قنـــــــــــــــــــــــاص الميتــــرو
24-09-2020, 05:21 PM
قنـــــــــــــــــــــاص الميترو
" على المسافرين المتوجهين الى ميدان الآغا التوجه بعد حين الى الرصيف ستة"
صوت أنثوي رخيم استطاع أن يخرق الضوضاء المتسلطة على محطة الميترو...
ألوان و أشكال من البشر يدبون كما دبيب النمل في هذه المحطة العملاقة.
طلبة و مزارعون و موظفون و شيوخ و حتى المتسولون يصنعون ديكور هذا المكان.
" على المسافرين المتوجهين الى ميدان الآغا التوجه بعد حين الى الرصيف ستة" .
تكرر ذلك الصدى الأنثوي الجميل ليملأ فضاءات محطة الميترو...شغفا و أملا و استرخاءا.
تقدم قطار فاخر ذو صناعة يابانية رفيعة و جثم في خيلاء عند الرصيف ستة..
و تقاطر المسافرون حول الأبواب للظفر بمقعد مريح و قبالة النافذة.
فرك يديه بسعادة غامرة و ثبت نظارة سوداء فوق أنفه و بقدمه رفس بقايا سيجارة نتنة و فكر و هو يرمق أسراب البشر أمامه:
- انها فرصتي السانحة –
و سرعان ما تسلل بين الأجساد المتكدسة أمام بوابة القطار.. و تلاشى وسط ضحاياه مثل قطعة ملح.
لم يحفل بكثرة الزحام و الصخب المرتفع من الحناجر و لم يتقزز من رائحة العرق المنتنة التي تنبعث من جلابيب الفلاحين.
ما كان يهمه في هذه اللحظات هو اختلاس حافظة نقود من جيوب أحد الذاهلين. أو عقدا ذهبيا من جيد أحدى النسوة الغافلات أو سوار مرصع بالأحجار الكريمة. أو أو أو....المهم هو الظفر بالمال لا أقل و لا أكثر...
تعلم في مدرسة الأزمات أن جيب المرء يجب أن يكون مترعا بالمال مهما كان مصدره...
لم يعد يجد بين شظايا مشاعره المتحجرة أي شفقة نحو البشر. سواء كانوا موسرين أو معوزين..
أبوه رحل للحرب في أفغانستان و لقي مصرعه هناك في قصفي وحشي للعسكر الروس.
و لم يتح للصبي اليافع أن يودع أباه قبل أن يوارى الثرى ..
تزوجت أمه رجلا بخيلا و فظا غليظ القلب ..لقد كانت الخصومات لا تنتهي بينه و بين زوج والدته.
و سرعان ما فر الصبي من أحضان والدته ليرتمي بين أحضان الأزقة و اللصوص و الرذيلة و المجهول...
أرسل أنامله الخبيرة الى جيب أحدهم . و بحركة خاطفة سحب حافظة جلدية صغيرة و تبدد وسط حشود الناس مثلما تنتحر قطعة سكر في نهر دافق. و راح ينصت خلفه الى صراخ أخذ يختفي شيئا فشيئا : " سرقوا راتبي سرقوني سرقوني ....."
فتح اللص الحافظة و جحظت عيناه..لقد كان المبلغ زهيدا و حقيرا و تافها لا يساوي العناء الذي أنفقه في سبيله...
شتم اللص ذلك الموظف البائس مرة و شتم نفسه مرات ثم عاد مرة أخرى الى محطة الميترو عسى أن تقتنص ضحية أخرى.
كانت المحطة خالية من حشود المسافرين على غير العادة.
على مقعد خشبي أبصر شيخا جالسا في وقار وبين يديه تتدلى حقيبة صغيرة .
سال لعاب اللص أمام هذه الفريسة السهلة و في مثل سرعة الرمح تلقف تلك الحقيبة و أطلق ساقيه للريح..
" اوووووف اوووووووووف" كان يلهث مثل كلب ظمأن حين وصل الى حجرة شاحبة تتوارى خجلا في أحد الدروب المهجورة..
كان يحمل زخما من السعادة في صدره. لقد ظفر بصيد ثمين هذا المساء.
فتح الحقيبة. لم تكن تحتوي على فلس واحد... و استخرج منها "كاميرا" ثمينة جدا. انبهر اللص بهذا الحصاد السخي. و قلب عينيه الغائرتين في الآلة من كل الزوايا و فكر :
- كاميرا جديدة و نادرة في الأسواق –
شغل الكاميرا و راح يتفرج على الصور كأنه خاشع في محراب...
عشرات الصور تجمع ذلك الشيخ مع أطفال أبرياء كأنهم براعم الربيع. كان الشيخ سعيدا و باسما في تلك الصور الجميلة..
فجأة استيقظ الانسان بين جوانح اللص و رق للشيخ و لتلك الصور التي تختزل عالم البراءة النقي...ثم لمح رسالة في جوف الحقيبة. فضها ثم تأمل أسطرها المرتبكة و تمتم و قد فاضت العبرات من مآقيه :
" أحفادي الأعزاء. أحبكم و احتضنكم جميعا...
صباح اليوم كنت عند الطبيب و بعد فحص دقيق تبين أنني موبوء بداء السرطان.
قال الطبيب أن بقائي على قيد الحياة لن يزيد عن ثمانين يوما.
و لأن عقارب الساعة تلتهم أيامي في نهم شديد قررت أن أترك لكم شيئا للذكرى.
هذه الكاميرا المعبأة بالصور الجميلة....قبلاتي اليكم جميعا. الوداع..
جدكم الحبيب "
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 25-09-2020 الساعة 08:34 AM