تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > المنتدى الحضاري > منتدى الكتاب المطبوع

> حوار ممتع مع المحقق الدكتور عمر عبد السلام تدمري، محقق تاريخ الإسلام للذهبي

 
أدوات الموضوع
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية مصطفى فرحات
مصطفى فرحات
مشرف المنتدى الإسلامي ومنتدى التاريخ والتراجم
  • تاريخ التسجيل : 13-12-2008
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 193
  • معدل تقييم المستوى :

    16

  • مصطفى فرحات is on a distinguished road
الصورة الرمزية مصطفى فرحات
مصطفى فرحات
مشرف المنتدى الإسلامي ومنتدى التاريخ والتراجم
حوار ممتع مع المحقق الدكتور عمر عبد السلام تدمري، محقق تاريخ الإسلام للذهبي
18-03-2009, 07:48 PM
السلام عليكم
أعرض بين يدي القراء الأكارم حوارا أجريته من سنوات مع الدكتور عمر عبد السلام تدمري، تحدثنا فيه عن جزء من سيرته ومسيرته في عالم التحقيق والكتب، وكنت قد نشرته من قبل في ملتقى أهل الحديث، وأنقله هنا للفائدة ولإثراء الموضوع.
هذا، والحوار نشرته يومية "البلاد" الجزائرية فور صدوره على حلقتين.


ترك العلماء المسلمون تراثا ضخما يشمل مختلف التخصصات العلمية وعلى رأسها الجوانب الدينية والأدبية والتاريخية، مع التداخل الحاصل بين هذه التخصصات، واضطلع كثير من الباحثين بعبء استكشاف هذا التراث ونقله من الخزائن المظلمة إلى عالم الطباعة، أين يتسنى للباحثين بناء ثروة معرفية قائمة على أساس تراكمي، يستفيد فيه كل جيل من الأجيال السابقة وما تركوه من نظريات معرفية ومناهج بحث وآراء فلسفية وتاريخية وكلامية.. وحتى من الأخطاء التي لا يسلمُ بشر منها،حاشا الأنبياء.
وليس من المُيسّر في كل يوم أن نلتقي أمثال د. عمر عبد السلام تدمري، وهو الباحث الذي يُمثّل مسيرة تَواصل تُراثي رَبَطَ تاريخَ الأمة بحاضرها، حيث أصدر إلى حد الآن 56 كتابا طُبعت في 151 مجلد، ما بين تأليف وتحقيق لكُتُبِ الأئمة القدماء.
لكنّ الذي شدّ انتباهي أكثر عند لقائي به، هو ذلك المجهود الكبير الذي يبذله إضافة إلى التأليف والتحقيق، فيجعل من التاريخ المسطور في الصحائف مثالا حيا تُشاهده الأجيال، ولهذا سعى ـ ولا يزال ـ رابطا بين حاضر الشام وتاريخه، عبر نشاطات جمعوية ومهرجانات تاريخية واستدراكات علمية، تُصحّح وتُوجّه وتُوضّح، لأن الأمة التي لا تستند على تاريخ لا يمكن لها أن تصنع المستقبل.
وعلى هامش الملتقى الدولي الذي أقيم حول عقبة بن نافع الفهري في بسكرة، بتنظيم من جمعية الخلدونية، التقيناه وأخذنا معه بأطراف الحديث.. حديث كان يتمحور حول التراث وما يشوبه ويُعكّر صفوه بسبب أقوام جعلوه تجارة لا تُقوَّم إلا بما يُمكن أن تجلبه من أرباح شخصية، ولو على حساب التراث نفسه وحساب الأمة التي لا تزال تتخبط في ظُلُمات التيه.



بداية، من هو د. عمر عبد السلام تَدْمُرِي؟

ولدتُ في مدينة طرابلس في منطقة الحدادين سنة 1940م، ودرستُ دروسي الابتدائية في مدرسة تسمى "المدرسة الزاهرية" في مدينة طرابلس، ثم أكملت دراستي الثانوية في كلية التربية والتعليم الإسلامية في طرابلس، ثم انتقلت إلى القاهرة فالتحقت بجامعة الأزهر، وحصلت منها على شهادة الليسانس في التاريخ والحضارة، ثم درجة الماجستير ثم درجة الدكتوراه بدرجة الشرف الأولى. وكانت رسالتي عن الماجستير عنوانها (الحياة الثقافية في طرابلس الشام خلال العصور الوسطى)، والدكتوراه (تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور)، حيث تناولت فيها تاريخ المدينة منذ تأسيسها حتى سقوط دولة المماليك، والكتابان مطبوعان.

وكتاب (الحياة الثقافية في طرابلس الشام خلال العصور الوسطى) كان هو المولود الأول، وصدر عام 1973 قبل أن أحصل على الدكتوراه، ثم توالت بعد ذلك مؤلفاتي وتحقيقاتي.
وأنا أحمل دكتوراه دولة في التاريخ الإسلامي والحضارة منذ عام 1976، وأستاذ في الجامعة اللبنانية يشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه، وعضو الهيئة العليا لاتحاد المؤرخين العرب، وحائز على وسام المؤرخ العربي، وحاليا عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى بدار الفتوى في لبنان.

صدر لي لحد الآن 56 عنوانا في 151 مجلدا ما بين تأليف وتحقيق، ونشر لي أكثر من 300 بحث ودراسة مُحكّمة، وشاركتُ في أكثر من 30 مؤتمرا دوليا.

[على هامش التحقيق.. لابُدّ من بعث التاريخ]
ولي أيضا مشاركات وأعمال أخرى تختص بمدينة طرابلس في أنشطة ثقافية واجتماعية، منها أنني أحييتُ مناسبة مرور 700 عام على تحرير مدينة طرابلس من أيدي الصليبيين والفرنجة المحتلين، التي تصادف سنة 688هـ/ 1289م، حيث أقمت احتفالا ضخما بهذه المناسبة لتوعية أهل طرابلس بأهميتها. كما أقمت احتفالا آخر بعد 12 عاما بمناسبة مرور 700 عام على تأسيس الجامع المنصوري الكبير بمدينة طرابلس الذي سُمِّي باسم السلطان المنصور قلاوون الذي حرر طرابلس من أيدي الفرنجة، وأتيتُ بوزير الثقافة والتعليم العالي، وهو مسيحي، ليُلقي كلمة بهذه المناسبة، وطلبتُ من بلدية طرابلس بكتاب وجهته إليها بإطلاق اسم السلطان الأشرف خليل بن قلاوون على ميدان كبير قريب من الجامع المنصوري، وحصلنا على الموافقة من البلدية ووزارة الداخلية.
ثم أقمت بعد ذلك احتفالا بمناسبة مرور 1400 سنة على فتح طرابلس الإسلامي الأول، على يد الصحابي سفيان بن مجيب الأزدي رضي الله عنه، وقبل أن يفتح طرابلس بنى حصنا مشرفا على المدينة ثم حُوِّل الحصن على يد الفرنجة إلى قلعة كبيرة. ومن المؤسف أن وزارات الإعلام والثقافة والسياحة والكتب التي تُدَرَّسُ في المدارس بلبنان، وحتى أساتذة الجامعات ووسائل الإعلام، تنسب بناء هذا الحصن إلى القائد الصليبي الفرنسي (ريموند دي تولوز)، ولكنّ الصحابي الجليل هو أول من بناه قبل الفرنجة بنحو 4 قرون، فقصدت لأن أحيي الذكرى، وأقمت الصلاة داخل هذه القلعة وجئتُ بمفتي المدينة فأمَّ الناس بها، وكَتَبَتْ عن الحدث الصحف المحلية، واخترت يوما محددا اعتبرته عيد هذه المدينة، وهو يصادف يوم 26 نيسان/ أبريل تحتفل به بلدية طرابلس كل سنة وتُعطّل العمل لأنه في هذا اليوم تم تحرير طرابلس من الصليبية.

[غياب الوثائق الوقفية.. أزمة حضارية]
عُيِّنتُ بعد ذلك في دائرة الأوقاف الإسلامية في طرابلس كرئيس للقسم الديني، وفوجئتُ وأنا في هذا المنصب بأن الدائرة تخلو تماما من أي وثيقة وقفية مع أن مدينة طرابلس تُعتبرُ من أغلى المدن في لبنان بأوقافها الإسلامية. وزارني في أحد الأيام بشكل مفاجئ أربعُ مستشرقين ألمان كان معهم رئيس المعهد الألماني بالقاهرة وزوجه التي كانت تُحضر رسالة دكتوراه عن النقوش المملوكية التي نُقشت على المعالم القديمة في بلاد الشام، ومنها طرابلس، فأتوا إلى الأوقاف وفي ظنهم أنهم سيجدون وثائق وقفية ستُعينهم في هذا البحث، ففوجئوا بأن الدائرة لا تحوي أَيَّةَ وثيقة، فقمتُ معهم بجولة على المساجد والمدارس ليروا الكتابات المنقوشة ويُصوِّرُونها، وهذا دفعني لأن أضع كتابا عن هذا الموضوع، فألفت كتابا بعنوان (تاريخ وآثار مساجد ومدارس طرابلس في عصر المماليك)، ونفدت طبعته الأولى بعد ستة أشهر ونال سمعة واسعة، وهذا الكتاب وكتاب (الحياة الثقافية) طبعتهما على نفقتي الخاصة، ثم طبعت الجزء الأول من كتاب (تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور) على نفقتي الخاصة، ربما لأنني شعرت بأنني غير معروف وأن الكتاب لن يكون عليه إقبال كبير لكونه يتناول تاريخ منطقة قد لا تَهُمُّ عموم القراء.

وكنت إلى جانب هذا أكتب المقالات بشكل دائم في الصحف المحلية بطرابلس، وأثناءً في بعض المجلات في بيروت كمجلة (الفكر الإسلامي) الصادرة عن مجلة الفتوى في بيروت التي كنت أكتب في كل أعدادها تقريبا، حتى شعرت بأن اسمي بدأ يصير معروفا فتجرّأتُ وتجرّأت معي دور النشر على طبع بعض الأعمال التي قدمتها إليها.

[مسيرةٌ عصاميّة.. وجولةٌ في عالم التحقيق]
وكيف انتقل الدكتور تدمري إلى التحقيق؟

في الحقيقة، أنا لم أتلقّ فن التحقيق على يد أحد من المحققين. ولما كنت أتردد على دار الكتب بالقاهرة أثناء دراستي، كنت أقف على باب الكتب قبل أن يصل من يفتح الباب فأدخلَ معه وأمكثَ فيها حتى تغلق الدار (من الساعة الثامنة صباحا إلى الثامنة مساء) وكنت لا أتغدّى من شدة نهمي بمطالعة كل كتب التاريخ والأدب الموجودة في الدار.
وعرفتُ فيما بعد أن هناك مركزا لتحقيق التراث في قسم مُلحق بدار الكتب، فتسللتُ إليه بدون استئذان، وأصبح الموظفون يعرفونني من شدة ما كنت أتردد على الدار، فكنت أجد ثلاث أو أربع حلقات لأساتذة محققين يتحلق حول كل واحد منهم خمس أو ست طلبة، ويقرأ أحد الطلبة المخطوط والأستاذ يُصحح، وإذا مروا على مصطلح طبي أو فلكي يطلب من كل واحد من الطلبة حسب ما كلفه به أن يشرح هذا المصطلح بالرجوع إلى المعاجم المتخصصة في ذلك الفن. فكنت أجلس بعيدا وأسترق السمع والنظر فالتقطت مبادئ هذا الفن. كما أنني كنت أستفيد أثناء قراءتي للكتب من طرائق أصحابها في التحقيق والتعليق والدراسة، وعندي صفة ميزتني عن بقية المحققين، حيث أنني حين أقف ـ مثلا ـ على ترجمة لشخص مُعيّن، لا أكتفي بالإحالة على مصدر أو مصدرين ترجما له، وإنما أسرد معظم المصادر التي ذكرت ترجمته، وقد قال لي بعض الأساتذة الباحثين من مختلف ربوع العالم العربي إن هذه الطريقة وفَّرت عليهم جُهدًا كبيرًا في البحث.

[تاريخ الإسلام للذهبي.. نقطة البداية]
وكيف بدأت تجربة التحقيق بعد تجربة التأليف؟

كنت أثناء عملي في الأوقاف أُدرِّس في الجامعة اللبنانية ببيروت، فالتقيت صدفة بصديق كان يدرس معي في القاهرة، وهو الشيخ خليل الميس مفتي البقاع حاليا، فقال لي بأن له صديقا وصاحب دار نشر محترمة [دار الكتاب العربي] في بيروت وهو يحلم بأن ينشر كتاب (تاريخ الإسلام) للحافظ الذهبي، ويريد باحثا متخصصا في التاريخ لتحقيق الكتاب، وسألني إن كُنتُ مستعدا لهذا العمل؟ فقلت له: نعم. فضرب لي موعدا مع الناشر بعد أسبوع في بيت صاحب الدار وتم الاتفاق وبدأتُ بتحقيق الكتاب.
لكنني فوجئت أثناء العمل أن صاحب الدار كان قد وزّع من تاريخ الإسلام 6 أجزاء: جزءان على الشيخ محمد رشيد قباني مفتي الجمهورية اللبنانية الحالي، وجزءان على الشيخ خليل الميس، وجزءان على الدكتور إبراهيم السيد مستشار رئيس الحكومة اللبنانية الحالي [فؤاد السنيورة]، حيث أراد أن يُسرع في نشر الكتاب، فمضى على تعامله مع هؤلاء السادة نحو سنتين ولم يُعيدا له أي عمل، فأخذتُ العملَ كلَّه على عاتقي وعملت فيه 13 عاما حتى أنجزته بمفردي وأنا أكتب بيدي وأنسخ وأصحح مرة وثانية وثالثة حتى نتأكد أنه ما فيه أخطاء، ثم أفهرس كل مجلد، إلى أن وصلت في الأجزاء الأخيرة لعمل 30 فهرسا في كل مجلد، والحمد لله الذي أعانني على إصدار الكتاب، ثم وجدتُ له ذيلا فنشرته.
وكنت أثناء عملي في تاريخ الإسلام أروِّح عن نفسي بتحقيق كتب أخرى. لأن العمل الطويل الذي يأخذ سنوات من التركيز يجعل الإنسان يَمَلُّ، وأنا كنت أعمل يوميا ما بين 15 إلى 18 ساعة. وساعدني على ذلك كون ساعاتي التي أدرسها في الجامعة قليلة جدا، حيث كنت أشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه، فكنت أُدَرِّس يوما واحدا في الأسبوع وأتفرَّغُ للتحقيق في الأيام الأخرى.
وحتى الأهل والأصدقاء والمعارف كانوا يعرفوا مدى اشتغالي بالتحقيق والتأليف، فكانت زياراتهم لي قليلة، وأنا كنت لا أزورهم إلا في ما يقتضي. وكنت أصلِّي الفجر ثم أشرع في العمل، وحتى الغداء أتناوله وأنا أمسك كتابا بيدي.

[معجم الأعلام اللبنانيين في تاريخ دمشق]
وَلَمَّا اطَّلعتُ على مخطوطة تاريخ دمشق لابن عساكر أثناء دراستي في مصر، جمعتُ منه جميع الأعلام الذين ينتسبون لمدينة طرابلس كي أضع معجما للطرابلسيين من خلال تاريخ دمشق.
وبعدما جمعت تلك المعلومات، صادف ذلك بداية السنة الأولى من القرن الخامس عشر الهجري (1400هـ)، وعُقد اجتماعٌ عالميٌّ لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ثم أُنشئت لجنة خاصة وطُلب من جميع الدول المنتمية لرابطة العالم الإسلامي أن تُنصّب لجنات للاحتفال بهذه المناسبة. وأعلنوا في الصحف عن جائزة قيّمة لأفضل عمل يُقدّم بهذه المناسبة، وكان صديقي حينها مدير عام دار الفتوى ببيروت باعتباره رئيس تحرير لمجلة الفكر الإسلامي، فهاتفني وطلب مني إكمال العمل لتقديمه للمسابقة. فعدتُ إلى القاهرة من جديد ومكثتُ بها شهرين، وقرأت تاريخ دمشق من جديد ووسّعت دائرة البحث بحيث لم أكتف بأعلام طرابلس فقط بل جَمَعتُ كل الأعلام الذين ينتسبون إلى المدن اللبنانية. فتجمَّع لديّ أكثر من 6000 علم جمعتها ورتبتها أبجديا، وكنت الفائز الأول في المسابقة. وكُتب عن المؤلَّف تقارير جيدة، وأحب بعضهم أن ينشر هذا العمل ففاوضوني واتفقنا، وصدرت الموسوعة في 16 مجلدا، وكان صدورها في أصعب الأوقات التي عانى منها لبنان في الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، وكنت حينها أعمل في تاريخ الإسلام وفي الموسوعة، وبحكم الإشراف على الطباعة والتصحيح والفهرسة، كنتُ أضطر إلى التوجه نحو بيروت، وكان حزب القوات اللبنانية يقيم حاجزا مسلّحا في الطريق بين طرابلس وبيروت ويمارس القتل على الهوية، وتعرضنا لأخطار جسيمة، ومع ذلك حمدنا الله على السلامة والحفظ.

[فجوة تاريخية.. وبدايات الالتحام]
بصفتكم مؤرخا متخصصا، ما هي أبرز الإشكاليات التي أثارت انتباهكم وحفّزتكم للبحث أكثر في القضايا التاريخية؟

قبل نحو 8 أو 10 سنوات، لاحظتُ أن هناك فجوة تاريخية كبيرة غامضة تفصل ما بين أواخر دولة المماليك وبداية الدولة العثمانية، في بلاد الشام ومصر. ففي العصر المملوكي مؤرخون يُعدّون بالمئات، وكلهم كانوا من كبار العلماء الموسوعيين، كالمقريزي وابن حجر والذهبي والسخاوي والصفدي وابن كثير وابن تيمية والنويري والسيوطي، فكيف يكون العصر المملوكي المتّهم من قبل المستشرقين ومن قبل أعداء الإسلام أنه عصر تخلف وانحطاط وجهل؟ في حين أنني وجدته من خلال مطالعاتي من أغنى العصور لما حواه من أعلام متخصصين في كل الفنون الشرعية والطبيعية.
ولكن قبل سقوط دولة المماليك بنحو 25 عاما توقف الإنتاج فجأة، ووجدت أن كل من يريد أن يكتب عن نهاية دولة المماليك وبداية العهد العثماني لابد أن يعود إلى كتابين رئيسيين: الأول هو (مفاكهة الخلان وحوادث الزمان) لابن طولون الدمشقي فيما يتعلق بتاريخ بلاد الشام، ومن يريد أن يكتب عن مصر في تلك الفترة يرجع إلى كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) لابن إياس، ومن المعروف أن ابن إياس لم يغادر مصر مطلقا سوى عند ذهابه إلى حمص، فكيف يستفيد الباحث من كتاباته عن الشام؟ وكذا ابن طولون بالنسبة لمصر. فكل واحد منهما كتب عن القطر الذي يعيش فيه. وكان هذا دافعا للبحث عن مصادر تسد هذه الفجوة، فذهبتُ إلى اسطنبول وزرتُ المكتبات هناك، وعثرت على عدة مخطوطات تفي بالغرض، فأتيت بتاريخ ابن الجزري المعروف بـ (تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الشيوخ والأكابر من أبنائه)، وكانت النسخة في بعض أوراقها ممسوحة من كثرة استعمال الورق والرطوبة، فاضطررت للجلوس بمكتبة كوبريللي وكتبت الناقص بكلمات الرصاص، وحققت الكتاب ونشرته في ثلاثة أجزاء.
ولم أكتف بهذا حتى عثرت على كتاب (حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران) لابن الحمصي، ومن الطريف أن مؤلفه من الشام، ووُجد الجزء الأول من كتابه في اسطنبول والثاني في متحف لندن ببريطانيا والثالث في جامعة أسيوط بصعيد مصر، فجمعتُ الأجزاء الثلاثة وقمت بوضع دراسة مطوّلة له في المقدمة ونال إطراءً كبيرا من الباحثين الذين التقيت بهم، والحمد لله على التوفيق.
ولمّا كنتُ أتردد على دار الكتب المصرية قبل ذلك، وقفتُ على مخطوط صغير مُذهّب في صفحته الأولى، وهي نسخة خزائنية كُتبت للسلطان قايتباي في أواخر العصر المملوكي، وموضوعه: رحلة السلطان قايت باي من القاهرة إلى شمال بلاد الشام، حيث بدأت الأطماع العثمانية تتشوف إلى بلاد الشام، فسافر ليتفقد التحصينات الدفاعية والأبراج والجند ومدى إمكانية مواجهة المد العثماني، فاستغرقت رحلته أكثر من 4 أشهر، وكانت جرأة أن يترك السلطان مصر أكثر من 4 أشهر دون تخوّف من حدوث انقلاب عليه. والكتاب اسمه (القول المستظرف في سفر السلطان الملك الأشرف)، وأضفتُ تحت العنوان عبارة: (رحلة قايتباي إلى بلاد الشام) لأن القارئ لا يستشف من العنوان الأصلي المراد من الكتاب.

[3ملايين مخطوط معروف وأكثر من هذا العدد لا يزال حبيس الخزانات الخاصة]
الحديث عن النشر والتحقيق يقودنا إلى الحديث عن العبث الواقع اليوم بكتب التراث من طرف بعض من يُسمّون بالمحققين والناشرين، في زمن شهد فيه عالم النشر انفجارا هائلا من حيث التراث المنشور، فما رأيكم؟

من خلال مطالعاتي وتحقيقاتي، وقفتُ على كثير من الأعمال التي تشوّه كتبنا التراثية وأعمال المؤلفين العظام الذين تركوا إرثا ضخما وهائلا، والمخطوطات المعروفة في المكتبات المعروفة تبلغ نحو 3 ملايين مخطوط، وأستطيع أن أجزم أن هذا الرقم يوجد مثيله وربما أكثر منه في البيوتات الخاصة والمكتبات مما لا يعرفه المُفهرسون والمُشرفون على المكتبات ودور العلم والمؤسسات التعليمية والثقافية المهتمة بهذا الأمر.
ودخل على عالم التحقيق طفيليون ومدّعون للسمعة والشهرة لتظهر أسماؤهم على الكتاب مقرونة بكلمة "تحقيق" في حين أنه لا علاقة لعملهم بالتحقيق؛ فالبعض يكتفي بتخريج الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية، والبعض الآخر يأتي بكتاب مطبوع فينسخه ويطبعه من جديد ولا يعتمد على الأصول المخطوطة، وبعضهم إذا حصل على مخطوط لا يأتي بنسخة أخرى أو ثالثة حتى يقابل ويرى هل هناك خطأ أو نقص، وإنما همهم في ذلك الاستفادة المادية وفقط.
وحتى دور النشر ـ للأسف ـ معظمهم غير مثقفين ولا يهتمون بالناحية العلمية وهمهم أن يروج الكتاب، ولهذا يدفعون لهؤلاء الطفيليين ثمنا لا يليق بمحققين مرموقين مقابل أن تظهر أسماؤهم على الكتب، فيستفيد الطرفان من هذه الصفقة.

[حتى الكبار يُخطئون.. والتحقيقُ مَلَكةٌ]
وحتى دورُ النشر المحترَمَة تُخطئ في بعض الأحيان، وكثيرٌ من الباحثين والمؤرخين المعروفين يخطئون.
فمثلا وردَ في قائمة مراجع ومصادر بعض الباحثين ما يلي: "كتاب في التاريخ لمؤلف مجهول" نسخته موجودة في مكتبة المتحف البريطاني. ووجدت هذا التعريف في عدة كتب لمؤلفين ومحققين مشهورين ومحترمين، فحصلتُ على نسخة من هذا الكتاب وقرأته مرة أولى وثانية وثالثة، فإذا بي أتعرف على المؤلف وعلى عنوان الكتاب بنص الكتاب، ووجدت أن هذا الكتاب قد طبع مرتين: مرة في مصر ومرة في السعودية، غير أني وجدتُ النسخة المخطوطة تزيد عن المطبوعتين بثماني سنوات، والكتاب هو لابن دقماق، واسمه: (النفحة المسكية في الدولة التركية)، كما ذكر ذلك ابن إياس، ومن الغرائب أنني قدمت إلى الجزائر مشاركا في ملتقى الجمعية الخلدونية بمنطقة بسكرة حول شخصية عُقبة بن نافع ـ رضي الله عنه ـ بسببه.
وهناك أيضا عدة مؤلفات حققتها وكشفت فيها عدة أخطاء سبق وأن نشرها بعض الزملاء من المؤلفين والمحققين.

[ديوان ابن منير الطرابلسي.. ورحلة بحث فاقت 30 سنة!]
قُمتُ كذلك بجمع أشعار الشاعر ابن منير الطرابلسي من عشرات المصادر الأدبية والتاريخية ـ وديوانه مفقود للأسف ـ وفتشت عنه كثيرا ولم أجده. وأصدرت المجموع في كتاب.
ومنذ نحو أربع سنوات أقيم في طرابلس حفل تكريم لي، وشارك في هذا التكريم جلة من العلماء بمن فيهم رئيس منظمة المؤتمر الإسلامي صديقي د. أكمل الدين حسين أوغلو ود. محمد عدنان البخيت من الأردن ود. أيمن فؤاد السيد، وشارك في التكريم د. نيقولا زيادة ـ وهو مسيحي ـ وتوفي أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، ويُطلق عليه لقب شيخ المؤرخين، حيث عُمِّر 99 سنة، إلى جانب وزير سابق هو الأستاذ عمر مسقاوي، وهو نائب مفتي الجمهورية حاليا.
فجاءني الدكتور البخيت بمجموعة كتب كهدية، ومن بينها جزء من فهرس مركز الوثائق والمخطوطات في الجامعة الأردنية. وبعد 3 أيام تفرغت وأخذت الفهرس وتصفحته فوجدت فيه إشارة إلى وجود نسخة من ديوان ابن منير الطرابلسي، فم أنم ليلتها وبقيت أتساءل: هل يُعقل أن أجد الديوان وقد بحثتُ عنه منذ 30 سنة ولم أظفر به؟ وهاتفت د. عدنان وطلبت منه نسخة من المخطوط فوصلني بعد أسبوع، وكدت أطير فرحا حينها، ولا أبالغ إذا قلت إنني أمضيت 3 أيام لم أنم في مجموعها سوى 5 ساعات من شدة الفرح وأنا أقرأ وأقلّب الأوراق والصفحات والقصائد لأتأكد إن كانت القصائد له أم لغيره.
ولكنني وجدت أن كثيرا من القصائد لم تكن له، فقرأت المجموع خلال الأيام الثلاثة سبع مرات، واكتشفتُ أنه مُلفَّقٌ، ويبدو أن النسخة المخطوطة وقعت من أحدهم فتناثرت، ولمَّا جمعها تداخلت القصائد واختلطت بقصائد شاعر آخر. ولكن من هو؟
وعثرت في إحدى القصائد على خيط قادني إلى اكتشاف صاحبها. حيث أن الشاعر مدح أحد الخلفاء الفاطميين في مصر، فراجعتُ كتاب (النكت العصرية في التحفة الأزهرية) لعُمارة اليمني الشاعر، وطابقتُ هذه القصائد مع قصائد المجموع فوجدتها له، وقُسّم الكتاب بعدها إلى نصفين: واحد لابن منير والثاني لعُمارة، وحتى المفهرسين في مكتبة الأمبروزيانا في ميلانو نسبوه كاملا إلى ابن مُنير. وهذا من ضمن أخطائهم.
ولكنني وقفتُ في المجموع على قصائد جديدة لم أطلع عليها من قبل، فنشرتُ جميع ما وقعت عليه من شعر ابن مُنير.

[فرقُ ما بين المحقق والطفيليّ: العلاقة الحميميّة بالكتاب]
وهذا يدفعنا للحديث عن العلاقة الحميمة بين المحقق والكتاب الذي يعمل فيه، فهو يأخذ جُلّ تفكيره واهتمامه، ولعل هذا هو ما يُميّز بين المحققين المقتدرين والمتطفلين على التحقيق؟

هذا صحيح.
ولي شقيق أصغر مني يقيم في بريطانيا، فأطلب منه أحيانا أن يصور لي بعض المخطوطات. وطلبت منه مرة مخطوطة فصورها لي وأرسلها، ووجدتُ ضمنها مخطوطة أخرى يبدو أنها كانت ضمن مجموع. واكتشفتُ أنها لعبد الباسط بن خليل بن شاهين الظاهري، وكتابه بعنوان (نيل الأمل في ذيل الدول)، وهو ذيل على كتاب (دول الإسلام) للذهبي الذي وقف فيه عند سنة 744هـ، فهو أكمل من حيث انتهى الذهبي إلى أواخر القرن التاسع الهجري، وكان يُفترض أن يمتد التأريخ إلى أبعد من ذلك، ولكن ضاع من المخطوطة قسمٌ كبيرٌ. ومع ذلك نشرت الموجود في 9 مجلدات.
[غياب التواصل بين المحققين مُعضلةٌ تضيّع الوقت والجُهد]
غياب التواصل بين الباحثين مشكلة كبيرة، وهو يؤدي إلى إضاعة جهود مُعتبرة حيث يتم الاشتغال بكتاب واحد في نفس الوقت، فيصدر مرتين أو ثلاثا، وما هذا إلا جهد كان يمكن أن يُصرف إلى غير نشر المنشور وتحقيق المُحقّق..
نعم هذا صحيح.. وأذكر أنني عندما شاركت في ندوة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، وكان يحضرها كبار المحققين المصريين وبعض المسؤولين عن دور الكتب، جاءتني إحدى السيدات المحققات وقالت لي بأنني عطَّلتُها عن عمل كانت عاكفة عليه منذ أشهر لأنني حققته ونشرته.
هناك مشكلة تكمن في غياب التواصل بين المحققين ودور النشر، ولهذا يصدر الكتاب في عدة طبعات وبعدة أماكن. وإقامة جسر التواصل كان من مهمات معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، فهو يُصدر نشرة أخبار للتراث وينشر ما صدر من كتب التراث وما هو في طور التحقيق، ولكن للأسف لا تصل النشرة إلى جميع المحققين وجميع المؤسسات الثقافية، ونحن لا نعرف ما يُنشر في بلاد المغرب ولا يعرف المغاربة ما يُنشر في المشرق.
وحتى ببليوغرافيا المؤلفات الخاصة بفن معيّن أو مؤلِّف مُعيّن أو جديد ما نُشر تقوم بها جمعيات تنطلق من نشاط إما فردي أو محدود، فلا تتحقق الفائدة المرجوّة من نشاطها، ما لم تتبنَّ أعمالها مؤسسات رسمية.

[نصائح إلى المحققين الجدد]
هل من نصيحة تُسدونها إلى المحققين الجدد؟
المحققون القدماء تضاءل عددهم بسبب الوفاة، فرحم الله من مات منهم، وأستغلُّ المناسبة لأقول بأن العمل العربي والتحقيق والترجمة فقدتْ عَلَماً كبيرا هو الدكتور حَسَن حَبَشِي رحمه الله، وله العديد من الكتب التي ترجمها عن اللاتينية، وخاصة الكتب التي تتعلق بالحروب الصليبية وما كُتب عنها بأيدي الفرنجة واعترافاتهم بالجرائم الفظيعة.
على المُحقق أن يُحبَّ المرء عمله وأن يعتز بهذا التراث، وأنه حين يُقدم على تحقيق أيِّ كتاب ينبغي أن يعلم أن هذه رسالة حضارية، وعليه لذلك المطالعة الدائمة والواسعة ليتعرف على أساليب المحققين وطرقهم في التعليق والنقد والدراسة، حتى تتكوّن له ملكة. ولابد أن تتوفر تحت يده مكتبة تُغنيه عن مراجعة كتب غيره لما يضيع عليه من الوقت.
وأنا إلى الآن أستغرب كيف جمعت مكتبتي هذه، وهل كان القدر يُهيّئني لهذا العمل، حتى إنني أتناول كتابا من مكتبتي وأتساءل في نفسي: كيف اشتريت هذا الكتاب ولم؟ والله سبحانه كان يُعدّني لأدخل عالم التحقيق والتأليف. والحمد لله على ما وفّق وَأَلْهَمَ.
فَيَا بَرْقُ ليسـ(تْ نَجْدُ) داري، وإنما
رَمَانِي إليها الدّهرُ منذُ ليَالِ
فهل لك من ماء (الجزائر) قطرةٌ
تُغيثُ بها ظمآنَ ليسَ بسالِ
التعديل الأخير تم بواسطة مصطفى فرحات ; 06-04-2009 الساعة 07:47 PM
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية إخلاص
إخلاص
مشرفة سابقة
  • تاريخ التسجيل : 05-07-2007
  • الدولة : بلجيكا
  • المشاركات : 33,077
  • معدل تقييم المستوى :

    53

  • إخلاص is a jewel in the roughإخلاص is a jewel in the roughإخلاص is a jewel in the roughإخلاص is a jewel in the rough
الصورة الرمزية إخلاص
إخلاص
مشرفة سابقة
رد: حوار ممتع مع المحقق الدكتور عمر عبد السلام تدمري، محقق تاريخ الإسلام للذهبي
21-03-2009, 07:08 AM
بارك الله فيك أخي
على هذا الطّرح القيّم
دمت معطاءا

تحيّتي
  • ملف العضو
  • معلومات
الفتى الميلي
عضو جديد
  • تاريخ التسجيل : 06-04-2009
  • المشاركات : 4
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • الفتى الميلي is on a distinguished road
الفتى الميلي
عضو جديد
رد: حوار ممتع مع المحقق الدكتور عمر عبد السلام تدمري، محقق تاريخ الإسلام للذهبي
06-04-2009, 12:07 PM
دمتَ معطاءً
يا سائرا على الدَّرب
أخوك المخلص
من مواضيعي
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 02:17 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى