سمرقند المسلسل الحقيقي (02) التتمة
28-06-2016, 01:08 PM
في مايلي من السطور تتمة القصة من ساعة وصول رسول كهنة سمرقند عاصمة الخلافة:
( رابط الموضوع الأصلي: http://montada.echoroukonline.com/showthread.php?t=345821 )


... وتشجع وشد من عزمه ودخل يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، فلما لم يرَ أحداً قد منعه سكنت نفسه، ونظر فإذا هو في صحن واسع إذا كنت في طرفه لا تستطيع أن تتبين من هو في الطرف الآخر، قد فُرشت أرضه بناصع الرخام فهو يلمع كالمرايا، والناس يجلسون عليه، وحوله جدران عالية ما رأى قط بناء أرفع منها، وهي مزخرفة بأعجب الزخارف والنقوش، وفي وسط الصحن بركة واسعة يتفجر منها الماء فيضربه شعاع الشمس فيكون له منظر عجيب. ونفذ من الصحن إلى قاعة لا تقل عنه سعة ولا يدانيها بهاءً وجمالاً، قد قام سقفها على أساطين الرخام، تحمل أقواساً فوقها أعمدة أصغر منها، فوقها أحناء (أي حنايا) وطاقات معقودة، وتتدلى من السقف سلاسل الفضة تحمل المصابيح والثريات.

وجعل يمشي خلال الناس ذاهلاً لا يدري ماذا يصنع، فاصطدم برجل كان يقوم ويقعد ويذكر اسم الله. وتلفت الرجل إلى اليمين وإلى الشمال، ونظر إليه فرآه غريباً فسأله عن حاله، فسبق لسانه إلى الحقيقة فأخبره أنه جاء من بلده يريد لقاء الخليفة، ثم تنبّه وقدّر أن الرجل سيرتاع لذكر الخليفة بلا تعظيم ولا تبجيل وأنه سيدفعه إلى الشرطي فيستاقه إلى السجن ... فرأى الرجل ساكناً هادئاً كأنه لم يسمع نكراً، وسمعه يقول له: أتحب أن أدلك على داره؟

قال: أوليست هذه داره؟!

قال الرجل مبتسماً: لا؛ هذا بيت الله، هذا المسجد. أصليت؟

صلى؟! وكيف يصلي وهو على دين سمرقند، ذلك الدّين الذي لا يعرف منه إلا هذا المعبد المملوء بالأسرار، وتلك «الآلهة ...» المخيفة ذات الوجه البشع المرعب. وجعل يفكر: "أين هذا المعبد من معبده المختبئ في بطن الصخر، وأين هذا النور وهذا الجمال من تلك الظلمة وذلك القبح؟ ".

وشك - لأول مرة في عمره - في دينه الذي نشأ عليه!

وأعاد الرجل سؤاله، فقال: لا؛ لم أصلِّ، ولا أعرف ما الصلاة.

قال: وما دينك؟

قال: أنا على دين كهنة سمرقند.

قال: وما دينهم؟

قال: لا أدري؟

قال: مَن ربك؟

قال: آلهة المعبد المرعبة.

قال الرجل: وهل تعطيك إن سألتها؟ وهل تشفيك إن مرضت؟

قال: لا أدري ...

ورآه الرجل ضالاً جاهلاً، فألقى في هذا القلب الخالي أصول الدين الحق بوضوحها واختصارها وجمالها؛ فلم تكن إلا ساعة حتى صار رسول كهنة سمرقند مؤمناً بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعل الله به العرب سادة الدنيا وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.

ثم قال الرجل: قم الآن أدلّك على دار الخليفة، وإن كانت هذه هي الساعة التي يعالج شأنه فيها وشأن عياله وينفرد بنفسه.

وتبعه وهو يفكر في جمال هذا الدين وسموّه، وقد زالت الغشاوة عن عينيه فأدرك الآن سر هذه الفتوح وهذه القوة التي لم يقم لها شيء. أين هذه الديانة السافرة الواضحة التي تجعل كل واحد من أتباعها كاهناً لها ورجل دين ... من تلك الديانة المجهولة الخفية؟ أين؟! وخرج من المسجد من باب غير الذي دخل منه، فما راعه إلا الرجل يقول له (مشيراً إلى باب من ألواح الخشب، غير مصبوغة ولا منقوشة): هذه داره.

هذه؟! أيمكن أن تكون دار الخليفة دون دور السوقة من رعيته، وقد مرَّ عليها فرأى فيها بهاءً وجلالاً؟ ونظر إلى الرجل يحسبه يسخر منه فرآه جاداً، فتركه وتقدم من الباب وهو شاك فيما قال الرجل، ونظر فرأى كهلاً قائماً يصلح بالطين جدار المنزل وامرأة تعجن ... فترك الباب ولحق بالرجل مغيظاً محنقاً فقال له: ما كان لك أن تكذب عليّ وتسخر مني، أسألك عن دار الخليفة فترشدني إلى دار طيان؟

قال: ومن الطيّان؟

قال: صاحب الدار (ووصف له ما رأى).

قال الرجل: ويحك! هذا - والله - أمير المؤمنين الذي ليس فوقه إلا الله. وهذه المرأة ... ألا تدري من هذه المرأة؟ هذه زوجة الخليفة عمر وبنت الخليفة عبد الملك وأخت الخليفتين وليد وسليمان وأخت هشام ويزيد وسيكونان خليفتين؛ هذه أمجد امرأة في العرب. ولقد كان أمير المؤمنين أرفه الناس عيشاً وأكثرهم طيباً، ولكنه كان فيه عرق من عمر بن الخطاب فنزع به عرقه من عمر إلى ما ترى، فعُدْ إليه فاقرع بابه وانفض إليه شَكاتك ولا تخف؛ فوالله ما هو الملك المتكبر ولا الحاكم الجبار، ولكنه عبد لله متواضع هين لين، فإذا رأى الحق أمضاه فلم يقف دونه شيء، وإذا غضب لله كانت العواصف والصواعق دون غضبه قوة ونفاذاً ... فاذهب موفقاً.

مضى السمرقندي نحو دار الخليفة يتعثر في مشيته، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، تتّقد نار الحماسة في نفسه فيخطو ثم تعصف بها رياح الشك فيقف، وكان يطير به الخيال إلى ملوك بلده فيتصور تلك الحجب على القصور، وأولئك الحجّاب على الأبواب، والسيوف المصلتة والرماح المشرعة، ثم يبصر هذه الدار ... وهذا الذي قالوا إنه أمير المؤمنين، فيزداد به الشك. إنه يعرف السلطان الذي يحكم بالبطش والرعيةَ التي تطيع بالخوف، أما سلطان العدل وطاعة الحب، فشيء لم يعرفه في بلده! واستقر في نفسه أن الرجل يسخر به، فعدا وراءه حتى لحقه وقال له: ناشدتك الله أيها الرجل، هل هذه الدار هي دار أمير المؤمنين؟

قال: نعم، والله إنها لهي داره! هذه دار الرجل الذي أورثته شريعة القرآن تيجان الملوك الأربعة: كسرى وقيصر وفرعون وخاقان، فكانت هامته أرفع من أن يبلغها تاج منها، فما سمت إليها إلا «العمامة» تاج العرب ... هذه دار الرجل الذي جبيت إليه ثمرات الأرض، فكال الذهب كيلاً وأعطاه لمستحقه باليدين، ومنح الفقراء الجوهر، وقسم في المحتاجين الدرر، وبقي هو وأسرته بغير شيء ... لأن نفسه أكبر من أن يملأها كل ما في الدنيا من ذهب وجوهر، إنها أكبر من الدنيا؛ فلذلك حقرتها وطمحت إلى ما هو أعظم منها: إلى الجنة، وما هجر الحياة ومناعمها ليأوي إلى غار في جبل فيعتزل الناس، أو إلى مسجد فيناجي الله، إذن لزاد العبّاد واحداً، ولما كان في ذلك حديث يُروى ولا عجب يُؤثَر. ولكنه زهد في الدنيا (وهو رجل الدنيا وواحدها، وإليه أمرها وبيده - بعد القدر - صلاحها وفسادها)، فهو في اللجة لا يبتلّ، وهو «في اللهب ولا يحترق».

وهو زاهد ولكنّ في رأسه عقلَ حكيمٍ، وفي صدره قلبَ بطلٍ، وفي فيه لسانَ أديبٍ؛ فهو يدير بعقله هذا الملك الواسع، بقضائه وماليته، وداخليته وخارجيته، وسلمه وحربه، وهو القائد وهو المفتي وهو المعلّم ... أداره أحسن إدارة وأقومها، فاستقر الأمن، ونامت الثورات، وقعد القائمون بالمعارضة، وسكت الناقمون على بني أمية، وتصافى الشيعي والخارجي، والمصري واليماني، والأسود والأحمر (1)، واصطحب في البرية الذئب والحمل (2) ... وهو يواجه بقلبه أحداث الدهر، فترتد عنه الأحداث ارتداد الموج عن صخر الشاطئ، وهو يصوغ ببيانه الحكمة العليا أدباً خالداً ...
سمع - غداة بويع بالخلافة مُكرَهاً - هدّة ارتجَّتْ منها الأرض، وكان منصرفاً من دفن أمير المؤمنين سليمان، فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة قربت إليك لتركبها، بالسروج المحلاة بالذهب المرصعة بالجوهر. فقال: ما لي وما لها؟ نحّوها عني وقربوا لي بغلتي. وأمر بها أن تباع ويدخل ثمنها بيت مال المسلمين. فقُربت إليه بغلته فركبها، وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة فقال له: تنحَّ عني، ما لي وما لك؟ إنما أنا رجل من المسلمين!

ومشى بين الناس راكباً على بغلته (بلا موكب ولا حربة ولا راية ولا طبل). الرجل الذي يحكم الأندلس ومرّاكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والحجاز ونجداً واليمن وسورية وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والعجم وأرمينية والأفغان وبخارى والسند وسمرقند ... مشى ومشى الناس بين يديه حتى دخل المسجد، فقام على المنبر فقال: أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين. وإني قد خلعت بيعتي من أعناقكم، فاختاروا لأنفسكم.
فصاح الناس صيحة واحدة: إننا اخترناك ورضينا بك.

ومشى إلى الخضراء، وما الخضراء؟ جنة الأرض التي حُشر إليها كل ما في الأرض من كنوز وطُرَف، القصر الذي أزرت عظمتُه بالخورنق والسدير وغمدان والإيوان. فأمر بستورها فأنزلت، وببسطها ونمارقها فطُويت، وبطرفها وكنوزها فحملت، وأمر ببيع ذلك كله ووضع ثمنه في بيت المال، وأمَّ داره هذه. فقال الناس: إنه رجل صالح، ولكن الملك له أهل. إن الملك لا يقيمه إلا قوي أمين ابن دنيا.

ظنوه أمّ داره يقبع فيها يسبّح ويهلّل، فإذا به يحد قلمه ويعدّ قراطيسه، ويكتب من فوره بيده إلى أقاليم الأرض منشوراً فيه الدستور الذي لا يقوم إلا به الملك، ويُنفِذ الكتب من ساعته. فعلموا أن خليفتهم زاهد في الدنيا ولكنه ابنها وأبوها.

فَعَل ذلك كله من الصباح إلى الضحى. ثم ذهب يَقيل، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أي بني، أقيل. قال: تقيل ولا ترد المظالم؟

قال: أي بني، إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، وإني إذا صليت الظهر رددت المظالم.

قال: يا أمير المؤمنين، مَن لك أن تعيش إلى الظهر؟ فترك مقيله وخرج فبعث مناديه ينادي: ألا من كانت له مَظلمة فليرفعها، فإني منصفه من نفسي ومن آل بيتي ومن الناس أجمعين. ولقد - والله - فعل أكثر مما قال!

نعم يا أيها الغريب، هذه دار أمير المؤمنين، فلا يغررك صغرها وضيقها وعطل أبوابها من الزخرف وجدرانها وأنه لا حاجب عليها ولا جند ببابها، فإن هذه الدار أكرم من كل قصر حملته على ظهرها هذه الأرض (3)؛ فامش إليها ولا تخف!


--------------------------------------------------------------------------------------
(1) كناية عن العرب والعجم (كما كانت تقول العرب).
(2) انظر سيرة عمر لابن الجوزي، وسيرته لابن عبد الحكم.
(3) الدار هي المدرسة السميساطية اليوم، عند الباب الشمالي للأموي، وفي جوارها مدارس كثيرة منها التي تضم قبر صلاح الدين الأيوبي.