المتنورون..بين النُّور والنُّورَة
05-04-2012, 05:31 PM
المتنورون..بين النُّور والنُّورَة (1)
-تعقيب على مقال :"لكل دين سلفيوه: المرأة عند جماعة هارديم"- (2)
آلة لرصد اللحى الدينية
ما أعظم ذلك النور الساطع من وجوه المتنورين.. الحداثيين.. اللائكيين.. العلمانيين.. العقلانيين، الديمقراطيين...نور يكاد سناه يذهب بالأبصار، ويظلم له ضوء الشمس في وسط النهار ، إنه نور الضوء المنعكس على وجناتهم المرداء الملساء، اللامعة البراقة، فحلهم وأنثاهم سواء.
إن ولع المتنورين وأشياخ العلمانية بالتربص بأرباب اللحى من كل دين، وشغفهم باستقراء أحوالهم، وتتبع حركاتهم وسكناتهم، وتحليل سلوكاتهم، ودراسة أفعالهم، والتشنيع عليهم في كل صغيرة وكبيرة، وعظيمة وحقيرة، جعلني أظن أن ليس قطب رحى الحداثة والعلمانية نشود العلم والمعرفة، ولا شعارها بث الحرية والحب، ولا دثارها نبذ التطرف والعنف، بل هو شيء أعظم من ذلك.. وأسمى من ذلك.. وأجمل من ذلك.. إنه الدعوة إلى المرودة ، المرودة التي هي عنوان التحرر والتنور! وأما اللحية فرمز الظلامية والتخلف واحتقار المرأة.
من أجل ذلك، فإن للمتنورين (من النور ...ومن النَّورَة كذلك) موهبة عجيبة، وإلهام لطيف، و"كشف" (صوفي) شريف، لقد تحولوا ببركة حبهم للمرودة إلى آلات لرصد اللحى "الدينية" في العالم، يشمونها على بعد آلاف الكيلومترات، ويترصدون حامليها الذي حجبوا النور (المنعكس على وجوههم) بتلك اللحى المخيفة المرعبة التي هي سبب خراب العالمين.
من أجل ذلك، يمم أحد أشياخ المتنورين في بلادنا الحبيبة أنفه شطر بيت المقدس، فلسعته روائح لحى جماعة "الهارديم" اليهودية، فأراد أن ينور العالم (بالنور)، ويحضه على تنوير الهارديم (بالنورة!)، كاشفا عن العلاقة الخطيرة (جدا!) بين هارديم اليهود وهارديمنا نحن المسلمين= السلفيون! وأن قلوبهم سواء، وشيطانهم واحد، بدليل أن نظرتهم إلى النساء سواء! وترجم لهذا الفكر العظيم، والرأي السديد القويم بمقال سماه:" لكل دين سلفيوه: المرأة عند جماعة هارديم اليهودية"، قال فيه ناصحا أمينا –بعد التثريب الموجع لفكر تلك الطائفة-: "ذكرتني هذه السلوكات بممارسات السلفية الدينية الإسلامية التي لا تختلف في رؤيتها للمرأة والاختلاط والحجاب اختلافا كبيرا عن رؤية هذه المجموعة التلمودية المتطرفة"!
فلله دره من همام وأسد ضرغام!
شرع من قبلنا
لا يخفى على أستاذنا الكريم، أن اليهود من أهل الكتاب، أنزل الله تعالى على نبيهم موسى كتابه التوراة، فالتوراة كغيرها من الكتب السماوية الربانية، فيها حق وعدل و..نور أيضا!، قال عز وجل: « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ».
ولا يخفى على أستاذنا الكريم، أن التوراة حُرّفت وبُدّلت بعد موسى عليه السلام، وطُمس كثير من النور الذي فيها، قال تعالى:" مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ"
ولا ينبغي أن يخفى على أستاذنا الكريم، أنه قد بقي في التوراة المحرفة (وفي الإنجيل المحرف كذلك) بعض الحق الذي لم تصل إليه أيدي العابثين، وبعض النور الذي عصمه الله تعالى من الطمس ليكون حجة على أهل الكتاب، نجادلهم به وندعوهم إلى الحق بدلالته.
لذا، فرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن الاطلاع على كتب أهل الكتاب المحرفة، حتى لا تُقذف الشبه في قلوبنا، فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهانا أن نرفض كل ما جاء من أخبار في الكتابَين المحرَّفَين جملة وتفصيلا ، خشية أن يكون ذلك من الحق الذي بقي فيهما فنجحده، قال صلى الله عليه وسلم:" إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم".
ومن الحق الذي بقي في التوراة والإنجيل ما جاء في كتابنا العزيز القرآن الكريم من آيات وردت في كتب سماوية سابقة، قال الله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»، وقال تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».
وتأمل كيف استعملت في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم أوصاف هي خاصة بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في مدح بعض المسلمين أو بعض أعمالهم لما كانت أعمال بر وأوصاف خير، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّاً وحَوَاريَّ الزبيرُ» ، وقال صلى الله عليه وسلم موصيا بعض أصحابه: "وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام".
وتأمل كيف كان من الأدلة المعتبرة في الشرع المقررة في علم أصول الفقه دليل يسمى: شرع من قبلنا! بمعنى إذا جاء في نصوص الكتاب والسنة ذكر لبعض شرائع من قبلنا من الأنبياء والمرسلين، فإنها تكون شرعا لنا إذا لم يأت في شرعنا ما يعارضها، فكيف إذا جاء شرعنا بتقريرها؟!
فيا لله! ما أقدس الحق في ديننا، ولا جرم، فالله تعالى هو الحق، ووعده الحق، وقوله حق، ولقاؤه حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، هدانا الحق سبحانه جميعا إلى الحق.
ومن أهل الكتاب...
وإن من عدل الله تعالى وقسطه بين عباده أنه عز وجل يعمم الوصف بالسوء على أمة إذا كان الذي ارتكب السوء منهم طائفة..ولو كانوا من اليهود! تأمل قوله عز وجل: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"، ونهانا ربنا في كتابه العزيز أن نعدل عن العدل في الحكم على قوم ولو كان بيننا وبينهم كراهية وشنآن..ولو كانوا من اليهود، فقال جل من قائل:«وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى».
والحاصل أن: اليهود هم أهل الكتاب، وكتابهم وشريعتهم محرفان، لكن قد يبقى فيهما بعض الحق والنور، ولا يجوز لنا أن نجحد الحق الذي في شريعتهم والذي يعضده ديننا بسبب أنهم يهود.
لذلك نقول:
بعيدا عن الصورة الكاريكاتورية المتحيزة التي وضعها الأستاذ الأمين في مقاله ذاك عن موقف اليهود الهارديم من المرأة، وبعيدا عن التهم الجزافية التي حاكم بها الأستاذ الأمين نوايا طائفة اليهود الهارديم لما جعلهم يضطهدون المرأة لـ"أنها شيطانة وساحرة" ولأنها "مصدر الفتنة وفساد الشريعة والدين"، وبغض النظر عن تصرفات هذه الطائفة في فرض رؤيتها على المجتمع اليهودي، وأنها "تريد أن تعوِّم العالم من حولها وتفرض سلطتها بالتكاثر الديمغرافي"، وأنها "تعيش على المنح والعلاوات الأسرية التي تمنحها لها الدولة والخواص" ، و"أنها مجموعة ترفض تعلم العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية واللغات الأجنبية"، وهذا -كما ترى- حشد لمساوئ هذه الطائفة لا علاقة لها بموضوع المقال الرئيسي (موقفهم من المرأة)، والغرض من ذلك أن يشنأ القارئ الطائفة وجميع أفعالها قبل الحكم على موقفها من المرأة، فيجرمه شنآن قوم على أن لا يعدل.
رغم ذلك كله، هل خطر على بال الأستاذ الأمين المتنور -طرفة عين- أن يتأمل -ولو لحظة- في أصل تصرفات اليهود الهارديم مع المرأة وجذورها، لماذا يدعونها إلى الستر، وينبذون الاختلاط بين الرجال والنساء، هل فرض الأستاذ الأمين المتنور -ولو احتمالا ضئيلا- تكون فيه نظرة الهارديم (على ظلاميتهم وطول لحيتهم) هذه صواب، أو على الأقل فيها شبهة صواب و لمعة حق؟! ولعلها من الحق القليل الذي بقي في الشريعة التوراتية؟
كلا، فالأمر محسوم عنده مسبقا، لأنهم مجموعة من "المتطرفين السلفيين "-كما قال-، وهل يعقل أن يصيب الحق سلفي (يهوديا كان أو مسلما!!)،كلا ، فهم ملتحون وهل يمكن أن يبصر الحقيقة ملتح!، كلا، فإنه قد "صُدِم العالم الغربي الذي رأى وعلى المباشر ممارسات هذه الملة الدينية المتطرفة" –كما قال-، وهل يُعقل أن يكون "العالم الغربي" على خطأ، أو يُصدم بأمر لا يَصدِم، ومن أصدق من "العالم الغربي" حديثا؟! ومن أقوم من "العالم الغربي" قيلا؟!، فما يسع الأمين إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا! وكما صدمتم صدمنا!.
ما الغرض من هذا التعقيب؟
ليس الغرض من هذا التعقيب على مقال الأستاذ الأمين مناقشته في مسألة الحجاب للمرأة، وأنه رمز العفاف والطهارة، ولا مناقشته في مسألة الفصل "العنصري!" بين الرجال والنساء، وأنه عين السياسة والمصلحة، فيكفينا أن ذلك من لدن حكيم عليم، ويكفينا أنه شرعة رسول رؤوف رحيم، ويكفينا أنه تعاليم ديننا الإسلامي القويم، فلا يضرنا من خذلنا من كل أفاك أثيم.
ليس الغرض من هذا التعقيب الدفاع عن اليهود، تلك الأمة الغضبية الغاشمة، الملعونة المفسدة في الأرض.
إن الغرض من هذا التعقيب، إطلاع القراء الكرام على أنموذج عن سطحية فكر المتنورين العلمانيين، وسذاجة طرحهم، وضحالة حجتهم، وكفرهم كفرا بواحا بمبدأ احترام الرأي الآخر والسعي إلى فهمه.
فلسان حالهم عند معالجة مسائل مثل المرأة ودعوتها إلى الحجاب مع الإسلاميين أو السلفيين على وجه الخصوص= نحن (العلمانيون) خير من الإسلاميين لأنهم لا يصافحون المرأة، نحن خير من السلفيين لأجل ما " سمعناه عن السلفية المصرية التي رفضت وضع صورة المرأة المرشحة في قوائمهما، فوضعوا بدلها صورة الزوج"، نحن أفضل من الملتحين لأنهم يجلسون في الحافلة أمام المرأة لا خلفها، وهكذا... يُلبِّسون على الدهماء، في القنوات، والجرائد السيارة، والمنتديات والصالونات والكتب، والمدونات، بصرف أنظارهم إلى المظاهر النهائية للأفعال والتصرفات، مع التهويل والتضليل، ضاربين صفحا عن مناقشة جذور تلك المظاهر وأصولها الفكرية، وأن عسى أن تكون حقا! ويرى من يقرأ لغطهم أنهم هم القوم، وأنهم هم أولو النهى وأرباب الحجى.
لماذا يسلك المتنورون هذا السبيل في الحجاج عند مناقشة الإسلاميين والسلفيين في مثل هذه القضايا؟ لماذا يركزون على الظواهر والسلوكات من طول لحية، أو إسباغ جلباب، أو تغطية وجه، أو قعود لنشيد، أو جلوس في مقدمة الحافلة، أو ضن بصورة شمسية، أو إحجام عن مصافحة أجنبية، لاسيما إذا كانت تلك الظواهر والسلوكات مهدِّدة لشهوتي البطن أو الفرج ، أو معارِضة لما ورثه الدهماء كابرا عن كابر، حتى يشغبوا بها في وجوه أهل الحق؟
لأنهم يوقنون أنهم إن ناقشوا الأصول الفكرية لكثير من تلك الظواهر والسلوكات، فإن رماح حجاجهم ستكسر عند أول حملة من حملات أهل الحق عليهم، وأن باطلهم سيزهق إذا حصحص الحق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، والبراهين العقلية، والدواعي الفطرية، والتجارب الإنسانية.
رجائي من الأستاذ الأمين صاحب المقال -سدده الله تعالى- أن يطاوعني في أمر، مؤونته يسيرة، أن يدعو الله تعالى بقلب مخلص خاشع، متجردا عن الهوى، قائلا: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، وعالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك على صراط مستقيم".
أُذكر الأستاذ الأمين، ومن على شاكلته من المتنورين، أن ينشدوا النور في مظانه، ويطلبوه في منابعه، قال الله تعالى: "قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
قال الله تعالى "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور".

(1) النورة مادة تستعمل في حلق الشعر.
(2) المقال كتبه الأستاذ أمين الزاوي، و نشر في يومية الشروق بتاريخ 18/01/2012
التعديل الأخير تم بواسطة سميع الحق ; 05-04-2012 الساعة 05:38 PM