لا اختصاصٌ بلا سببٍ مشروع
إنّ الاختصاصَ بلا سببٍ مشروعٍ إن كان من البشر فذلك خيانة للأمانةِ الإلهية المودعة إلى كلّ منَ المختص أو المختص به ذلك لما هو مقرر من قوله تعالى:
" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا"
وبديهي أن كل أمرٍ متعلّق بحقٍّ، أو واجبٍ، أو حدٍّ، أو نفعٍ، أو ضرٍّ جليلٍ كان أو حقيرٍ خاصٍّ أو عامٍ فهو أمانة الله حتى أنّ أدنى الأعمال والصنائع والحرف هو أمانة الله يجب أن تُؤدّى كما ينبغي لمن ينبغي بالوجه المشروع. فاختصاص إنسان بشيء من ذلك بدون سبب مشروع من الاستئهال والاستحقاق وما أشبه ذلك غير معوّل على جوازه شرعًا لوجوب الأداء إلى الأهل وإن كان الاختصاص من قِبل الله تعالى فلابد له كذلك من سبب مشروع ونص ولا يحتج بأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم على ما يريد، ويخص بفضله من يشاء ويهب من يشاء، ولا يسأل عمّا يفعل في مقام نفي هذه القضية فإنه تعالى قد أمر ونهى، ووعد وأوعد، ولا يجوز الخلف بعد وعده أو وعيده في ما وعد أو أوعد. ولو فرضنا أنّ أي فرضٍ من الناس من أي جنس كان آمن وأتقى الله تقوى تساوي تقوى فلانٍ من المتقدمين من كل الوجوه وكان البعث وجئ بهما متساويين في كل وجوه التقوى والإيمان.
أ يجوز أن يختصَ الله تعالى أحدهما بفضلٍ دون الآخر؟ أم يعدل تمام العدل فيسوى بينهما في الجزاء كما يستويان في العمل؟ أم يختص؟ فإن أختص فما هي العلّة والله غنيّ عن العالمين ولا نسبة بين جميع الخلائق وبين الخالق تعالى وتقدس. إلاّ أنهم مخلوقون وهو خالقهم. وهب أنهم قالوا أن الظلمَ إنما هو منع لحق عن مستحقه.
أما المواهب الزائدة على ذلك الحق فليست بظلمٍ، بل هي مكرمة وتفضل والله سبحانه وتعالى لا يحظر على مواهبه ولا حرج على فضله، فإنّ الجواب .. أن جهة الأختصاص مفقودة عند تساوي النية والعمل، والوعد والوعيد، فإعطاء فلانٍ فوق ما يستحقه وحرمان عِلاّن من تلك الزيادة، أما في نظير أمر آخر وإلاّ فهو محال.
فما هو الأمر الآخر إن كان عملاً أو نيّةً زائدة على مساويه فيهما فذلك سبب مشروع زائد على التساوي وإن كان على ما يدعون لخاطر غيره أو لحرمة أبيه وجده أو بتوسط بعض أهل الصلاح والعظام من أهل العلم المقربين، أو ما شبه ذلك فيكون العدل الإلهي مربوطًا بالغايات الشخصية كما هو الشأن في عالم الكون والفساد وعليه فالعدالة المنتظرة في ذلك الموقف العظيم تكون غير تامة لأنّ المتوسط إمّا أن يطلبَ حق من يتوسّط له من الله وهو تحصيل حاصلٍ لأن الله وعد بذلك وهو أصدق القائلين، وإما أن يطلبَ له زيادة عمّا يستحقّ فيكون مكلّفًا لله تعالى بغير العدل الذي وعد به. وإجابته إلى ذلك تنافي العدالة الإلهية، وإمّا أن يطلبَ تخفيف جزائه وهو أيضا تكليف بتعطيل الحكم الإلهي، هذا إن كانت الحقوق حقوق الله فقط، فكيف إذا كانت حقوق عباده؟ وكيف يجوز هذا الاختصاص لأفراد دون غيرهم من أهل المساواة في الأعمال، والكل عنده سواء قال تعالى:
"فاليوم لا تظلم نفس شيئًا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون "
أما مجمل الآية المتقدمة فإنها صوّرت وبينت الحالة تمام التصوير والبيان، فإن الفضل بيد الله فهو يوفق عباده ويهديهم ويرشدهم ويهبهم بمشيئته ما أهلهم له من فضله، لا على ما يظنه الظانون من أنه تعالى يختص بعض المتساويين في النية والعمل من كل وجه ويحرم الآخر أو يختص أحدهما بعذابٍ دون الآخر المحروم من ذلك الاختصاص بالنعيم، أو المبتلي بشدة العذاب لعدم وجود من يتوسط له عند الله.
تعالى الله عن ذلك كله علوًّا كبيرا. وصدق الله العظيم إذ يقول:
" سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا "