قراءة سريعة في قصيدة خلود (جماد)
14-06-2008, 08:50 PM
قراءة سريعة في قصيدة خلود (جماد)
جماد هي قصيدة الشاعرة الجزائرية خالدية جاب الله (خلود) التي كانت أول مشاركة لها في الحلقة الأولى من مسابقة أمير الشعراء .. وحصلت على إجازة لجنة التحكيم بالنقطة : 41 من 50 درجة.
بداية القصيدة تكمن في قوتها وهو ما ميز قصيدة الشاعرة ، حيث قوة الكلمة والصورة ..
ومما زاد في عذوبة القصيدة هي تلك الموسيقى التي أضفت انسيابا على تسلسل المعنى .
وثمـّة شيء أنا لا أراه ...
يحاصر وجـهي
ويغلق كلّ الممرّات في داخلي
هنا تصور إنساني يدل على أن الإنسان حين يقع في مشكلة ما فقد يفقد التمييز بين الأشياء ، وبتأثيرها عليه تقع على عينه ضبابه تمنعه من الرؤيا ، وبما أن الوجه هو مركز الحواس الحساسة كالسمع والنظر والجملة العصبية فانه يحاصر وتغلق الممرات الداخلية التي تتحكم في الجسم .
الوجه هو مركز الجمال الذي من خلاله تميز العين بين الجميل والقبيح والجذاب والمنفر .
المشكلة إذا ، تعبر عنها الشاعرة بطريقة علمية مثيرة .. فحين يحس الإنسان بمشكلة تؤثر عليه تغلق الممرات التي تؤدي إلى داخل الإنسان من جراء التفاعل الكيماوي ، فالجسم عبارة عن معمل كيمياوي يتفاعل بتفاعل الإنسان .
وأصحو؛ تـمزّقني الذكريات التي لا مذاق لها
وتفتح جرحا عرفت سواه ...
وأمضي؛ مواسم ملح بأكملها
تستفزّ دمي
وتلوك حياتـي
فيفقد وجهي مداه ...
هنا تتضح الحالة فالإنسان جماد حين يكون نائما وحين يصحو يبدأ في التفكير ويسرح في الخيال
الشاعرة لا تريد أن تعود إلى الذكريات التي لا تستطيب والجراح التي عرفتها .
الشاعرة تجعلنا أمام الصورة العلمية دائما لنتخيل أن المواسم التي تمضيها مواسم ملح تستفز دمها في صورة أن الملح يرفع ضغط الدم ويجعل الحياة في خطر فيؤثر في جسم الإنسان ويظهر ذلك على الوجه الذي هو مرآة عاكسة لصحة الإنسان حيث يفقد الوجه بريقه بالشحوب حين يسكن الجسم المرض .
جـماد؛
تتاجر بـي أمسيات من البرد والسّهد
ثمّ تخلّف قلبي وحيدا
أضاع هداه ...
تصف الشاعرة تلك الأمسيات في صورة امتلاك وتصرف في العواطف تخلو من احتواء الرغبة وتصبح كالمتاجرة بين آمال وترقب .. وتتسم بالبرد الذي يعني هنا التخوف بين الرغبة والرهبة كما يعني جمود العواطف , والسهاد الذي يعني الأرق وقلة النوم حيث تقع فريسة هذه الأمسيات في حالة من الانتظار التي تؤرق القلب في انتظار الآتي .. هناك يضيع صواب القلب الذي يعاني وحيدا ولا يزال ينتظر .
و أذكرنـي عندما احتواني المساء
وغيّبني الانتظار طويلا
وعندما يأتي المساء ، يبدأ القلب في هواجسه حيث يسيطر على التفكير فيغيب صاحبه في حالة من التخمين و الانتظار الطويل اللاإرادي .
أنا لا أنا
والبقية تأتي إذا ما يظلّل جرحي سـماه ...
وحين يشك الإنسان في ذاتيته فذلك يعني أنه في حالة يأس تسيطر على التحكم في مشاعره الداخلية ويحس أن صورته تغيرت ولم تعد مثلما كانت عليه فيشعر أنه لم يعد ذلك الشخص المعتاد ، والأسباب عديدة (البقية تأتي) ومنها أن (السماء) أو الأفق الرحب , وهو صورة لخيال النفس البشرية نحو الانعتاق وسرورها ، حين (يظلل) بالجراح ، فتضيق النفس ..
وهي صورة رومنسية بين الطبيعة والحب .
جـماد؛
وخلف الحدود التي أوغلت في التلاشي
وبعد اليأس هناك منفذ نحو الأمل بتلاشي العوائق(الحدود) ..
حيث يحس المثخن بالجراح أن انفصام شخصيته تعود تدريجيا إلى طبيعتها
الأصلية لتتشكل في صورة واحدة ..
وقفت كلانا ..أنـا وأنـا
نواصل كذبتنا بكثير ..
من الصّدق والخوف يوم اعتراه ...
سأركض نحوه ذاك الذي لا أراه...
لأفرد عمري إلى منتهاه
وتقرأ الصورة برومانسيتها الحالمة في صورة محبين يرى كل واحد منهما الأخر بنفس السجايا لكنهما أمام فيضان الحب الذي هو أمل عندهما وكذبة رسخت من جراء تراكم الانتظار والأرق ، لينمو الإحساس بالصدق والخوف الذي يعتري المشدوه .. ويتشكل طيف الحب في صورة حسناء تركض نحو أمل يكون سبيلا
لسعادة حياتها واحتوائها .
النهاية كانت سعادتها في فهم الذات بعد التشتت الذي أدى إلى الاغتراب والانفصام ..
القصيدة لا تخلو من عاطفة رقيقة وإحساس نبيل .. وتصوير بارع في أن الحب إذا صادفته العوائق يصبح جمادا وشيئا من الضبابية ، لكن التضحية تكون سبيلا إلى تحرره ونهايته السعيدة ..
وأن الحب يبدأ بالعذاب وينتهي بالأمل .
والخلاصة أن القصيدة كلها عبارة عن صور جميلة يخلو منها الضعف الظاهر وتتسم بتسلسل في المعنى وانسياب في النغمة .
إنها الموهبة التي اتسمت بها خلود لتقول لنا إن الشعر حالة من الصدق .. وقد لا تحتاج منك أن تكون من كبار الشعراء حتى تقدم شعرا جيدا .
كل سيبحر بحثا عن حقيقته
ما أوسع البحر لم ييأس من السفن
قد يلتقي الغر والمغرورفي زمن
فيه تساوى لباس العرس بالكفن
ما أوسع البحر لم ييأس من السفن
قد يلتقي الغر والمغرورفي زمن
فيه تساوى لباس العرس بالكفن