الإعجاز في تحريم الربا
24-04-2010, 07:43 AM
مقدمة:
الأولى: دائرة مفتوحة وقابلة لتعدد الأفهام، وتجدد الاجتهادات، ومن شأنها أن تختلف فيها الأقوال، وتتنوع المذاهب. وهذه الدائرة تشمل معظم نصوص الشريعة وأحكامها, فهي دائرة مرنة منفتحة. وهذا من رحمة الله بعباده، لتتسع شريعته للعقول المتباينة، والمشارب المختلفة، والوجهات المتعددة. ولا غرو أن وسعت الظاهري والأثري وصاحب الرأي.
الثانية: دائرة مغلقة، لا تقبل التعدد ولا الاختلاف، لأنها تقوم على نصوص قطعية الثبوت والدلالة، لا تحتمل إلا وجهاً واحداً، ومعنى واحداً، لأنها تجسد وحدة الأمة الفكرية والشعورية والعملية، ولولاها لانفرط عقد الأمة وتحولت إلى أمم شتى، لا تربطها رابطة عملية, وقد حافظت الأمة طوال العصور الماضية على أحكام هذه الدائرة، وانعقد الإجماع عليها علماً وعملاً.
والمؤامرة اليوم تتجه إلى هذه الدائرة، تريد اختراقها وإذابتها، لتتمزق الأمة وتنحل، ولا يبقى لها شيء تجتمع عليه, وهذا سر ما نراه من تشكيك في البديهيات واليقينيات وما علم من الدين بالضرورة، من مثل التشكيك في تحريم الخمر، أو تحريم الربا.
وربما يمكن أن يفهم هذا حين يصدر من العلمانيين واللادينيين والشيوعيين وأمثالهم. أما الذي لا يفهم ولا يعقل فهو أن يحطب في هذا الحبل بعض من يتحدثون باسم الدين، ويروجوا بغبائهم بضاعة أعداء الدين؛ لأن من أعظم الفتن الفكرية، ومن أخبث المؤامرات على العقل الإسلامي المعاصر، تلك المحاولات الجريئة لتحويل المحكمات إلى متشابهات، والقطعيات إلى محتملات، قابلة للقيل والقال، والنقاش والجدال، مع أن هذه المحكمات والقطعيات هي التي تمثل (ثوابت الأمة) التي انعقد عليها الإجماع المستيقن، واستقر عليها الفقه والعمل، وتوارثتها الأجيال جيلاً إثر جيل(1).ولكن الذي يطمئننا، هو: وضوح الحق، بنصاعة أدلته، وقوة رجاله، ووهن الباطل، وتهافت منطقه، وتناقض أصحابه، وكما قيل: الحق أبلج، والباطل لجلج، وكما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾[الإسراء:81]، ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ [الرعد:17], الآن حصحص الحق، وتبين الرشد من الغي، فليختر كل امرئ لنفسه الطريق الذي يريد. ولعل ما يسمى الإعجاز اليوم نوع من أنواع الحفظ لهذه الثوابت حيث يثبت الإعجاز قطعية الثبوت والدلالة للنصوص من خلال تجانس الفكرة والمضمون، واتحاد الهدف والغاية.
تعريف الربا لغة:
الربا في اللغة: هو الزيادة. قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾[الحج:5], وقال تعالى: ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾[النحل:92]، أي أكثر عدداً يقال: ”أربى فلان على فلان، إذا زاد عليه“(2)وأصل الربا الزيادة، إما في نفس الشيء وإما في مقابله كدرهم بدرهمين، يقال: ربا الشيء إذا زاد, ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾[البقرة: 276] . وأربى الرجل: عامل بالربا أو دخل فيه ويطلق الربا على كل بيع محرم أيضاً (3).
تعريف الربا في الشرع:
الربا في الشرع: هو الزيادة في أشياء مخصوصة.وهو يطلق على شيئين: يطلق على ربا الفضل وربا النسيئة(4).
والربا في اصطلاح الفقهاء له عدة معان منها:
عرفه الحنفية بأنه: فضل خالٍ عن عوض بمعيار شرعي مشروط لأحد المتعاقدين في المعاوضة(5) .
وعرفه الشافعية بأنه: عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما(6).
وعرفه الحنابلة بأنه: تفاضل في أشياء, ونسء في أشياء, مختص بأشياء، ورد الشرع بتحريمها– أي تحريم الربا فيها- نصاً في البعض, وقياساً في الباقي منها(7).
وأما المالكية فقد عرفوا كل نوع من أنواع الربا على حدة وسأقتصر على ما تقدم للإيجاز.
النصوص الواردة في تحريم الربا:
الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع, وهو من الكبائر, ومن السبع الموبقات, ولم يؤذن الله تعالى في كتابه عاصياً بالحرب سوى آكل الربا, ومن استحله فقد كفر - لإنكاره معلوماً من الدين بالضرورة - فيستتاب, فإن تاب وإلا قتل, أما من تعامل بالربا من غير أن يكون مستحلاً له فهو فاسق.
ودليل التحريم من الكتاب قول الله تبارك وتعالى : ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾[البقرة:275], وقوله عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَس ...﴾ [البقرة:275].
ودليل تحريم الربا من السنة أحاديث كثيرة منها: ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن ؟ قال: الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»(8).
وما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه»(9), وقال: هم سواء. وأجمعت الأمة على أصل تحريم الربا. وإن اختلفوا في تفصيل مسائله وتبيين أحكامه وتفسير شرائطه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن الحلال أم مِنَ الحرام»(10)، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا تحذيراً من فتنة المال، فهو من بعض دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم بالأمور التي لم تكن في زمنه، ووجه الذّمّ من جهة التّسوية بين الأمرين وإلا فأخذ المال من الحلال ليس مذموماً من حيث هو والله أعلم(11).
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فَرُدَّ حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا»(12).
وقد ذكر الله تعالى لآكل الربا خمساً من العقوبات:
إحداها: التخبط . . قال الله تعالى: ﴿لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَس﴾
الثانية: المحق . . قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا﴾والمراد الهلاك والاستئصال , وقيل : ذهاب البركة والاستمتاع حتى لا ينتفع به, ولا ولده بعده.
الثالثة: الحرب . . قال الله تعالى: ﴿فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِه﴾[البقرة : 279].
الرابعة: الكفر . . قال الله تعالى: ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة : 278]وقال سبحانه بعد ذكر الربا: ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة : 276]أي: كفار باستحلال الربا, أثيم فاجر بأكل الربا.
الخامسة: الخلود في النار قال تعالى: ﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة : 275], وكذلك - قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران : 130],
وقوله سبحانه: ﴿أضعافا مضاعفة﴾ ليس لتقييد النهي به, بل لمراعاة ما كانوا عليه من العادة توبيخاً لهم بذلك, إذ كان الرجل يربي إلى أجل, فإذا حل الأجل قال للمدين: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل, فيفعل, وهكذا عند محل كل أجل, فيستغرق بالشيء الطفيف ماله بالكلية, فنهوا عن ذلك ونزلت الآية.