تفسير قوله تعالى " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما "
30-12-2011, 01:17 PM
بسم الله الرحمان الرحيم

( والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما ( 72 ) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ( 73 ) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ( 74 ) )

وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن ، أنهم : ( لا يشهدون الزور ) قيل : هو الشرك وعبادة الأصنام . وقيل : الكذب ، والفسق ، واللغو ، والباطل .

وقال محمد بن الحنفية : [ هو ] اللهو والغناء .

وقال أبو العالية ، وطاوس ، ومحمد بن سيرين ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وغيرهم : هي أعياد المشركين .

وقال عمرو بن قيس : هي مجالس السوء والخنا .

وقال مالك ، عن الزهري : [ شرب الخمر ] لا يحضرونه ولا يرغبون فيه ، كما جاء في الحديث : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " .

وقيل : المراد بقوله تعالى : ( لا يشهدون الزور ) أي : شهادة الزور ، وهي الكذب متعمدا على غيره ، [ ص: 131 ] كما [ ثبت ] في الصحيحين عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " ثلاثا ، قلنا : بلى ، يا رسول الله ، قال : " الشرك بالله ، وعقوق الوالدين " . وكان متكئا فجلس ، فقال : " ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور [ ألا وقول الزور وشهادة الزور ] . فما زال يكررها ، حتى قلنا : ليته سكت .

والأظهر من السياق أن المراد : لا يشهدون الزور ، أي : لا يحضرونه; ولهذا قال : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) أي : لا يحضرون الزور ، وإذا اتفق مرورهم به مروا ، ولم يتدنسوا منه بشيء ; ولهذا قال : ( مروا كراما ) .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو الحسين العجلي ، عن محمد بن مسلم ، أخبرني إبراهيم بن ميسرة ، أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد أصبح ابن مسعود ، وأمسى كريما " .

وحدثنا الحسن بن محمد بن سلمة النحوي ، حدثنا حبان ، أنا عبد الله ، أنا محمد بن مسلم ، أخبرني ابن ميسرة قال : بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما " . ثم تلا إبراهيم بن ميسرة : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) .

وقوله : ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ) [ و ] هذه من صفات المؤمنين ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) [ الأنفال : 2 ] ، بخلاف الكافر ، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يقصر عما كان عليه ، بل يبقى مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله ، كما قال تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) [ التوبة : 124 - 125 ] .

فقوله : ( لم يخروا عليها صما وعميانا ) أي : بخلاف الكافر الذي ذكر بآيات ربه ، فاستمر على حاله ، كأن لم يسمعها أصم أعمى .

قال مجاهد : قوله : ( لم يخروا عليها صما وعميانا ) لم يسمعوا : ولم يبصروا ، ولم يفقهوا شيئا .

وقال الحسن البصري : كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى .

[ ص: 132 ]

وقال قتادة : قوله تعالى : ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ) يقول : لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه ، فهم - والله - قوم عقلوا عن الله وانتفعوا بما سمعوا من كتابه .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن حمران ، حدثنا ابن عون قال : سألت الشعبي قلت : الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا ، أيسجد معهم؟ قال : فتلا هذه الآية : ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ) يعني : أنه لا يسجد معهم لأنه لم يتدبر آية السجدة فلا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة ، بل يكون على بصيرة من أمره ، ويقين واضح بين .

وقوله : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) يعني : الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم وذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له .

قال ابن عباس : يعنون من يعمل بالطاعة ، فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة .

وقال عكرمة : لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين .

وقال الحسن البصري - وسئل عن هذه الآية - فقال : أن يري الله العبد المسلم من زوجته ، ومن أخيه ، ومن حميمه طاعة الله . لا والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا ، أو ولد ولد ، أو أخا ، أو حميما مطيعا لله عز وجل .

وقال ابن جريج في قوله : ( هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) قال : يعبدونك ويحسنون عبادتك ، ولا يجرون علينا الجرائر .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني : يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يعمر بن بشر حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا صفوان بن عمرو ، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما ، فمر به رجل فقال : طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم! لوددنا أنا رأينا ما رأيت ، وشهدنا ما شهدت . فاستغضب ، فجعلت أعجب ، ما قال إلا خيرا! ثم أقبل إليه فقال : ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيبه الله عنه ، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم ، لم يجيبوه ولم يصدقوه ، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين لما جاء به نبيكم ، قد كفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبيا من الأنبياء في فترة من جاهلية ، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان . فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل ، وفرق بين الوالد وولده ، حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده ، أو أخاه كافرا ، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان ، يعلم أنه إن هلك دخل [ ص: 133 ] النار ، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار ، وإنها التي قال الله تعالى : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) . وهذا إسناد صحيح ، ولم يخرجوه .

وقوله : ( واجعلنا للمتقين إماما ) قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، والربيع بن أنس : أئمة يقتدى بنا في الخير .

وقال غيرهم : هداة مهتدين [ ودعاة ] إلى الخير ، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع ، وذلك أكثر ثوابا ، وأحسن مآبا; ولهذا ورد في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به من بعده ، أو صدقة جارية " .