ضابط الاستحلال بين علماء الحق ودعاة الضلال
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه , وبعد :
فإن مسائل التكفير من المسائل العظيمة الخطيرة التي تتعلق بالأمن والأمان واستحلال الأموال والدماء , وقد خاض فيها رويبضات هذا الزمان وكفّروا عباد الله -حكاما ومحكومين- بغير وجه حق , فسفكوا الدماء , وسرقوا الأموال , وانتهكوا الأعراض ولا حول ولا قوة إلا بالله
ومن أدق مسائل التكفير وأخطرها في هذا الزمان , مسألة الاستحلال , لذا فقد تكلّم عليها علماء الحق بما لا مزيد عليه , وبيّنوا أنواع الاستحلال وضوابطه .
فحدّوا لهذه الضوابط حدودا صارمة , ووضعوا أمام أهل الأهواء سدودا عاصمة
فأبى دعاة الضلال إلا أن يتخطوا هذه الحدود ! , ويهدموا هذه السدود !
وعندما قال علماء الحق : لا دلالة على الاستحلال إلا بالنطق , وماذا بعد الحق إلا الضلال
قال دعاة الباطل : القرائن دالة على الاستحلال ! , ولسان الحال أبلغ من لسان المقال !
فأحببت أن أجمع هنا في هذا البحث الصغير فتاوى علماء الحق في ضابط الاستحلال وبيان كيف أنهم يشترطون النطق باللسان للحكم بالاستحلال
مع بيان أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها فهناك أنواع من القرائن القطعية الدلالة والتي قد يتنازع فيها العلماء
ثم يلي ذلك بعض الشبهات التي يعرضها من أراد التسوية بين القرائن القطعية الدلالة والقرائن الظنّية !! - مثل المجاهرة بالكبيرة والاستخفاف بها (!!) - دفاعا عن أبي إسحاق الحويني ! والردّ على هذه الشبهات وتفنيدها
, راجيا من الله التوفيق والسداد , وهو وحده ولي ذلك والقادر عليه
1-الشيخ العلامة العثيمين رحمه الله تعالى
◘سُئِلَ العلامة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:
بالنسبة للاستحلال؛ إذا أقدم شخصٌ على أي معصية من المعاصي؛ سواء من الكبائرأو غيرها، وأصر عليها.
[1] هل بمجرد عمله وإصراره يُحْكَمُ عليه بأنه استحل هذا الشيء؟!؛
[2] أم أن الاستحلال ((عمل قلبي)) لا يظهر ((إلا)) أن يتفوه به الشخص؟!
◘ الجواب:
«أي نعم؛ ((الثاني هو الحق))؛ لأن كثيرًا مِن الناس يصرون على المعاصي، (ويعتقدون) أنها حرام؛ لكن يقولون: (عجزنا أن نَفْتَكَّ منها)، وتجده إذا فعل المعصية يستغفر الله منها؛ بل إن بعض الناس ينذر نذرًا مُغَلَّظًا ألاَّ يفعل هذه المعصية ولكنه يعجز. فلابد من هذا[يعني: أن يتفوه بالاستحلال]»اهـ.
• المصدر:
«سلسلة شرح صحيح مسلم» – كتاب الجهاد والسِّيَر والإمارة – الشريط التاسع – الوجه (ب) – دقيقة (40 : 07 : 00)/بفهرسة أهل الحديث والأثر.
السؤال: فضيلة الشيخ! ما هو ضابط الاستحلال الذي يكفر به العبد؟
________________________________________
الجواب: الاستحلال: هو أن يعتقد حِلَّ ما حرمه الله. وأما الاستحلال الفعلي فينظر:
إن كان هذا الاستحلال مما يكفِّر فهو كافر مرتد، فمثلاً لو أن الإنسان تعامل بالربا، ولا يعتقد أنه حلال لكنه يصر عليه، فإنه لا يكفر؛ لأنه لا يستحله، ولكن لو قال: إن الربا حلال، ويعني بذلك الربا الذي حرمه الله فإنه يكفر؛ لأنه مكذب لله ورسوله. الاستحلال إذاً: استحلال فعلي واستحلال عقدي بقلبه. فالاستحلال الفعلي: ينظر فيه للفعل نفسه، هل يكفر أم لا؟ ومعلوم أن أكل الربا لا يكفر به الإنسان، لكنه من كبائر الذنوب، أما لو سجد لصنم فهذا يكفر.. لماذا؟ لأن الفعل يكفر؛ هذا هو الضابط ولكن لابد من شرط آخر وهو: ألا يكون هذا المستحل معذوراً بجهله، فإن كان معذوراً بجهله فإنه لا يكفر، مثل أن يكون إنسان حديث عهد بالإسلام لا يدري أن الخمر حرام، فإن هذا وإن استحله فإنه لا يكفر، حتى يعلم أنه حرام؛ فإذا أصر بعد تعليمه صار كافراً.
لقاءات الباب المفتوح (جزء 50 / صفحة 14)
2-الشيخ العلامة أحمد النجمي رحمه الله تعالى
قال رحمه الله :" لكن ما هو الاستحلال الذي يعتبر به العبد مستحل لذلك المحرم؟
والجواب: الاستحلال هو من فعل القلب، وهو أن يعتقد العبد بقلبه حِلّ المحرم المجمععليه، ولو لم ينطق بذلك، فمن اعتقد حِلّ الزنا كفر، ولو لم يفعله، ومنفعله وهو يعتقد أنه حرام، فهو مسلم فاسق، ومن اعتقد حِلّ الربا كفر، ولولم يفعله، ومن فعله وهو يعتقد أنه حرام، فهو مسلم فاسق، ومن اعتقد حِلّالخمر كفر، ولو لم يشربه، ومن شربه وهو يعتقد أنه حرام، فهو مسلم فاسق،
وعلى هذا فبأي شيء نعرف الاستحلال؟ الجواب: نعرفه بالنطق؛ بأن يقول مثلاًبأن الخمر حلال؛ أو الربا حلال؛ أو الزنا حلال، أو أن يكتب ذلك في كتابنقطع بصحة نسبته إليه؛ أما بدون ذلك، فلا، لأن الاستحلال من عمل القلوب،والقلوب لا يطلع على ما فيها إلا الله وحده، وقد بطلت بهذا التحقيق حجة منيكفر بفعل الكبيرة، ولو تكرر ... "
انتهى كلامه رحمه الله
المصدر: كتاب "الفتاوى الجلية عن المناهج الدعوية" ج1 ص98، 99
3- الشيخ العلامة الفوزان حفظه الله تعالى
◘ 3- سُئِلَ العلامةُ الفوزان -حفظه الله-:
ما هي الضوابط التي ينبغي لطالب العلم أن يعرفها لكي يحكم على فلان من الناس بأنه مستحلٌ للمعصية -المجمع على تحريمها- بحيث يكفر المستحل لهذه المعصية ؟
◘الجواب:
«الضوابط التي تدل على استحلال المعصية:
أن يصرح الشخص بأنها حلال:
[1] إما بلسانه،
[2] وإما بقلمه؛
يعني: يكتب أنها حلال، أو يقول أنها حلال؛ حينئذٍ يُحكم عليه أنه مستحل لها. و((بدون ذلك)) لا يُحكم على استحلاله لها؛ حتى يثبت عليه:
[1] إما بالقول: أن يصرح بلسانه،
[2] وإما بالكتابة،
[3] وإما بأن يشهد عليه شاهدان عدلان من المسلمين -فأكثر- بأنه يقول بحل الزنا، أو حل الخمر، أو حل الربا، وما أشبه ذلك.
حينئذٍ يُحكم عليه بالاستحلال؛ إما بإقراره (كلاميًا)، أو (كتابيًا)، وإما بالشهادة عليه»اهـ.
• المصدر:
محاضرة له بعنوان : «ظاهرة التبديع والتفسيق والتكفير وضوابطها»؛ وقد حضرها وعلق عليها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز. مما يدل على إقراره لهذا التأصيل.
4-الشيخ الإمام العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
5-الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله
قال الشيخ الألباني في رسالة ( فتنة التكفير ) وهذه الرسالة قرأها وعلّق عليها وأيّد ما فيها الشيخ ابن باز رحمه الله :
" فكل المعاصي - وبخاصة ما فشا في هذا الزمان من استحلال عملي للربا والزنى وشرب الخمر وغيرها - هي من الكفر العملي فلا يجوز أن نكفر العصاة المتلبسين بشيء من المعاصي لمجرد ارتكابهم لها واستحلالهم إياها عمليا إلا إذا ظهر - يقينا - لنا منهم - يقينا - ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله اعتقادا فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة.... إذا الكفر الاعتقادي ليس له علاقة أساسية بمجرد العملإنما علاقته الكبرى بالقلب
ونحن لا نستطيع أن نعلم ما في قلب الفاسق والفاجر والسارق والزاني والمرابي . . . ومن شابههم إلا إذا عبر عما في قلبه بلسانه أما عمله فيبنئ أنه خالف الشرع مخالفة عملية "
انتهى كلام الألباني رحمه الله
6- الشيخ العلامة صالح آل الشيخ حفظه الله تعالى
قال الشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله تعالى- :
" فصار إذن هنا عندنا في لفظ الاستحلال عند بعض أهل العلم على هذا الحديث أن الاستحلال:
* منه ما يرجع إلى استحلال الفعل.
* ومنه ما يرجع إلى استحلال الحكم.
فإذا كان الاستحلال للحكم يعني استحلال للمحرم؛ يعني أن يعتقد أن هذا المحرم حلالا، وأما إذا كان الاستحلال للفعل يعني جعل فعله حلالا له، ليس من جهة أنه ليس حراما عليه؛ لكن من جهة إقدامه عليه وفعله له؛ يعني استحله من جهة الفعل لا من جهة الحكم قالوا هذا هو حال أولئك، وهذا الذي يناسب الوعيد لأن الوعيد الذي جاء في آخره يناسب العصاة لا الكفار.
فمن هنا يظهر لنا أن لفظ الاستحلال خاض فيه أقوام كثير في هذا الزمن، ومنهم من تكلم في الاستحلال الظاهر وأن المعاصي الظاهرة قد تكون استحلالا؛ يعني يستدل بظهور الذنوب والكبائر على أن الحال استحلال لها ...(كلمة غير واضحة) عندهم واستدلوا عليه بأشياء.
وهذا عند أهل العلم غير مُسلَّم "
انتهى كلامه حفظه الله من شريط بعنوان " نواقض الإيمان عند أهل السنة والجماعة وضوابط ذلك "
7- الشيخ بندر العتيبي حفظه الله
فائدة :
واعلم - وفقك الله للعلم - أن هناك من يكفِّر بهذه البنوك - وإن كانت معصيةً - تحت ستار الاستحلال ! ويدّعي أن حماية هذه البنوك قرينة دالّة على الاستحلال ؛ ومن ثم فإن الحاكم يكفر بذلك !
وجواباً على هذه الدعوى أقول :
لا يمكن أن يُستفاد الاستحلال إلا من التصريح ؛
فليس :
1. الإصرار على الذنب ؛
2. ولا حمايته ؛
3. ولا الدعوة إلى مقارفته ؛
دالاًّ على الاستحلال .
بل لا يقول هذا إلا من تشرَّب حبّ التكفير وتجرّأ عليه ممن لم يعرف العلم الشرعي !
وإلا :
§ لكفّرنا المصرّ على شرب الخمر - مثلاً - ,
§ ولكفَّرنا الأبَ الذي يحمي أجهزة الإفساد من اعتداء أحد أبنائه عليها ,
§ ولكفَّرنا كلّ صديقِ سوءٍ يدعو إلى المعصية ويُزيّنها . . وبيان أمثلة هذا يطول .
فليُكفِّر أولئك المُتعجِّلون أباءهم وإخوانهم وذويهم إن كانوا يلتزِمون تطبيق ما يقولون ؛ وإلا فلْيَعُوا خطورة الأمر ولْيَنْتهوا عما هم عليه ....
وقال (الشيخ الفوزان ) - حفظه الله - جواباً على سؤال : ( هل وجود البنوك الربوية ووضعها في البلاد دليل على استحلال الربا واستباحته ؟ ) ، ( الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية ص 68 ، ط الأولى ) :
« أكل الربا لا يدل على استباحة الربا , أكل الربا كبيرة من كبائر الذنوب , والتعامل بالربا كبيرة وموبقة من الموبقات ؛ لكن لا يدل هذا على كفر المرابي ؛ إلا إذا استحله ولو لم يأخذه . إذا قال : ( الربا حلال ) ؛ فهو كافر ولو لم يأخذ الربا . فإذا جمع بين الجريمتين وقال : ( الربا حلال ) , وأخذه ؛ فهذه جريمتان والعياذ بالله ؛ أكله كبيرة وفسق واستحلاله كفر »
انتهى .
منقول بنصه من كتاب
" وجادلهم بالتي هي أحسن "
مناقشة علمية هادئة لـ 19 مسألة متعلقة بحكام المسلمين
مدعم بالنقل عن الإمامين عبد العزيز بن باز ومحمد ابن عثيمين - رحمهما الله
الطبعة الرابعة - 6/4/1426 هـ - صفحة 108
*****************************************
هذه فتاوى علماء الأمة وحراس العقيدة بين يديك أيها اللبيب كلها متفقة على سبيل واحد ومنهج ثابت لا يتغير وما كان ذلك منهم إلا اتباعا لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
" لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس ! , ولا أن أشق بطونهم ! "
متفق عليه
والحديث المشهور : " هلا شققت عن قلبه ؟ حتى تعلم أقالها أم لا ؟؟ "
قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه على هذا الحديث في صحيح مسلم :
" وَقَوْله : ( أَفَلَا شَقَقْت عَنْ قَلْبه حَتَّى تَعْلَم أَقَالَهَا أَمْ لَا ؟ )
الْفَاعِل فِي قَوْله أَقَالَهَا هُوَ الْقَلْب ، وَمَعْنَاهُ أَنَّك إِنَّمَا كُلِّفْت بِالْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ وَمَا يَنْطِق بِهِ اللِّسَان ، وَأَمَّا الْقَلْب فَلَيْسَ لَك طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَة مَا فِيهِ ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ اِمْتِنَاعه مِنْ الْعَمَل بِمَا ظَهَرَ بِاللِّسَانِ . وَقَالَ : أَفَلَا شَقَقْت عَنْ قَلْبه لِتَنْظُر هَلْ قَالَهَا الْقَلْب وَاعْتَقَدَهَا وَكَانَتْ فِيهِ أَمْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَلْ جَرَتْ عَلَى اللِّسَان فَحَسْب يَعْنِي وَأَنْتَ لَسْت بِقَادِرٍ عَلَى هَذَا فَاقْتَصِرْ عَلَى اللِّسَان فَحَسْب ، يَعْنِي وَلَا تَطْلُب غَيْره . وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَفَلَا شَقَقْت عَنْ قَلْبه ) فِيهِ دَلِيل لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَة فِي الْفِقْه وَالْأُصُول أَنَّ الْأَحْكَام يُعْمَل فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ ، وَاَللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر . "
انتهى كلام النووي رحمه الله
وهذه قاعدة عامّة في كل من ارتكب جميع المعاصي – التي هي دون الكفر - ولم يُصرّح بلسانه أنه مُستحل لها , فلا يجوز لنا أن نحكم عليه بالاستحلال , إلا إذا كانت المعصية نفسها كفرا مثل سبّ الرسول وإهانة المصحف عامدا والاستهزاء بالشريعة , فهذا يُحكم بكفره ولا يشترط الاستحلال أصلا ...
**********************************
نعم , هذه القاعدة ليست على إطلاقها فهناك بعض الصور المحدودة والمحدودة جدا (!) التي ( قد ) يعتبرها بعض العلماء المجتهدين ( قرائن قطعية الدلالة )
وحَكَموا فيها على فاعل الكبيرة بأنه مُستحل بغير تصريح قولي
مثال ذلك :
1- مانعي الزكاة إذا طُولِبوا بها وألزمَهُم الإمامُ بها وقاتلهم على منعِها فرفضوا وقاتلوه دونها , كَفَروا وحُكِم عليهم بالاستحلال وإن زعم أحدهم أنه مقرّ وملتزم بالتحريم ! , فلا يُقبل منه هذا
2- الحاكم بغير ما أنزل الله في أي بلد مسلمة إذا ألزمته و قاتلته دولةٌ أخرى مسلمة قوية حتى يحكم بما أنزل الله , فرفض وقاتلهم على ذلك , فيحكم عليه العلماء بأنه كافر مستحل ويُقاتل قِتال المُرتدّين إذا دَافع , وإن زعم أنه مقرّ وملتزم بالتحريم ! , فلا يُقبل منه هذا
وهذا ما صرّح به العلامة تقي الدين رحمه الله وأيدّه في ذلك الإمام ابن باز رحمه الله كما في شريط الدمعة البازية ..
3- تارك الصلاة إذا أصرّ على تركه الصلاة واستتابه الإمام وأمَره بالصلاة وإلا القتل ! فأبى أن يُصلي ! وفضّل الموت ! وأصرّ على ذلك , يَكفُر وإن زعم أنه مُقرّ بالصلاة ووجوبها أو زعم أنه لا يستحل تركها !
كما صرّح بذلك شيخ الإسلام وابن قيّم الجوزية وغيرهم من أهل العلم ..
هذه أمثلة لبعض الصور المحدودة التي قد يعتبرها ( بعض ) العلماء قرائن قطعية الدلالة فيحكمون على فاعل الكبيرة بأنه مستحل كافر أو جاحد وإن زعم بخلاف ذلك ...
ومثل هذه النوازل المدلهمة والفتاوى العظيمة المهمة لا يتصدّر لها ولا يخوض فيها إلا الأئمة الكبار من العلماء المجتهدين ...
وأكرر , الأصل هو عدم الحُكم على مرتكب الكبيرة – التي هي دون الكفر - بأنه مُستحل كافر إلا أن يُصرّح بلسانه وينطق بالاستحلال هذا هو الأصل , وقد يُستثنى من ذلك بعض الصور التي قرّرها العلماء لأن القرائن فيها قطعية الدلالة , مثل من قاتل دون كبيرة منع الزكاة ! أو قاتل دون الحكم بما أنزل الله ! وهذا لا شك أنهم أصابوا في ذلك
وكذلك أصدر بعض العلماء فتاوى فيمن حكم بغير ما أنزل الله وجعله تشريعا عاما على الناس أنهم يكفرون ويُحكم عليهم بالاستحلال لأنهم يرون هذا التشريع العام دليلا قاطعا على الاستحلال القلبي وهذا ما أدّاه إليه اجتهادهم وهم أهل لهذا الاجتهاد , ولكن لا شك أنهم أخطأوا في هذه المسألة والأدلة الصريحة من السنة تثبت خلاف ما ذهبوا إليه وهذا هو ما عليه جماهير العلماء سلفا وخلفا وهو أن من حكم بغير ما أنزل الله ولو تشريعا عاما لا يكفر حتى يستحلّ و يصرّح بلسانه عمّا في قلبه...
وهذا الخلاف في مسألة ( الحكم بما أنزل الله بالتشريع العام ) فقط ! وليس في كل من أتى بكبيرة وجاهر بها مُتبجّحا (!!) كما يحاول بعض إخواننا – غفر الله لهم – توسيع دائرة الخلاف هنا (!) لتمريرها وحشرها في الخلاف السائغ ! , دفاعا عن أبي إسحاق الحويني ! , فانتبه وكن على بيّنةٍ و حَذَر !
فإذا خرج علينا داعية ضلالة و وَسّع دائرة هذه المسائل المحدودة – ظلما وعدوانا ! - لتشمل كل من وقع في (بعض) الكبائر المُنتشرة بين ملايين المسلمين (!!!) ومن ثَمّ يحكم عليهم بالاستحلال دون أن يُصَرّحوا بلسانهم وكفّرَهُم وحكم عليهم بالردّة عن الإسلام والخروج من الملّة بقرينة المجاهرة والتبجّح بالمعصية !!!!
نقول له لقد ابتدعت و خالفت أصلا من أصول أهل السنة وخالفت ما عليه علماء السنة سلفا وخلفا , ويُرَدّ عليه ويُشَنّع عليه ولا كرامة !
ومن وصفه بأن فيه ( خارجية ) أو أنّه من ( خوارج العصر ) ! كما فعل بعض العلماء فقد أصاب وأجاد , فجزاهم الله عنّا خير الجزاء فقد كفّوا ووفّوا ...
************************************************** *****************
الردّ على شبهات من جعل - المجاهرة بالكبائر أو الاستخفاف بها - قرينة قطعية دالة على الاستحلال القلبي (!)
الشبهة الأولى
قالوا : ها هو الشيخ العثيمين رحمه الله يكفّر بعض العصاة ويحكم عليهم بالاستحلال ! بقرينة المجاهرة والاستخفاف بالمعصية (!)
حيث قال –رحمه الله- في شرح رياض الصالحين (1\70) : "هناك قسم ثالث فاسق مارد ماجن يتحدث بالزنا افتخارا والعياذ بالله يقول إنه سافر إلى البلد الفلاني وإلى البلد الفلاني وفجر وفعل وزنى بعدة نساء وما أشبه ذلك يفتخر بهذا هذا يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل لأن الذي يفتخر بالزنا مقتضى حاله أنه استحل الزنا والعياذ بالله ومن استحل الزنا فهو كافر .
ويوجد بعض الناس الفسقة يفعل ذلك .
الذين أصيب المسلمون بالمصائب من أجلهم ومن أجل أفعالهم .
يوجد من يتبجح بهذا الأمر إذا سافر إلى بلد معروف بالفسق والمجون مثل بانكوك وغيرها من البلاد الخبيثة التي كلها زنى ولواط وخمر وغير ذلك رجع إلى أصحابه يتبجح بما فعل .
هذا كما قلت يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل لأن من استحل الزنا أو غيره من المحرمات الظاهرة المجمع عليها فإنه يكفر".
وقال –رحمه الله- في شرحه على كتاب السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص\315) :
"مع الأسف يا إخواني أنه سمعنا –والله أعلم- أنه يوجد في بعض البلاد الإسلامية أن الخمر يشرب علنا ... , هؤلاء الذين يفعلون ذلك هل يقال: إنهم مستحلون له أو غير مستحلين؟ , الجواب: مستحلين له لا شك , كيف يرخص له هذا الترخيص العام وفي الأسواق ويعطي رخصة إلا وأنه يرى أنه حلال ؟ لو رأى أنه حرام لم يفعل".
فهل ستقولون عن العثيمين رحمه الله أنه تكفيري منحرف مثل أبي إسحاق الحويني !!؟؟؟
الردّ على هذه الشبهة
نقول الرد على هذه الشبهة المتهافتة على خمسة أوجه :
الأول : فيما يخص كلامه في شرح رياض الصالحين , هذه الفتوى مخالفة لما هو معروف مشهور عن الشيخ العثيمين , وليس من طريقة أهل العلم أن ندع المشهور من مذهب العالم لكلام عارض قد ( حُذف ) من الطبعات المعتمدة كلها ! , بل وحُذف من موقع الشيخ الرسمي , وبغض النظر هل الشيخ هو الذي قام بهذا قبل موته - كما هو الظن به رحمه الله - أو أن اللجنة العلمية القائمة على كتبه تنبّهت لهذا الخطأ المُخالف لما كان عليه الشيخ طوال حياته ويدعو له فحذفوه , فالأمر سواء عند أهل الإنصاف.
ثانيا : هذه فتوى أخرى للشيخ العثيمين يتكلّم عن صنف من المسلمين وقع في كبيرة الزنا والعياذ بالله , ثم
1- (جاهر بالزنا ويتحدث عنه كأنه يأتي أهله الذين أباحهم الله له !! )
2- و(تفاخر به !)
3- و ( حثّ الشباب على الزنا وأغراهم به !!! )
فهل قال عنه الشيخ العثيمين أنه مستحل كافر خارج من الملة ؟؟ نترك الإجابة للقارئ اللبيب وانظر رحمك الله
قال الشيخ العثيمين رحمه الله في شرح صحيح البخاري , كتاب الأطعمة الشريط رقم 13 الوجه الأول , الدقيقة 9:00 وما بعدها :
" لكن الحديث الذي أشار إليه , يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف , أربعة أشياء كلها حرام بلا إشكال , لكنهم يستحلّونها , الحر يعني الفرج وهو أعّم من الزنا فيشمل الزنا واللواط والعياذ بالله , ومعنى استحلالهم له إمّا أن يقولوا بحلّه , وإمّا أن يفعلوه فعل المستحل , يعني يفعله الإنسان غير مكفهر منه ولا نافر منه ولا كأنه إلا شئ معتاد حتى إنه يتحدّث به وكأنه يتحدّث في إتيان أهله الذين أباحهم الله له , لا يبالي وهذا موجود , فيه من استحل الزنا وقال هو حلال كالذين استحلوا الربا وقالوا أنه حلال .... أعرفتم إذا استحلّوه ولا لا ؟ استحلوه أي اعتقدوه حلالا لكن بطريقة , وقد يرون أن الزنا حرام لكن يفعلونه فعل المستحل كأنه ليس بحرام لا تنفر منه طباعهم ولا يختانون من التحدث به كما هو الواقع , الآن فيه ناس شباب يغري بعضهم بعضا بالزنا والعياذ بالله ويقول اذهب إلى البلد الفلاني اجعل إجازتك متعة في البلد الفلاني الأمر ميّسر لا في منع ولا شئ .... هذا الذي يقول هكذا أيكون مستحلا له أم مستحرما له ؟؟ هه ؟ متسحله سواء اعتقد أن الزنا حلال أو إنه اعتقده حراما لكن يفعله فعل المستحل .... المعازف قال العلماء هي آلات اللهو , واستحلالها أيضا على الوجهين كما سبق في الزنا , إما أن يعتقدوا أنها حلال أو يفعلوها فعل المستحل لا يبالون بها وهذا وقع , وقع الآن ففاضت المعازف وانتشرت بين الأمّة ... "
انتهى كلامه رحمه الله
ومن هنا المقطع الصوتي كاملا من موقع الشيخ العثيمين رحمه الله
http://www.binothaimeen.com/sound/sn...8/A0018-13A.rm
لقد حكم عليهم الشيخ العثيمين - مع فسقهم واستخفافهم ودعوتهم للفاحشة ! - بأنهم إما أن يكونوا استحلوه استحلالا عقديا ( وهو الذي يكفر به العبد )
أو يرون أنه حرام لكن يفعلونه فعل المستحل ( أي الاستحلال العملي الذي لا يكفر به العبد )
ولم يجزم بأن هذا الزاني المجاهر المتبجح بالزنا والداعي له كافر
ثم كرّر نفس كلامه مرة أخرى قائلا :
" الآن فيه ناس شباب يغري بعضهم بعضا بالزنا والعياذ بالله ويقول اذهب إلى البلد الفلاني اجعل إجازتك متعة في البلد الفلاني الأمر ميّسر لا في منع ولا شئ .... هذا الذي يقول هكذا أيكون مستحلا له أم مستحرما له ؟؟ هه ؟ متسحله سواء اعتقد أن الزنا حلال أو إنه اعتقده حراما لكن يفعله فعل المستحل "
فأكّد كلامه مرة أخرى رحمه الله مثبتا أن الحكم على هذا الصنف الفاجر الشديد الفسق على وجهين :
1- إما أن يكون معتقدا أنه حلال ( استحلالا عقديا مكفر )
2- وإما أن يعتقده حراما ولكن يفعله ( استحلالا عمليا غير مكفّر )
وهذا هو التفصيل الذي عليه أهل السنة ولله الحمد
وهو موافق تماما للضابط الذي وضعه الشيخ للحكم بالاستحلال كما في لقاءات الباب المفتوح (جزء 50 / صفحة 14)
فهل يقال أن الشيخ العثيمين كان تارة يكفر بقرينة المجاهرة والاستخفاف وتارة لا يفعل !؟
أم نلتزم جادة الصواب ونقول لقد زلّ الشيخ رحمه الله في هذا الموضع الواحد وقد حُذف بفضل الله من كل كتبه المعتمدة ؟؟ .
ثالثا : لقد صرّح الشيخ العثيمين أنه لا يحكم بالاستحلال إلا إذا صرّح مرتكب الكبيرة بلسانه في فتاوى كثيرة مشهورة عنه ومبثوثة , فيجب اعتماد هذه الفتاوى المحكمة وترك كلامه الذي يخالف تقريراته وتأصيلاته المشهورة في كتبه وفتاواه رحمه الله
قال الشيخ صالح آل الشيخ في شرحه على كتاب أصول الإيمان :
" الآن كل يقرأ وكل يبحث فيذهب ويقول: قال فلان كذا وقال فلان كذا، ليست هذه بالوجهة الصحيحة، أحياناً يأتي متشابه من كلام أهل العلم فيتوقف المرء فيه، أما الذي يقول قال فلان كذا ويستدل به ونترك المحكمات ونترك الأصول من أجل قول لابن تيمية – مثلاً – في المسألة الذي أصاب رحمه الله في جل أقواله، أو قول للإمام أحمد ونترك به المحكمات ليس صحيحاً، أو قول للإمام مالك ونترك به المحكمات ليس صحيحاً، فكيف بمن دونهم من فلان وفلان من الناس. "
انتهى كلامه حفظه الله فهل من معتبر ؟؟
رابعا : أما كلام الشيخ رحمه الله في شرحه على السياسة الشرعية |, فهذا في التشريع العام والترخيص العام , وقد سبق أنه هناك من أهل العلم من يرى هذا التشريع العام دليلا قاطعا على الاستحلال , وهذا وإن كنا لا نسلم به لمخالفتة للأدلة الصحيحة ولكنه قد وقع بالفعل من بعض علماء السنة المجتهدين ولكن في مسألة التشريع العام فقط لعظم شأنها وقوة القرائن في نظر من قال بهذا القول مع اشتراطهم إقامة الحجة وغير ذلك من ضوابط العلماء , فلا يُشغّب علينا أحد ويقول نُدخل في هذا المجاهرة بالكبائر ! أو الاستخفاف بها !! , ومثل هذا يقال له : قف (!) رحمك الله حيث وقف العلماء .
خامسا :
للشيخ العثيمين فتوى أخرى في مسألة التشريع العام وفي آخر عمره مسجلة مع أبي الحسن المأربي وفيها صرّح الشيخ بأن هذا الذي يحكم بما أنزل الله تشريعا عاما قد يكون فعل ذلك لهوى أو شهوة ولم يجزم بأنه مستحل , وهذا هو ما عليه سائر علماء السنة والحمد لله
وهذه هي آخر فتوى للشيخ رحمه الله في هذه المسألة فيجب المصير إليها وعدم نسبة ما يخالفها للشيخ رحمه الله كما هو معلوم عند أهل العلم , ما دمنا قد عرفنا السابق واللاحق كما هو متقرر عند أهل العلم .
الشبهة الثانية
ما رأيكم في صنيع بعض الصحابة كـ(عمر بن الخطاب , وأسيد بن حضير) , في تكفيرهم لأعيان –آخرين- من الصحابة بناء على ما وقع منهم من أفعال ظاهرة هي ليست كفرا بنفسها , كما أشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (4\330-333) حيث قال : "هب أن واحدا من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك على وجه الغضب إنكاره بعض ما ينكر ؛ فليس قوله حجة , ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له , بل قد يكون كلاهما وليا لله تعالى من أهل الجنة , ويظن أحدهما جواز قتل الاخر , بل يظن كفره وهو مخطىء في هذا الظن , كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة ... [وفيها] قال عمر (رضي الله عنه) : (دعني أضرب عنق هذا المنافق) ... .
فهل نقول عن عمر أو أسيد رضي الله عنهم أنهم تكفيريون ! لا سمح الله ؟؟ وها قد رأيتم كيف كفروا بالقرائن وحكموا على المعين بالاستحلال !!
الردّ على هذه الشبهة من ثلاثة أوجه :
أولا : هذا القياس فاسد بل هو من أفسد القياس ولو صحّ لجاءنا رجل غدا يحتجّ علينا بخروج الحسين وغيره من الصحابة !! فيقول هذه مسألة اجتهادية بين أهل السنة !! , ولا حرج على من خرج على الحاكم الآن !!!
ثانيا : حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كاتَبَ المشركين وأخبرهم بسرّ النبي صلى الله عليه وسلم وكان من الممكن أن يقتل عشرات المسلمين بسبب فعلته هذه رضي الله عنه لولا أن جاء الوحي وأدرك الصحابة هذه المرأة التي كانت تحمل الرسالة ...
فهل هذه القرينة القطعية الدلالة - غالبا - تُسوّى بقرينة من جاهر بالمعصية واستخفّ بها ؟؟!
والله إن هذا لمن أفسد القياس على وجه الأرض !
ثالثا : مسائل التكفير الدقيقة والخطيرة وتقعيد القواعد المتعلقة بها ليس لآحاد أهل العلم فضلا عن طلاب العلم ! , بل هي خاصة بالعلماء المجتهدين وليس لكل أحد
فهل سبقكم أحد من أهل العلم وقال أن - المجاهرة بالكبائر والاستخفاف بها - قرينة قطعية الدلالة و دالة على الاستحلال ؟؟؟!
لا شك أن الإجابة ستكون : لا
إذا نقول : ديننا ومنهجنا مبني على الاتباع لا على الابتداع
ولا يجوز لنا أن نتبع غير سبيل العلماء فهم مصابيح الدجى إن تركناهم ضللنا