عرس "فالصو "
11-04-2009, 11:18 AM
عرس " فالصو "

تلقيت دعوة مزركشة الحواشي..لحضور العرس الكبير..
وكيف لا يكون كبيرا وقد تفرد على غيره من الأعراس..وبلغ خبره البعيد والقريب..القاصي والداني..ذلك أن براح القرية خص طبله وحباله الصوتية منذ شهور لهذا الحدث دون غيره..
شمر القوم عن سواعد الجد..أقاموا الدنيا وأقعدوها..استنفروا الجميع.. كبارا وصغارا..شيوخا وأطفالا..عجائز وأبكارا..ساقوهم من كل حدب وصوب.. ليتجمعوا في الساحة الكبيرة المزدانة للحدث العظيم..ويهتفوا ملء حناجرهم بحياة العريس..معددين صفاته الربانية التي ما سمع الناس بمثلها في غيره من البشر..
رقص الجميع عبر الأزقة والشوارع..صاحوا بآيات النصر العظيم..واجتهد الفنانون المبدعون في ابتكار الألحان الطروبة..ليمزجوها بأروع الكلمات المشيدة بمناقبه التي لا يحصيها عد..
حتى الفنانة الكبيرة..صاجبة الرائعة " سكنت مارساي " كانت في الصفوف الأولى..
لوحة رائعة لتكاتف جميع الشرائع..حتى "قادة" المشهور بسوابقه العدلية لم يتخلف عن الركب..ولم يأل جهدا في التعبير تضامنه مع العريس..
ربما كانت زوجتي على صواب..إذ أشارت عليّ بأن ألبي الدعوة..وأحضر العرس الكبير..
لا شك أنها زوجة صالحة..وما قلقها المتزايد..إلا فيض من حبها..وخوف من تفاقم مرضي المزمن..هذا الذي لم يعد يخفى على الكثيرين..
لماذا كشرت في وجهها بعين الواثق من نفسه..والمستهجن لرأيها..؟
أهو العقل والمنطق..؟ هذا الذي أنفقت عمري بين تقاطعاته معتدا بقياساته الصارمة..وبراهينه القاطعة..إلى أن تجرأت المخلوقة ذلك اليوم..وواجهتني بعبارتها العارية دون مقدمات :
- أنت تستند دائما لجدار المنطق..ولذلك فإنك لا تفهم شيئا..
صحيح..ما أكثر الأمور التي يستعصي علي فهمها..أو على الأقل..أجدني في حاجة مستمرة لإعادة ترتيب رموزها من جديد..كأن لم تستقر في ذهني منها أية صورة بينة المعالم..ولكن..هل يعني هذا حقا أني لا أفهم شيئا..؟
ثم..هل أنا الذي أسعى للفهم..أم هي الأسئلة الخبيثة التي تنتصب أمامي كل حين..؟
لم أفهم ذلك اليوم مثلا..كيف يحرمني أخي القابع خلف مكتب متسخ..من حق إثبات الإقامة في القرية التي ولدت بها..ما لم أستطهر بطاقة الحضور للعرس فرجعت أجر أسئلتي البلهاء..
ولم أفهم على وجه التحديد..كيف يقام هذا العرس ببهرجه اللامع..لعريس مقيم مع زوجته منذ أمد بعيد..
أيكون زواجه بها كل هذه المدة مجرد زواج متعة..؟ أم تراه طلقها ثلاثا دون أن ندري..ويريد أن يستردها خشية أن ينكحها رجل غيره..رغم علمه أن الرجال الذين يشاع بأنهم مؤهلون للزواج..صاروا مخصيين..؟
كما لا يمكن أن يكون زواجه بها زواج ميسار..فهي ليست " بايرة "..كريمة وابنة كرام..عزيزة باهرة الجمال..يخطب ودها الجميع..
وفجأة..صحت في وجه زوجتي:
- كيف لم يخطر ببالي ذلك من قبل..؟
فردت متسائلة:
- ماذا..؟
فقلت:
- إنه عرس "فالصو"..
ضحكت حتى بانت ضرسها المسوسة وقالت :
- ما بك يا رجل..؟ عرس "الفالصو" يقوم به الناس الذين قدموا هدايا للآخرين في مناسبات سابقة..ويريدون استرجاعها بوليمة مفتعلة يدعون لها كل المدانين..أما هذا العرس فأمره مختلف..لأن العريس وأهله هم الذين يتبرعون بالهدايا والعطايا على المدعوين..
أدركت أني لم أجد ما أرد به عليها..فربتت المخلوقة على كتفي وقالت:
- إذهب يا رجل..وكفى فلسفة..
وهي تظلمني في هذه..سامحها الله..فقد طلقت الفلسفة منذ زمن بعيد..أضربت عن الخوض في تساؤلاتها المحرجة وتناقضاتها الرهيبة..بعدما حضرت جنازة الفكر في مقبرة العبثية..وبعدما تحول التفكير إلى سوق مزدهرة يقتني منها الناس قناعاتهم بماركات مستحدثة لا قبل لي بها..
- كن كجميع الناس..قالت..
ولست أدري كيف سأتجرد من ذاتي..أمسح عيوبي الحميمة وأفكاري السقيمة.. لأتحول إلى نسخة طبق الأصل من الآخرين..
وهب أني فعلت..فمن سأكون في هذه الحال..؟ ما اسمي..؟ وما الماضي الذي يشكل مخزون ذاكرتي..ونبض مفاصلي..؟ وما صورة الغد الذي أهدرت زهرة عمري في انتظاره..؟ وهل أقوى على مسح السبورة كلها..واستبدال جداولها القديمة بما أجمع القوم على صلاحه..؟
من أستفتيه في معضلتي..؟
حتى إمام المسجد المجاور..وعلى غير العادة..ترك روايات السابقين وسابقي السابقين هذه المرة و قال:
- اذهبوا إلى العرس وأتمو إيمانكم..
وأنا الذي أعتقدت دوما..أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل..فهل أصدق قلبي..أم ألتزم بما أفتى به شيخنا الفاضل بشواهد دامغة..؟ وبين هذا وذاك..كيف تستقيم خطواتي ولا يضيع إيماني..؟
أما الحارس الأبدي للثوابث..فقد رأيته يعتلى منبره المحجوز منذ أمد الآمدين ويهتف بصوت جهوري :
- من لا يسعى في هذا اليوم..فهو خائن لعهود العروسة المقدسة..
وهذه أكبر من غيرها جميعا..العروسة أعرفها كما لا أعرف غيرها..وحبها في شغاف الفؤاد لا يعدله أي شيئ..
هي المعرفة الوحيدة التي تلقيتها منذ أن خالطني الوعي..إلهاما دون واسطة..حقيقة صادقة لا تشوبها شائبة شك..يقين كمعرفة الله تماما..هذا الذي لم أشعر قط بالحاجة إلى رؤيته لاؤمن بجلاله وتنزهه عن التشبيه بغيره..
فكيف لهذا أن يزرع بذور الريبة في يقيني..؟
كانت وما تزال معشوقتي الدائمة..عشقتها قبل أن أعرف للعشق معنى..رسمتها منذ نعومة أظافري بأحرف لامعة..من قسوة الحرمان..من دموع الأرامل وضياع اليتامى..من أحلام الملايين..ومن تضحيات جيل بكامله يندر أن تلد الأمهات مثيلا له..فتجلت صورة ناصعة لانتماء مقدس..
وتقاسمت حبها مع فلول العشاق بالتساوي..دون غيرة ولا حسد..وازداد هيامي بها كلما ازداد عددهم من حولي..كلما اتسع طابور المتيمين بمفاتنها..
فهل يعقل..أن أبخل عليها بمجرد الحضور..؟
لو طلبت دمي..لأنفقته بسخاء موقنا أني لن أبلغ بفعلي مقدار الضريبة التي أنفقها غيري فداء لها على تعاقب القرون..
لو اشترطت مني عهدا..لوضعت يدي على مصحف الشهداء..وأقسمت بأغلظ الأيمان ألا أخون أماناتها..
فلماذا تراني قلقا مترددا في حضور عرسها الكبير..؟
ربما لو كانت الدعوة من طرفها لما تخلفت..


ح - ع
التعديل الأخير تم بواسطة Hakimas ; 11-04-2009 الساعة 11:24 AM