رد: عوامل العبقرية عند الإمام ابن تيمية
21-12-2016, 03:08 PM
8 - شجاعته وجرأته في الحق:
إنَّ شجاعة شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: قد عرَفها كلٌّ من أهل الشام وأهل مصر، وانتشرت حتى عرفها الصغير والكبير؛ لما كان له من مشاركات عديدة ومواقف في صدِّ الطُّغاة والمُعتَدِين من التتار والنصارى ومن قُطَّاع الطُّرُق، وهذه المواقف تُنبِئ عن جرأةٍ في الحق مُنبَثِقة من شجاعته التي كانت على أرفع المستويات؛ ذلك أنَّه كان يرى: أن ثمَّة وشيجة تربط ما بين الشجاعة والاعتقاد، حيث إن كلاًّ منهما محله القلب؛ ولهذا يقول: " ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد، كما قال مَن قال من السَّلَف: صِنفان إن صلحوا صلح الناس: الأمراء والعلماء... ولهذا كانت السنَّة أنَّ الذي يصلِّي بالناس صاحب الكتاب، والذي يقوم بالجهاد صاحب الحديد"[77].
وقد سجَّل له التاريخ مواقفَ ومآثر ازدان بها، عرفها المُخالِف له قبل المُوافِق، ولمعت هذه الشجاعة وهو لا يزال في ريعان شبابه، ثم استمرَّت معه في مراحل عمره إلى أنْ فاضت روحُه إلى بارِئها، وهذه الشجاعة قد تنوَّعت، وكانت جرأته تارَة بالسِّنان حين مجاهَدة الأعداء ومقارعتهم، وتارَة بالكتابة واللسان، فيصدع بما يراه ويعتقده ويجهر به، ولا يعبأ بمخالفته لأحدٍ من الناس، أمَّا شجاعته بالسنان ومقارعة الأعداء، فكثيرةٌ شهيرة؛ منها ما تجلَّت حينما أغارت التتار وفرَّ علماء عصره خارِجَ دمشق مُتَّجِهين إلى مصر وغيرها؛ لأنَّ الناس ما عرفوا العلماء في عصره إلا:"عاكفين على القراءة قد أنحلتهم المقاعد، تَراخَتْ عليها عضلاتهم ومفاصلهم، يرَوْن قوَّة العالم كلها في فكره ورأسه... لذلك لما بلغهم أنَّ التتار قد أغارَتْ عليهم بركبها ورجلها وقضِّها وقضيضها، فرُّوا هارِبين إلى مصر مع مَن فرُّوا، أمَّا شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله، فقد كان في هذا طرازًا وحدَه، رأى أنَّ العلم والجنديَّة ليسا متباينَيْن ولا مُتضاربَيْن؛ فالعالم جندي عندما تحشد الشديدة، وسياسي عندما تدبر المكيدة... فعندما أغار التتار: لبث شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله في المدينة: يرتِّب أمورها، ويَسُوسُها بعد أن فرَّ ساستها ومديروها"[78].
وهكذا العلماء الربانيُّون يكونون في طليعة الجيش ليُواجِهوا الأعداء، مُوقِنين بالفوز بإحدى الحسنيَيْن، وهذا الإمام:"كان إذا ركب الخيل يتحنَّك ويَجُول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبِّر تكبيرًا أنكى في العدو من كثيرٍ من الفتْك بهم، ويخوض فيهم خوضَ رجلٍ لا يَخاف الموت... ولمَّا ظهَر السلطان غازان على دمشق المحروسة جاءَه ملك الكرج، وبذَل له أموالاً كثيرة جزيلة على أن يمكِّنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق، ووصَل الخبر إلى الشيخ، فقام من فوره وشجَّع المسلمين ورغَّبهم في الشهادة، ووعَدَهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف.
فانتُدِب منهم رجالٌ من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم، فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان (وكان ذلك سنة 699هـ)، فلمَّا رآهم السلطان قال: مَن هؤلاء؟، فقيل: هم رؤساء دمشق، فأَذِن لهم، فحضروا بين يديه، فتقدَّم الشيخ - رضي الله عنه - أولاً، فلمَّا رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة حتى أدناه وأجلَسَه، وأخذ الشيخ في الكلام معه أولاً في عكس رأيِه عن تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين، وضمن له أموالاً، وأخبَرَه بحرمة دماء المسلمين، وذكَّره ووعَظَه، فأجابَه إلى ذلك طائعًا، وحُقِنت بسببه دماء المسلمين، وحُمِيت ذراريهم، وصِينَ حريمهم، وذلك لما أخَذ الشيخ يحدِّث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره، ويرفع صوته على السلطان في أثناء حديثه، حتى جثَا على ركبتيه، وجعل يقرب منه في أثناء حديثه، حتى لقد قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان، والسلطان مع ذلك مُقبِل عليه بكليَّته، مُصغٍ لما يقول، شاخِص إليه، لا يعرض عنه، وإن السلطان من شدَّة ما أوقع الله في قلبه من المحبة والهيبة؛ سأل مَن يخصُّه من أهل حضرته: مَنْ هذا الشيخ!؟، وقال ما معناه: إني لم أرَ مثله، ولا أثبت قلبًا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقِيادًا منِّي لأحدٍ منه، فأخبر بما له وما هو عليه من العلم والعمل، ثم قال الشيخ للترجمان: قل لغازان: أنت تزعم أنَّك مسلم، ومعك قاضٍ وإمام وشيخ ومأذونون (ومؤذِّنون) - على ما بلغنا - فغزوتَنا، وأبوك وجدُّك كانَا كافرين وما عَمِلاَ الذي عملتَ؛ عاهَدَا فوفَّيا، وأنت عاهدتَ فغدرت، وقلت فما وفيت وجُرت"[79].
فقال كلمة الحق ولم يخفْ في الله لومة لائم، وواجَه هذا الطاغية بكلِّ جرأة، معتمدًا على ربه واثِقًا به بالنصر؛ لأنَّ الله ينصر مَن ينصر دينه وشرعة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فجهَر بكلمة الحق أمامَ ذلك السلطان، حتى قال بعض مَن حضر اللقاء: "لما حضروا مجلس غازان قدِّم لهم طعامٌ، فأكلوا منه إلا شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله ، فقيل له: لِمَ لم تأكل؟، فقال: كيف آكل من طعامكم وكله ممَّا نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس!؟، ثم إنَّ غازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنَّه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجهادًا في سبيلك، فأن تؤيِّده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فأن تفطر (تفعل) به وتصنع - يدعو عليه - وغازان يؤمِّن على دعائه، ونحن نجمَع ثيابنا؛ خوفًا أن يقتل فنطرطر بدمه، ثم لما خرجنا من عنده، قلنا له: كدت أن تُهلِكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا!؟، فقال: وأنا لا أصحبكم، فانطلقنا عصبة وتأخَّر، فتسامعت به الخواتين (حريم الملوك) والأمراء، فأتوه من كلِّ فجٍّ عميق، وصاروا يَتلاحَقون به؛ ليتبرَّكوا برؤيته، فما وصَل إلا في نحو ثلاثمائة فارِس في ركابه، وأمَّا نحن فخرَج علينا جماعةٌ، فشلحونا"[80].
فصدَع بكلمة الحق، ولم يَخفْ من فتكٍ يحدُث له أو هلاك ما دام ينصر دينَ الله، ولم يهب ذلك السلطان، " حيث تجمُّ الأُسد في آجامها، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها؛ خوفًا من ذلك السبع المغتال، النمروذ المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيلة مُحتال؛ بل جلَس إليه، وأومأ بيده إلى صدره وواجَهَه"[81].
فحالُ هذا الإمام وسِيرته: تُنبِئ عن سريرته، كما ظهر ذلك جليًّا حين اقترب جند التتار من أبواب دمشق، وفرَّ كثيرٌ من كِبار البلد - حُكَّامًا وعلماء - ولكن عالمًا واحدًا بقي مع العامَّة فلم يفرَّ ولم يخرج؛ لأنَّ له قلبًا يَحُول بينه وبين الفِرار، حيث:" كان يدور كلَّ ليلة على الأسوار يحرِّض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط"[82].
ويدلُّ على شجاعته وثَبات قلبه وجُرأتِه: أنَّه "لما جاء السلطان إلى شَقْحَب - موضع قرب دمشق - (وكان ذلك سنة 702هـ) والخليفة، لاقاهما إلى قرن الحرَّة وجعل يثبِّتهما، فلمَّا رأى السلطان كثرةَ التتار قال: يا خالد بن الوليد!؟، فقال شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله: قُلْ: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، وقال للسلطان: اثبُت فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله، فقال: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يَتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله، منها قوله - تعالى -: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)[83]، فكان كما قال:"[84]، وأمرهم بالفِطْرِ اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتح، بل إنَّه أفطر ومرَّ بين الصفوف؛ ليقتدوا به.
وتناقَل الناس أخبار شجاعته وإيثاره الموت على الحياة في سبيل الله، وممَّا اشتهر عنه أنَّه:" كان إذا حضَر مع عسكر المسلمين في جِهادٍ يكون بينهم واقيتهم، وقطب ثباتهم، وإن رأَى من بعضهم هلَعًا أو رقَّة أو جبانة، شجَّعه وثبَّته، وبشَّره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبيَّن له فضل الجهاد والمجاهدين وإنزال الله عليهم السكينة، حتى وُصِف بأنَّه من أشجع الناس وأقواهم قلبًا، وكان يُجاهِد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم"[85].
حتى صارت:" بشجاعته تضرب الأمثال، وببعضها يتشبَّه أكابر الأبطال"[86]، فالعالم مجاهدٌ باللسان والسنان لا يفصل بينهما؛ بل هو أوَّل الملبِّين إذا نُودِي للجهاد؛ حيث إنَّ العالم أعلم من غيره بنصر الله وصدقِه وعدَه، وبفضل المرابطة في سبيل الله، ورفع الهمم المنحدرة إلى الحياة الدنيا، المتثاقلة إلى الأرض، وبكونه قدوةً للقوم؛ فينبَغِي أن يكون شُجاعًا حتى يتأسَّوْا به، " وحكى بعض حُجَّاب الأمراء قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء (مع الطغاة المعتدين على المسلمين) وقد تَراءَى الجمعان: يا فلان، أوقفني موقف الموت، قال: فسقتُه إلى مقابلة العدو - وهم مُنحدِرون كالبدر (كالسيل) تَلُوح أسلحتهم من تحت الغبار - وقلت له: هذا موقف الموت فدونَك وما تريد، قال: فرفع طرْفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرَّك شفتَيْه طويلاً، ثم انبَعَث وأقدَمَ على القِتال، وقد قيل: إنَّه دعا عليهم وأنَّ دعاءَه استُجِيب منه في تلك الساعة، قال: ثم حالَ القِتال بينَنا والالتِحام، وما عدت رأيته حتى فتَح الله ونصر، ودخَل جيش الإسلام إلى دمشق المحروسة، والشيخ في أصحابه شاكيًا سلاحه، عالية كلمته، قائمة حجَّته، ظاهرة ولايته، مقبولة شفاعته، مجابة دعوته، ملتمسة بركته، مكرمًا معظمًا، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمادحين له: أنا رجل ملَّة لا رجل دولة"[87].
فهذه بعض مَآثِر شيخ الإسلام: ابن تيميَّة رحمه الله الجهاديَّة، والتي تنمُّ على شجاعته وجرأته في الحق، سواء في الناحية العلميَّة والأدبيَّة، أو في الناحية القتالية الجهاديَّة السياسيَّة.