خير ما اكتنز الناس
25-01-2018, 02:49 PM
خير ما اكتنز الناس
خالد سعد النجار

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



عن أبي أمامه -رضي الله عنه-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
( قلب شاكر، ولسان ذاكر، وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك، خير ما اكتنز الناس)(1)
كلمات إيمانية تكتب بماء الذهب، وأحاديث محمدية كالواحة الغناء، يشعر ساكنيها أنهم في سكينة وروحانية، لذتها تفوق كل لذة، ويتعجبون من هؤلاء المعرضين عن هذا الخير، أو من الباحثين عن طريق النجاة ذات اليمين وذات الشمال، وهو أمامهم في كتاب ربهم وهدي نبيهم.

القلب الشاكر(2):
القلب الشاكر قلب عامر بالإيمان، خال من أدرانالشرك والعصيان، ولأن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، كان الشكر من أجل المقامات، وقد أمر الله عباده به، ونهى عن ضده، فقال تعالى: {وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِنكُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[النحل:114]، وقال تعالى:{وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَتَكْفُرُونِ}[البقرة:152].
وقسم سبحانه وتعالى الناس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه: الكفر وأهله، وأحب الأشياء إليه: الشكر وأهله، فقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّاشَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان:3].
كما قرن الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروه وآمنوا به، فقال جل ذكره: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُشَاكِراً عَلِيماً}[النساء:147].
بل جعله الله تعالى غاية خلقه وأمره، فقال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:78]، وقال:{وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِتُرْجَعُونَ}[العنكبوت:17]
وأخبر سبحانه أن رضاه في شكره، فقال تعالى: {وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُلَكُمْ}[الزمر:7]
وأن أهل الشكر هم المخصوصين بمنته عليهم من بين عباده، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}[الأنعام:53]
وأثنى جل شأنه على أهل الشكر، ووصف به خواص خلقه، فقال تعالى في إبراهيمعليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ}[النحل:120-121]، وقال عن نوحعليه السلام: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}[الإسراء:3] وفي تخصيص نوح ها هنا بالذكر، وخطاب العباد بأنهم ذريته: إشارة إلى الإقتداء به، فإنه أبوهم الثاني، لأن الله تعالى لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلا إلا من ذريته، فأمر الذرية أن يتشبهوا بأبيهم في الشكر، فإنه كان عبدا شكورا.
واشتق تبارك وتعالى لأهل الشكر اسما من أسمائه، فإنه سبحانه هو الشكور، وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره، بل يعيد الشاكر مشكوراً، فالشكر هو: غاية الرب من عبده، وأهله هم القليل من عباده، وهم خواصه، فقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13]
فمن يشكر الله، فقد عبده حق العبادة، ومن لم يشكره: لم يكن من أهل عبادته تعالى، {وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172]
ولعظم مكانة الشكر كان هدفإبليس الأول: هدمه في نفوس العالمين، فقال تعالى إخبارا عن إبليس اللعين: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَالْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف:16] قيل هو: طريق الشكر:{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْوَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف:17]
وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، فقال: (أفلاأكون عبدا شكورا)(3)
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده، وقال: (يا معاذ، إني والله لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك)(4).
وعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)(5)، فكان هذا الجزاء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء، كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِأَكْبَرُ}[التوبة:72] في مقابلة شكره بالحمد.
والشكر قيد النعم وسبب المزيد، كما قال عمر بن عبد العزيز: "قيدوا نعم الله بشكر الله عز وجل"(6).
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال لرجل من همزان: "إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد"(7).
وكان أبو المغيرة إذا قيل له كيف أصبحت يا أبا محمد؟، قال: "أصبحنا مغرقين في النعم، عاجزين عن الشكر، يتحبب إلينا ربنا وهو غني عنا، ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون"(8).
وعن سفيان في قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}[القلم:44] قال: "يسبغ عليهم النعم، ويمنعهم الشكر"، وقال غيره: "كلما أحدثوا ذنبا، أحدث لهم نعمة"(9).
وحقيقة الشكر هي:" ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافا، وعلى قلبه: شهودا ومحبة، وعلى جوارحه: انقيادا وطاعة".
ولابد أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى، والنزول في جواره، والنظر إلى وجهه على الدوام، وأمارته: أن لا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه عليها، ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله، لذلك قال أحد العلماء: "شكر العامة على المطعم والمشرب والملبس وقوت الأبدان، أما شكر الخاصة، فعلى التوحيد والإيمان وقوت القلوب".

والشكر مبني على خمسة أركان هي (10):
اعتراف العبد بنعمته تعالى، وخضوع الشاكر للمشكور، وثناؤه عليه بها، وحبه له، وأن لا يستعملها فيما يكره.

«اعتراف العبد بنعمته تعالى» هو: ركن الشكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه، فكثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري، فلا يصح من هذا الشكر، فلا تأتي من العبد حقيقة الشكر إلا باعترافه وإقراره أن كل النعم منه تبارك وتعالى، فإن خالجه ريب في هذا لم يكن عارفا لا بالنعمة ولا بالمنعم، بل إنه بمجرد إقراره بأن النعم كلها منه جل وعلا يجعله في مصاف الشاكرين، كما قال داود عليه السلام: "يا رب، كيف أشكرك وشكري لك نعمة علىَّ من عندك تستوجب بها شكرا"، فقال: "الآن شكرتني يا داود"(11).

ويتبع ذلك الركن:«خضوع الشاكر للمشكور» بأن يظهر الفقر والفاقة إلى تلك النعمة، ويكون على يقين بأن وصولها إليه بغير استحقاق منه ولا بذل ثمن، بل يرى نفسه فيها كالطفيلي، كما قال حمدون القصار: "شكر النعمة أن ترى نفسك في الشكر طفيلياً"، وقال الجنيد: "الشكر أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة"(12).

ويتبع ذلك الركن:«ثناء العبد على الله بهذه النعمة» وهو نوعان: ثناء عام، وخاص، فالعام وصفه تعالى بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك، أما الخاصن فهو التحدث بنعمته جل وعلا والإخبار بوصولها إليه من جهته، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}[الضحى:11]، والثناء يلزم «المحبة»، إذ لا يمكن أن يتحقق بدونها.

أما الركن الخامس، فهو الذي به كمال الشكر وتمامه، ألا هو: «استعمال نعم الله تعالى في طاعته، والتوقي من الاستعانة بها على معصيته».
قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟، فقال: "إن رأيت بهما خيرا أعلنته، وإن رأيت بهما شرا سترته"، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: "إن سمعت بهما خيرا وعيته، وإن سمعت بهما شرا دفعته"، قال: فما شكر اليدين؟، قال: "لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقا لله هو فيهما"، قال: فما شكر البطن؟، قال: "أن يكون أسفله طعاما، وأعلاه علما"، قال: فما شكر الفرج؟، قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:29-30]، قال: فما شكر الرجلين؟، قال: "إن علمت ميتا تغبطه استعملت بهما عمله، وإن مقته رغبت عن عمله، وأنت شاكر لله" (13).
وأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء، فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فما نفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر.
يتبع إن شاء الله.