراقه واجفـاً من على فراشٍ تجرّعتُ على ظهره ويلات الأشباح ، وشاء لأصحو على نبأ رحيله الأبدي، وقد داهمته العاصفـة تحت رذاذ الدّياجي،
عزفنا على رحيله لحن الأسى، لطائرٍ اختطفته العاصفة من وكنته القابعــة على حواشي المدينــة، فاسودّت الورود بمناكبنــا ولم نصدّق في النجوى نبأ الرّحيل، أبناء جنسـه ترتّل الشجن وتغرق في البكاء ! قنادل رحيله تؤلمنـا وتغرز في الثنايا أشواكهـا الداميـة، نبق الفجيعـة يحيطنـا من كلّ مكان وحلّت الجراح من جديد بعد التئامها منذ انهيار شجرة التوت التي كانت تمنّ عليَّ بظلّهــا وتحميني من البرد والصّقيع .. ودّعتهـا أمّهـا الأرض بعد أن نخرتهـا ديدان الوبــاء .. طمرنـا بقايـا أعوادهـــا جنب ضريح سيدي السبخاوي النائم هناك على أطراف المدينـة، ودارت السنون دورتهـــا الرعنـاء ويرحل طائري اللحظـة مكرهـاً .. يحوّلُ دربـه عنّـا .. تاركـاً جذوتـه تتأجّج في الوريد !! ويخرج اليراع من سباتـه متمرّداً وقد كسّرَ جدار الصّمتْ ليخطّ كلمات النعي .. يرثي بما جادت به القريحـة عن طائر اختطفته يدّ القدر وابتلعه الثرى بعد أن شيّد صرح وقنته تحت خيوط الشّمسْ .. وكُتِبَ لـه الرّحيل مع أذيال الصّيف .. علّمنـا دون أن يدري كيف نرقص للغنــاء وعلّمنـا أيضـاً كيف نغنّي للمحن التي تتحوّل إلى منح بأمر ربّهـا ، وتذكّرنـا برحيلـه طيوراً تيّمتهـا المقبرة بعد أنْ أطربتنـا أغاريدهـا الحالمة رتّلتها على منابر مزركشـة بألوان الرّبيع ... رحلوا ولم يتركوا إلا شدوهـم يتردّد على مسامعنـا كالأسطوانـة .. نأوا على مرابعهـم تاركين عراجيـن الحنين .. همسات حانيـة .. النهر الحزين ، ..شحرورة تغنّتْ بالخمـرى وغابت عن سحـر الأندلسيّات .. وشحرور إيغوزي هو الآخر مسّه الرّحيل تاركـاً أمّ الخطاوي تُروى كالنشيد وسافـرَ
عبر الهواة العميقـة .. هو الرّحيل حالة استمرارية يكمن فيه سرّ الحياة ، أسراب جمّـة نسجتْ وقناتهــا تحت الحصى، رحلت مع ليالي الصّقيع غير مكترثـةٍ بحبّنـا لجنوني لهـا .. رقصنا على أنغام حناجرهـا الدافئـة، سؤال واحد يحيّرني " لماذا البكاء وكلّ ما تحمله المعمورة من طير وعشب وشجر مآلهـا الفناء ؟ فلماذا البكاء وطائري أيضـاً خُلق للرّحيل وانتحرت برحيله زهيرات الرّبيع وأعشابه الغضّة "
تمهّلي أيتها العصافير فكّري في عزفك عن البكاء ..في الإقلاع عن الحزن .. أيتهـا العصافير حوّلي زقزقاتـك الشجيّــة إلى غنـاء ، أسراب لا تحصـى رحلت ذات خريف وتركتنـا نعيش الخريف إلى أجل غير مسمّى ، رحلت بأمر من السّماء .. كسبائخ الثلج .. كالرّيح .. كالإعصار .. كسحابة أعلنت تلاشيهـا بل موتهـا بحبّات المطــر .. أسراب قطـا كانت تملأ الأرض بالغناء بأمره سكنت باطنهــا طيور أخرى ركبتْ موج التناسي ، باشق ،دوري ، سمرمر ، نهّام ، كناري ، وطائري الشّجي الذي ودّع جنائن الدّنيـا أطلق الرصاص على مواكب الأحياء ، يخاطبهم في صمت لي نومة اللحود ولكم البكاء .. البكاء الذي يتحوّل إلى غناء ، طائري لجأ إلى الرحيل بعد أنْ سئمَ الشمس والأضواء .. حتى رصاصتـه الطائشـة .. أوصد أبوابه الحجريّــة عن كلّ ما يؤلمـه تاركـا آخر الوصيّـة متنبّئـاً بالرّحيل نبش بأظافره " اذكريني " بليلة قبل رحيله خطّهـا موعظـةً على البياض حتّى وداعـاً يا عزّ الورى .. فوداعـاً يا أغلـى الطّيورْ فليسَ ذنبُكَ حين رحلتَ ولم تفكّر قط في الرحيل ... بارحت بسرعـة البرق المكان وأجراســه .. فهنيئـاً لعرسـكَ الذي علّمنـا معنى الرحيل وسأحدّثك بهمسٍ عما بعد الرحيل .. كل أبناء جلدتك منحتكَ الدموع المالحة وتهاوت أسراب ترقب صورتك الجاثمـة جنب أجراس المكان .. ختمت عرس رحيلك بالبكاء الصامت الأكبر من البكاء ، فنمْ طائري مطمئنـاً بأننا لن ننساك إلى أن يحين الرحيل أنت لم تعد ترانــــا وقد نمْتَ منذ البارحـة لكننا نراك كل حين ، نراك في المساءات الحزينة وفي الأمسيات الحافلــة بالنحيب .. في معزوفـة العصافيـر وفي مغمغات الحجل .. في مأمأة السخال وفي حمحمات الخيول في صمت الغدير
وكنْ على يقين أننا نحبّك الحبّ السرمدي .. تأكّد بأننـــا نعزف على الأجراس نتلوهـا كما كنت ترتلها عربون وفــاء ، والحمامات البريئـة تمنحك الهديل .. إنشادك تؤديه بأحسن الأداء كما كنتَ يوم كانت الروح قابعـة بتابوت الصلصال ، تأكّد أيهـا الطائر المسافــر إلى بعيد بأننا نبكيك عند المغيب .. عند نسمات الفجر عند انفلاق القمر .. وحين تطل جوناء الصبح بأشعتهـا المتوهّجـــة التي ترسهـا عبر الفضاء نبكيك جنب العرائش .. نبكيك جنب النخيل لأنك طائر الشموخ والكبرياء .. نبكيك حين ترقص السنابل لأنك تعشق السنابل والزهور .. نبكيك حين يعصر الشعر وحين تبرعم القوافي يا مسافراً إلى حياة أخرى يشعر فيهـا الطائر العنيد بالعياء .. يقول فيهـا : " يا ليتني كنتُ الثرى " وأعتذر اللحظـة لك ولكلّ الأحيــاء لأعتلي الجلجلـة داعيـاً لك بالرحمـة .. وهذا ما لك عندنـا فما عليك إلا أن تتوسد التراب وتنام نومـة الأولين الذين رحلوا وسبقوك للرحيل، فأنت السابق يا راحلاً ونحن اللاحقونْ ...

سعـدي صبّــاح ... [email protected]