قصة قصيرة..أسود الرأس
18-09-2009, 09:03 PM
قصة قصيرة


أسود الرأس



توقفت الحافلة لأول مرة أمام (دار الكولون) ونزل رجل يتجاوز الستين من العمر ، يجمع سيم الموقح ، بادية عليه علامات الانصهار في آتون المحن ، مفرطح الرأس موخوط ، مسطح الأنف ، مسترخ الجفون ، يضع نظارات يعتليها جبين كتبت عليه سطور الغبن ورسمت على خدوده آثار التعب ، حالق الذقن والشوارب ، يشد بأنيابه شبكا هولنديا ، يرتدي بذلة (شانقاي أزرق) بيده اليمنى عصا ويحمل بالأخرى قبعة مرسيلية ، شد بمظهره الغريب أنظار جميع الركاب ، وأخذ التساؤل بمجامع ظنونهم ، وبدا الاستغراب بكل جرأة في ملامح وجوههم .. انطلقت الحافلة بكل صعوبة بعد أن قطعت حبال الفضول ، كأنها ستار وانزاح عن وجه العجوز ، امتدت اللوحات من قدميه الى الأفق .. عن يساره قرية في حركة بطيئة ، كأنها ملجأ العجزة ، سلبت منها المدينة حيويتها ونشاطها ، جرداء ، ترتدي لباس الاسمنت الذي أكلت عوامل الفصول ألوان طلائه ، بجانبها مقبرة للعتاد الفلاحي الروسي الغموس ، كأنها ورشة للعب الأطفال ، أمامه سهل المسيو(ف) الذي أوقف امتداده جبل أولاد الشيخ (فلان) دار مزرعة الرومي لازالت قائمة يسكنها الرعاة بعد أن هجرها الفلاحون ؛ لم تفقد سوى جمالها ونظافتها ، لا شك أن التجارب هي السبب في هذا الاهمال الفظيع ، فمن التعاونيات الى التسيير الذاتي الى الثورة الزراعية الى المجموعات ، ومن يدري لعل عودة الاقطاع قاب قوسين أو أدنى وتصبح ألف قرية وقرية أسطورة بومدينية عاشها الفلاحون في النوم ، تنسج حولها الحكايات ويحكمها خبر كان يا ما كان ، ألم تكن خرافة قبل وجودها ؟ وقال الفلاحون عن مشروعها " الدولة تعطينا الأرض والجرار والحاصدة والسكن .. والماء والكهرباء وتدفع لنا الأجور دون أي مقابل (هدي في السليما وما لعبتش) لكن لعبت وانتهى الشريط بسرعة وصدق من قال " دوام الحال من المحال " عن يمينه المقبرة ، لا تختلف كثيرا عن مقابر مرسيليا ، السرو وأشياء أخرى ، قبورها مرتبة كأنها حديقة تزخر بمظاهر المدنية المتذوقة لجماليات الهندسة المعمارية ، قبور قديمة استوت مع البسيطة وقبور حديثة مجصصة كأنها عروش ، توقف عند بعضها ، سلم على الدار البيضاء (قبة سيدي) وانصرف .
هنا كانت خيم بني فلان ، حتى الأطلال طمست ، كانت طريقهم رخاء وكلابهم مكممة ، وجيادهم مسروجة ونارهم جارية فارسية ، وعراصهم مفروشة .. هكذا كانوا واستكانوا ، اندثروا ، كأن ما جمعته القبيلة في قرون شتتته المدنية الكاذبة في عشرية واحدة ، هي وحدها مخلصة ولا تزال ، وعساء واثنة تجود بطيبات دخيلتها وتجزل العطاء مقابل حبيبات ندى الكادحين التي تعتصرها من الجبين الهرم ، تستخرجها أجاجا وتستخلص من خامها حلاوة الكرامة وذهب الشرف والتعفف ، يزينها الوادس الزاهي ويطربها البرقش على ايقاع وكوف بواسق السحاب التي رسمتها لمسات أبريل الأخيرة ، تتخللها بسمات سمائه الصبوح ، يغسل ذلك الغيث بكل لطف تباريج الغناء الممتدة على وثار بدوة الوادي الوسنى الى الضاجع الغضبان .. يا سبحان الله ، تغير كل شيء هنا ، حتى البثوق التي كان يقف عليها البوم الأحمق كل ليلة ، يعكس بعيونه البجاء ضوء القمر ، غطتها الأغصان التي تفرعت وورقت ، والوشل الذي كان يطرب النفوس وكانت جداوله مسقاة لليرقاء والوراشين الأليفة أصبح مشربا للذئاب والخنازير ، تتمتع وحدها بوهيج الربوة الذي كان مرتعا لهواجس الشعر الملحون ، يهيج غرائز القارحة فتظهر عليها بوادر هذيان الحسناء اللطيف في مقامات الوصال ، يغتصب في الخفاء البراعم المتطفلة باسم الحفاظ على الوزن والتوازن في الطبيعة التي لا تريد أن تخالف السنن .
لما بلغ المنعطف ، امتد أمامه المسلك ثانية ، تحفه من الجانبين أنواع مختلفة من النباتات الطفيلية اليافعة ، تغني على وشوشتها ورقصاتها الأوابد وغردت عليها القواطع ، وعزف العبير الرطب سمفونيته الخالدة على أغصان الصفصاف التي انحنت وتدنت ، تحي الثعالب التي قضت على السناجب ، تعاتب بكل تواضع القادم بعد جفاء وغياب طويل .. الأوراق التي سقطت وتراكمت على الدرب ، عبر السنين الماضية تئن تحت وطأته بخشخشتها الحزينة ، أثارت في نفسه الشجون وهسهاس الحنين الذي حركه من جديد اغتراب الهجرة ووحدة النزوح ، حركته هذه الربوع الخالية التي تشكو العقوق بكل أشكاله ، هضلاء ، ضرعاء ، غناء تعمرها الصراصير في الصيف والثعالب في الشتاء .
وقف كاليفن وسط البهو ، يجتلي ما حوله ، يجتر بعد تخمة وضيمة التروي الذي وأدته في أعماقه آنذاك الأراجيف ، يستعيد في وجم ذكرى ذلك اليوم العاق الذي هزمته فيه نزعة مدنية الفرانسيس فكفر بأرضه ، بهذه الأرض في وطنه ، وكفر بالسماء في غربته ، فكتب القلم عليه سنوات المهانة المزخرفة برماق العدل والرحمة ، وها هو ذا يعود الى دياره اليوم مدؤوما مدحورا ، يتجول بنظر استورد بصيرته ، كأنه في متحف فلاحي عرضت فيه أدوات فلاحي العقود البعيدة ، جلس على أسكفة الباب ، لمط بلسانه زبد الغيظ الذي تشكل حول تلك الشفاه التي تورمت من تناول المشروبات الروحية ، الآن فقط أحس بمرارة كؤوس الحنظل المتموجة التي كانت تتلألأ على الضفة الأخرى من النهر الأبيض الذي كان يفصل بيننا وبينهم ، وعرف أن الجسر الذي وضعوه آنذاك كان للسلب والنهب ، والنفق الذي حفروه أخيرا لتمرير الأبهرين هو تأكيد لنظرية امتداد أرضهم تحت البحر وتوثيق رابطة التبعية وتمرير أدوات الانسلاخ فوق الماء وتحت الماء وما بين الأرض والسماء ، ولما رفضت الأرض الملقحة بالثوابت والثورات الخالدة ، انصاع الانسان الذي فقد المناعة ،فنزل من الجبل الى أدغال المدن يعيش مع الطفيليين على فضلات الشرق والغرب ، تأود به سبيل المبتغى الحالم وهلكت على قارعته كل الأصول وسقط السطاع ، الكل يعاني اليوم رسيس الفوز الذي بناه النزوح على الرسيلة يحسبه سرمديا ..
مكظظ ينظر الى نفس مغرورة أهلكتها المتالب وأرهقتها ، وصدق عليه المثل القائل " أراد الغراب أن يمشي مشي الحمامة ففقد مشيته " أخرج من جيبه أوراقا نقدية (من العملة الصعبة) وبدأ يقلبها ، لم يحس هذه المرة بالنشوة والسعادة التي كانت تغمره ، لأن هذه الفرنكات لا تكفي لشراء العدس المستورد ، فشمر على سواعده الهرمة ليتوضأ ويصلي صلاة المتقاعدين على شباب أفناه في خدمة أمة بنت حضارتها ومدنيتها بدم وعرق الشعوب المستضعفة ، وهو يقول في قرارة نفسه " خدعونا مرتين " فاذا لم تكن للنقود رائحة كما يقولون ، فان للدم والعرق في هذه الأرض روائح وألوانا ، يا حسرتي ، وهل يأتي اليوم الذي يتغلب فيه مد البحر على جزرنا فنستعيد الجبال الطارقة ، ونصنع للتاريخ مقام (المسيو فرج) على الضفة الأخرى من البحر ؟ .. هكذا نشهد بالعدل للرب الذي يؤمنون به وبالصدق للابن الذي يقدسونه وبالنزاهة للروح التي يطهرونها . وبدأت دموعه تتساقط لأول مرة كأنها بردادة قلب كساه الحديد ،تصقله جنايات السوابق ويسحقه الندم بين ضرتيه ...



هوامش
-(دار الكولون les colons معني نادي المعمرون او المستوطنين
-(شانقاي أزرق bleue shanghai بدلة لونها ازرق من صنع شنغهاي
-المسيو monsieur بمعنى السيد
-الرومي تعني الفرنسي اطلقها الجزائريون على الفرنسيس
-التعاونيات الى التسيير الذاتي الى الثورة الزراعية الى المجموعات هي مؤسساتانبثقت عن مناهج واساليب تسير القطاع الفلاحي انتهجتها الحكومات الجزائرية منذ الاستقلال الى يومنا هذا
-أسطورة بومدينية نسبة الى فترة رئاسة هواري بومدين للجزائر
-(هدي في السليما وما لعبتش) معناة "حتى افلام السينما لم تأتي به" يقال للتعبير عن حدوث امر لا يصدق
-(قبة سيدي)وتعني ضريح سيدي . انتشرت ظاهرة بناء القبب على اضرحة الشيوخ والاولياء بالجزائر وقد كانت من بين المظاهر التي حاربها الشيخ عبد الحميد بن باديس




مختار سعيدي



حريتنا في الحلم بركان ... لا يعرف أحد متى يثور ... هكذا نمارس الكتابة ...