سي بهلـــــول
18-08-2020, 11:00 AM
سي بهلــــــــــــــــــــــــول
خرج من رحم المجهول و بدون شهادة ميلاد ...لا أحد يعرف من أين جاء أو من أي قبيلة أو عشيرة أو و طن أتى...لقد بقي لغزا محيرا مثل معادلة رياضية صعبة الحل.
ذات يوم قالت ساحرة عجوز شمطاء تسكن عند تخوم المدينة:
- بعيني هاتين أبصرت كيف انبثق بهلول من ثنايا غيمة شديدة البياض تصحبه جنية بارعة الجمال-
انتصب فجأة أمام بائع الفاكهة قائلا:
- ممممممممممموزة بببببببببكامممم- بالكاد كانت الحروف تتسلل من بين شفتيه. منذ غشي المدينة و الجميع يعرف أن – بهلول – ثقيل اللسان أو أبكم.
قاطعه البائع و هو يخفي ابتسامة :
- يا سي بهلول لماذا تبحث عن الثمن؟ خذ هذه الموزة هدية من عندي –
تلقف بهلول الموزة بين أحضانه و انطلق كالسهم راضيا مسرورا.
في عباءته القذرة كان يعاشر دائما ألوانا من البراغيث و القمل و بلا تأفف يذكر.
فهي ملبسه و منزله و مأواه...و أطلق لحية كثة على صدره تتخللها بضع شعرات فضية رغم أنه لم يسلخ بعد مرحلة الشباب.
أما قدماه فحافيتان شتاء و صيفا و لا يأبه لأذى الأشواك أو الصخور أو لسع الهوام و الحشرات...
في منعرج الطريق صادف بهلول طفلا يتيما فقد أباه حديثا..قبله على جبينه و أهداه تلك الموزة الطازجة.
ابتهج الصبي و صاح :
- ثكرا ثكرا بهلووووووووووووووووووول –
بهلول يغشى بيوت المدينة كلها. و بلا استئذان أحيانا..يشرب في هذا البيت و يتعشى في ذلك البيت و ينام القيلولة في بيت آخر...
و قد يظفر بعباءة أو قميص من هنا أو هناك فكل الأبواب مشرعة أمامه.
أبواب الموسرين و أبواب المساكين على السواء.... و ما أكثر أبواب المساكين.
في المقهى الشعبي – قهوة العروبة – التحق بهلول بطاولة خشبية كبيرة احتشد حولها بعض الكهول...رائحة الشاي كانت تتسلل إلى الأنوف في اصرار شديد.
على رف خشبي جثم مذياع عتيق من مخلفات الحرب العالمية الثانية كان يصدح بخطاب ناري للرئيس جمال عبد الناصر من محطة - صوت العرب-
انخرط أولائك الكهول في حوار حاد و نقاش ساخن :
- جبهة التحرير هي الحضن الحقيقي لكل من له علاقة بالنضال ضد فرنسا-
تدخل أحد الكهول و هو يدخن غليونا مستوردا من ألمانيا.
- لكن لا يجب أن نسقط من حساباتنا أتباع مصالي الحاج ..لأن أغلبهم مشهود لهم بالوطنية – قاطعه كهل آخر.
- أول أمس وصلت إلى ميناء الجزائر باخرة فرنسية تحمل جنودا من السنغال و مدرعات جديدة و ذخائر مختلفة و و و – همس آخر بهدوء شديد.
لكن الجميع ابتهجوا عندما جلس بينهم بهلول ...قبل رؤوسهم الواحد تلو الأخر و أعاد التقبيل مرة و مرة حتى ضج جميع رواد – قهوة العروبة - بالضحك.
الشخص الوحيد الذي كان ينسيهم سطوة السياسة و بطش فرنسا و غلاء الأسعار و وطأة الفاقة هو بهلول...كان هو البلسم الجميل الذي يطفئ أجراحهم و يطمس أوجاعهم.
صاح عمي حميد فجأة :
- قهواجي كوب من الحليب و رغيف بالزبدة للزعيم بهلول و على حسابي –
صفق بهلول بيدين مكسوتين بشعر كثيف احتفاء بهذه الوليمة الباذخة. و سرعان ما بدأ في التهام طعامه المفضل...
و عاد الكهول للانغماس مرة أخرى في ذلك اللغو المطول الذي يكاد لا يتنتهي...
بهلول كان يصغي باهتمام إلى حديث القوم و أسنانه لا تتوقف عن قضم قطع الرغيف الموشحة بالزبدة اللذيذة...
عند الظهيرة التحق بهلول بشجرة الصفصاف العملاقة التي تقع في تخوم المدينة.
استلقى تحت ظلالها الوارفة و راح يرقب ملامح المدينة من بعيد...
شوارع متقاطعة و أزقة متعرجة مثل الثعابين و بنايات شاهقة و أكواخ حقيرة متناثرة مثل الأصداف البحرية...و سيارات و مركبات و قطارات تدب مثل دبيب النمل فوق الطرقات...
جثم بهلول لمدة غير قصيرة أما هذا المشهد المألوف...و دس يده في جوف العباءة و أخرج صورة مهترئة برائحة العرق المقززة.
صورة لشابة حسناء من شقراوات مدينة مرسيليا. لثم الصورة طويلا و أغمض عينيه للحظات...
و ما لبث بهلول أن أرسل من شفتيه ابتسامة مقتضبة ثم أخرج من جيب عباءته مزمارا خشبيا و راح يرسل ألحانا بديعة حتى أدركه النوم...
انسلخ أسبوع كامل من عمر المدينة...و في صباح بارد النسمات ألقى عساكر فرنسا القبض على عمي حميد مع مرافقيه حينما كانوا متوجهين إلى المزرعة.
و اختفى فجأة محفوظ الاسكافي من منزله وسط ذهول أبناءه و زوجته...
و ألقي القبض أيضا على – القهواجي – في ظروف غامضة .
و تتابع مسلسل الاعتقال و التنكيل ليطال عشرات الشباب و الوطنيين ...
و منذ تلك الوقائع المتلاحقة افتقدت المدينة و شوارعها و أسواقها و منازلها سي بهلول و لم يظهر له أي أثر..
خرج من رحم المجهول و بدون شهادة ميلاد ...لا أحد يعرف من أين جاء أو من أي قبيلة أو عشيرة أو و طن أتى...لقد بقي لغزا محيرا مثل معادلة رياضية صعبة الحل.
ذات يوم قالت ساحرة عجوز شمطاء تسكن عند تخوم المدينة:
- بعيني هاتين أبصرت كيف انبثق بهلول من ثنايا غيمة شديدة البياض تصحبه جنية بارعة الجمال-
انتصب فجأة أمام بائع الفاكهة قائلا:
- ممممممممممموزة بببببببببكامممم- بالكاد كانت الحروف تتسلل من بين شفتيه. منذ غشي المدينة و الجميع يعرف أن – بهلول – ثقيل اللسان أو أبكم.
قاطعه البائع و هو يخفي ابتسامة :
- يا سي بهلول لماذا تبحث عن الثمن؟ خذ هذه الموزة هدية من عندي –
تلقف بهلول الموزة بين أحضانه و انطلق كالسهم راضيا مسرورا.
في عباءته القذرة كان يعاشر دائما ألوانا من البراغيث و القمل و بلا تأفف يذكر.
فهي ملبسه و منزله و مأواه...و أطلق لحية كثة على صدره تتخللها بضع شعرات فضية رغم أنه لم يسلخ بعد مرحلة الشباب.
أما قدماه فحافيتان شتاء و صيفا و لا يأبه لأذى الأشواك أو الصخور أو لسع الهوام و الحشرات...
في منعرج الطريق صادف بهلول طفلا يتيما فقد أباه حديثا..قبله على جبينه و أهداه تلك الموزة الطازجة.
ابتهج الصبي و صاح :
- ثكرا ثكرا بهلووووووووووووووووووول –
بهلول يغشى بيوت المدينة كلها. و بلا استئذان أحيانا..يشرب في هذا البيت و يتعشى في ذلك البيت و ينام القيلولة في بيت آخر...
و قد يظفر بعباءة أو قميص من هنا أو هناك فكل الأبواب مشرعة أمامه.
أبواب الموسرين و أبواب المساكين على السواء.... و ما أكثر أبواب المساكين.
في المقهى الشعبي – قهوة العروبة – التحق بهلول بطاولة خشبية كبيرة احتشد حولها بعض الكهول...رائحة الشاي كانت تتسلل إلى الأنوف في اصرار شديد.
على رف خشبي جثم مذياع عتيق من مخلفات الحرب العالمية الثانية كان يصدح بخطاب ناري للرئيس جمال عبد الناصر من محطة - صوت العرب-
انخرط أولائك الكهول في حوار حاد و نقاش ساخن :
- جبهة التحرير هي الحضن الحقيقي لكل من له علاقة بالنضال ضد فرنسا-
تدخل أحد الكهول و هو يدخن غليونا مستوردا من ألمانيا.
- لكن لا يجب أن نسقط من حساباتنا أتباع مصالي الحاج ..لأن أغلبهم مشهود لهم بالوطنية – قاطعه كهل آخر.
- أول أمس وصلت إلى ميناء الجزائر باخرة فرنسية تحمل جنودا من السنغال و مدرعات جديدة و ذخائر مختلفة و و و – همس آخر بهدوء شديد.
لكن الجميع ابتهجوا عندما جلس بينهم بهلول ...قبل رؤوسهم الواحد تلو الأخر و أعاد التقبيل مرة و مرة حتى ضج جميع رواد – قهوة العروبة - بالضحك.
الشخص الوحيد الذي كان ينسيهم سطوة السياسة و بطش فرنسا و غلاء الأسعار و وطأة الفاقة هو بهلول...كان هو البلسم الجميل الذي يطفئ أجراحهم و يطمس أوجاعهم.
صاح عمي حميد فجأة :
- قهواجي كوب من الحليب و رغيف بالزبدة للزعيم بهلول و على حسابي –
صفق بهلول بيدين مكسوتين بشعر كثيف احتفاء بهذه الوليمة الباذخة. و سرعان ما بدأ في التهام طعامه المفضل...
و عاد الكهول للانغماس مرة أخرى في ذلك اللغو المطول الذي يكاد لا يتنتهي...
بهلول كان يصغي باهتمام إلى حديث القوم و أسنانه لا تتوقف عن قضم قطع الرغيف الموشحة بالزبدة اللذيذة...
عند الظهيرة التحق بهلول بشجرة الصفصاف العملاقة التي تقع في تخوم المدينة.
استلقى تحت ظلالها الوارفة و راح يرقب ملامح المدينة من بعيد...
شوارع متقاطعة و أزقة متعرجة مثل الثعابين و بنايات شاهقة و أكواخ حقيرة متناثرة مثل الأصداف البحرية...و سيارات و مركبات و قطارات تدب مثل دبيب النمل فوق الطرقات...
جثم بهلول لمدة غير قصيرة أما هذا المشهد المألوف...و دس يده في جوف العباءة و أخرج صورة مهترئة برائحة العرق المقززة.
صورة لشابة حسناء من شقراوات مدينة مرسيليا. لثم الصورة طويلا و أغمض عينيه للحظات...
و ما لبث بهلول أن أرسل من شفتيه ابتسامة مقتضبة ثم أخرج من جيب عباءته مزمارا خشبيا و راح يرسل ألحانا بديعة حتى أدركه النوم...
انسلخ أسبوع كامل من عمر المدينة...و في صباح بارد النسمات ألقى عساكر فرنسا القبض على عمي حميد مع مرافقيه حينما كانوا متوجهين إلى المزرعة.
و اختفى فجأة محفوظ الاسكافي من منزله وسط ذهول أبناءه و زوجته...
و ألقي القبض أيضا على – القهواجي – في ظروف غامضة .
و تتابع مسلسل الاعتقال و التنكيل ليطال عشرات الشباب و الوطنيين ...
و منذ تلك الوقائع المتلاحقة افتقدت المدينة و شوارعها و أسواقها و منازلها سي بهلول و لم يظهر له أي أثر..
من مواضيعي
0 حوريــــــــة
0 على سفح الجبل
0 قنـــــــــــــــــــــــاص الميتــــرو
0 محاولة أخيـــــرة
0 لعــــــــــــــــــــبة الدومينو
0 سي بهلـــــول
0 على سفح الجبل
0 قنـــــــــــــــــــــــاص الميتــــرو
0 محاولة أخيـــــرة
0 لعــــــــــــــــــــبة الدومينو
0 سي بهلـــــول
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 19-08-2020 الساعة 11:37 AM