دراسة آراء الإمام عبد الحميد بن باديس في الأخلاق
26-09-2017, 01:21 PM
دراسة آراء الإمام عبد الحميد بن باديس في الأخلاق


الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



تعددت وتنوعت دراسات المهتمين بسيرة الشيخ الإمام العلامة المصلح المجدد:" عبد الحميد بن باديس" رحمه الله، وذلك التعدد والتنوع راجع إلى المجال الذي تناوله كل باحث من نشاطات الشيخ رحمه الله، ولعل من أبرز من كتب في آراء الشيخ:" ابن باديس" رحمه الله، الأستاذ الدكتور:" مصطفى حلمي" الذي تناول جانبا هاما من آراء الشيخ رحمه الله، وأقصد هنا:" آراؤه في الأخلاق"، وهو ما تضمنته هذه الدراسة الرائعة الماتعة، ونشير إلى أننا أخرنا نشر المراجع إلى آخر الدراسة تيسيرا على القارئ، وإلى المقصود:

التعريف بالإمام عبد الحميد بن باديس:
ولد ابن باديس في ديسمبر سنة 1889، وتلقى تعليمه أولًا بحفظ القرآن الكريم، فأتمه وهو في السنة الثالثة عشرة من عمره[1]، وأخذ مبادئ العربية ومبادئ الإسلام عن الشيخ: حمدان الونيسي، ثم تلقى الدراسة الابتدائية بمدينة قسنطينة والثانوية بجامع الزيتونة حيث درس من عام 1908 إلى عام 1912،(وتوفي رحمه الله تعالى سنة 1940م).
وخاض الإمام في مجالات مختلفة:( تعليمية وصحفية واجتماعية وسياسية): محاولًا تحرير بلده من الاستعمار الفرنسي، وإحياء الإسلام في نفوس الجزائريين بعد أن حاولت فرنسا نزع العقيدة الإسلامية من النفوس وسط حملة تغريب ضارية لم تجد لها في التاريخ مثيلًا!!؟.
ونجح ابن باديس بمنهجه الإصلاحي المستمد من الإسلام في إنقاذ بلاده وإعادة شخصيتها وكيانها، فحق اعتبار ذلك بمثابة معجزة القرن العشرين[2].
وقد اتخذ هذا الإمام الكبير من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح: دليلًا ومرشدًا في منهجه وأعماله كلها: كما سيتضح لنا في هذه الدراسة، وقد خلف لنا رحمه الله تجارب عظيمة في الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي والسياسي.
آراء الإمام عبد الحميد بن باديس في الأخلاق[3]
منهجه:
من الممكن أن نلخص المنهج الذي اتبعه الإمام عبد الحميد بن باديس من خلال الكلمة الموجزة التي ألقاها بجمعية التربية والتعليم عام:( 1358هـ 1939م) بقوله:
" لم لا نثق بنفوسنا، وقد أعطانا الله عقولا ندرك بها!!؟، وقد أعطانا من هذا الدين الإنساني، ومن هذا الدين العقلي والروحي: ما يكمل عقولنا ويهذب أرواحنا، أعطانا منه ما لم يعط لغيرنا، لنكون ن قادة وسادة، وأعطانا وطنًا شاسعًا مثل ما لغيرنا، فنحن إذن شعب عظيم يعتز بدينه، يعتز بلغته، يعتز بوطنه يستطيع أن يكون في الرقي واحدًا من هذه الشعوب..".[4].
كان معتزًا بالإسلام، لأنه لا سبيل إلى الناس في دنياهم وأخراهم ومغفرة خالقهم ورضوانه إلا بالعمل بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، وذلك مصداقًا لقوله تعالى:﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، ويفسر الإمام هذه الآية:
" بأن الله خلق محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أكمل الناس، وجعله قدوتهم، وفرض عليهم اتباعه والاقتداء به، وقد بين سبيله بثلاثة أشياء:(الدعوة إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".[5].
وفي عبارة موجزة يعبر لنا عن مفهوم الدين عنده، فالدين كله:
" عقيدة بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح الظاهرة والباطنة".[6].
إنه يتمسك بالقرآن للإصلاح في كافة المجالات، ومنها: الأخلاق، فقد بين لنا مكارم الأخلاق ونفعها، ومساوئ الأخلاق وضررها، ولكن المسلمين لم يستمسكوا بهذا الأصل، وانصرفوا إلى مناهج أخرى!!؟، فمنهم: من اندفع إلى التصوف الأعجمي، واعتبروا إياه عنوانًا على السلوك القويم!!؟، بينما الحقيقة أنه: مختلط بتراث أمم وثنية، أي: أن المسلمين انصرفوا عن الأخلاق التي بينها القرآن، والتي لا تدانيها أخلاق أي دين آخر أو أي مذهب فلسفي، ووضعوا أوضاعًا من عند أنفسهم واصطلاحات مخترعة ابتعدوا بها عن الحقيقة السمحة، وأدخلوا من النسك الأعجمي: ما هو بعيد كل البعد عن روح الإسلام، بل معارضة القرآن بها!!؟[7].
فمرد خطأ الصوفية في منهجهم: الالتجاء إلى مصادر ثقافية ودينية أجنبية، والاستناد إلى قواعد أخلاقية غريبة عن الإسلام، كما أخطأ المتكلمون أيضًا عندما لم يستمدوا العقائد من القرآن، وهي سهلة قريبة في متناول عامة المسلمين، فكأنما - هجروا القرآن - إلى عباراتهم الاصطلاحية الصعبة،" وقد كان من نتيجة هذا ما نراه اليوم في عامة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه".[8].
إنه يؤمن بأن الحقيقة القرآنية متكاملة:" تشمل الحياة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو ما يعبر عنه بالدين والدولة أو الدنيا، وليس الإسلام كالمسيحية التي اهتمت اهتمامًا بالغًا بالإصلاح الروحي، وأهملت النظام الاجتماعي، وهو ما أراد بعض الناس أن يطبقه على الإسلام أيضًا"[9].
كما اعترض الإمام ابن باديس على طريقة المسلمين في تلقي القرآن وحفظه دون تطبيقه، فإن هذه الطريقة مخالفة لطريقة السلف حيث استخدموا عقولهم لفهمه، واستعملوا هممهم العالية لنشره وتعميمه،" فإن القرآن لا يأتي بمعجزاته، ولا يؤتي آثاره في إصلاح النفوس إلا إذا تولته بالفهم عقول كعقول السلف، وتولته بالتطبيق العملي نفوس سامية وهمم بعيدة، كنفوسهم وهممهم".[10].
هكذا فهم إمامنا رسالة القرآن، وكان هذا الفهم حجر الزاوية في منهجه الإصلاحي، لتخليص عقائد المسلمين من الشوائب، وأخلاقهم من تأثيرات التصوف، والأخذ بيدهم في الارتقاء والتقدم، ويعتبر أن الشرع كله متوجه إلى إصلاح النفوس، فصلاح الإنسان وفساده يقاس بصلاح نفسه وفسادها مستشهدًا بقول الله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ ، فعارض بذلك المدرسة الاجتماعية التي تضع في المقدمة تغير المؤسسات الاجتماعية، وتفترض أن الإنسان صار إلى ما صار إليه نتيجة عوامل مختلفة، وهو مع مناداته بالإصلاح في ميادين الاقتصاد والاجتماع أيضًا، إلا أنه يرى أنه ينبغي البدء بالإنسان، ولهذا فإن العامل الأخلاقي هو: الأساس في كل إصلاح عند ابن باديس رحمه الله، بينما تجعله المدرسة الأخرى متأخرًا عن المسائل المادية، ومن المهم أن ندرك - كما فعل الدكتور: عمار طالبي في دراسته لمنهج الإمام الجزائري -: أن كون النفس هي أساس الإصلاح ليس معناه: التأمل والانقطاع عن الحياة، فإن هذا التصور كان بعيدًا تمامًا عن الفكر الباديسي، لأن ميزته العقلية:" أنه يجمع بين الفكر والعمل، بين النظر والتطبيق، وهي ميزة النفوس القوية، وطبيعة المفكرين المؤمنين".[11].
وكان معارضًا لمنهج الفلاسفة كابن سينا وأمثاله:" الذين يحاولون تطبيق العبارة الإسلامية على الفلسفة اليونانية والآراء الأفلاطونية"[12]، ويقارن بينهم وبين الفقيه المغربي:" ابن العربي": مادحًا إياه، فيصفه بأنه: حكيم إسلامي وفقيه قرآني وعالم سني، ويوضح منهجه بأنه لا يبني أنظاره إلا على أصول الإسلام ودلائل الكتاب والسنة.

يتبع إن شاء الله.