رد: نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
30-10-2017, 09:41 AM
8 ـ نصحه الوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه:
ومن آخر مواقفه التي ذكرت لعمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك: نصحه للوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه عبد العزيز من بعده، فوقف عمر من ذلك موقفاً حازماً حيث لم يستجب لأمر الوليد في ذلك وقال حين أراده على ذلك:
" يا أمير المؤمنين إنما بايعنا لكما في عقدة واحدة، فكيف نخلعه ونتركك؟"، فغضب الوليد على عمر، وحاول استخدام الشدة معه لعله يوافقه على ما أراد، فيذكر أنه أغلق عليه الدار، وطين عليه الباب حتى تدخلت أم البنين أخته وزوجة الوليد، ففتح عنه بعد ثلاث، وقد ذبل ومالت عنقه.

خامساً: عمر في عهد سليمان بن عبد الملك:
في عهد سليمان تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير، فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة: قرب عمر بن عبد العزيز، وأفسح له المجال واسعاً حيث قال:" يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به"، وجعله وزيراً ومستشاراً ملازماً له في إقامته أو سفره، وكان سليمان يرى أنه محتاج له في صغيره وكبيره، فكان يقول:" ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل، فما أجد أحداً يفقه عني"، وفي موضع آخر قال:" يا أبا حفص ما اغتممت بأمر، ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي".

1 ـ أسباب تقريب سليمان لعمر:
والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة يعود في نظري إلى عدة أسباب منها:
أـ شخصية سليمان بن عبد الملك: حيث لم يكن مثل أخيه الوليد معجباً بنفسه معتداً برأيه وواقعاً تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على العكس من ذلك غير معتد برأيه خالياً من التأثيرات الأخرى عليه.
ب ـ قناعة سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
جـ ـ موقف عمر من محاولة الوليد: خلع سليمان، مما جعل سليمان يشكر ذلك لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي حيث قال بعد عرضه لموقف عمر:" فلذلك شكر سليمان عمر، وأعطاه الخلافة بعده".

2 ـ تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية:
فقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة ومن أهمها: عزل ولاة الحجّاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة: خالد القسري، ووالي المدينة: عثمان بن حيان.
ومنها: الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر ـ" أن الصلاة كانت قد أميتت فأحيوها". وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله:" مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها".

3 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في تحكيمه كتاب أبيه:
كلمّ عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك في ميراث بعض بنات عبد العزيز من بني عبد الملك، فقال له سليمان بن عبد الملك:" إن عبد الملك كتب في ذلك كتاباً منعهن ذلك"، فتركه يسيراً ثم راجعه، فظن سليمان أنه اتهمه فيما ذكر من رأي عبد الملك في ذلك الأمر، فقال سليمان لغلامه: " ائتني بكتاب عبد الملك"، فقال له عمر:" أبا المصحف دعوتَ يا أمير المؤمنين؟"، فقال أيوب بن سليمان:" ليوشكن أحدكم أن يتكلم الكلام تضرب فيه عنقه"، فقال له عمر:" إذا أفضى الأمر إليك، فالذي دخل على المسلمين أعظم مما تذكر"، فزجر سليمان أيوب، فقال عمر:" إن كان جهل فما حلمُنا عنه".
فهذا موقف من مواقف الجرأة في قول الحق الذي يُحمد لعمر، حيث اعتبر سليمان بن عبد الملك كتابة أبيه شرعاً لا يمكن تغييره، فنبهه عمر إلى أن الكتاب الذي لا ينقض ولا يغيّر هو: كتاب الله تعالى وحده.
وهناك موقف يذكر لسليمانن حيث وبخّ ولده الذي هدد عمر: أن قال كلمة الحق، وهذا يدل على ما يتصف به سليمان من سرعة الرجوع إلى الحق إذا تبين له.

4 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في الإنفاق:
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة، فأعطى بها مالاً عظيماً، فقال لعمر بن عبد العزيز:" كيف رأيت ما فعلنا يا أبا حفص؟"، قال:" رأيتك زدت أهل الغنى غنى، وتركت أهل الفقر بفقرهم".
فهذا تقويم جيد من عمر بن عبد العزيز لعمل سليمان بن عبد الملك، فقد كان سليمان لجهله بدقائق أحكام الشريعة في مجال الإنفاق: يظن أنه بإنفاقه ذلك المال الكثير على الرعية قد عمل صالحاً، فأفاده عمر بن عبد العزيز بأنه قد أخطأ حينما صرف ذلك المال لغير مستحقيه وحرم منه أهله، فقد بين عمر رحمه الله أهمية التفريق بين بذل الخير وصرفه لمستحقيه.

5 ـ حث عمر سليمان على رد المظالم:
خرج سليمان ومعه عمر إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومن معه، فقال عمر:" إنما هذا صوت نعمة، فكيف لو سمعت صوت عذاب؟"، فقال سليمان:" خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها"، فقال عمر:" أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟"، قال:" وما هو؟"، قال:" قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك"، فجلس سليمان، فرد المظالم.
ويظهر عند عمر: وضوح فقه ترتيب الأولويات، فرد المظالم مقدم على بذل الصدقات.

6 ـ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً:
أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين، ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان:" ما تقول يا عمر في هذا؟"، قال:" أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسئول عن ذلك كله"، فلما اقتربوا من المعسكر، إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها ونعب نعبة، فقال له سليمان:" ما تقول في هذا يا عمر؟"، فقال:" لا أدري"، فقال:" ما ظنك أنه يقول؟"، قال:" كأنه يقول: من أين جاءت؟ وأين يذهب بها؟"، فقال له سليمان:" ما أعجبك؟"، فقال عمر:" أعجب مني من عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه".

7 ـ هم خصماؤك يوم القيامة:
لما وقف سليمان وعمر بعرفة جعل سليمان يعجب من كثرة الناس، فقال له عمر:" هؤلاء رعيّتُك اليوم،، وأنت مسئول عنهم غداً"، وفي رواية:" وهم خصماؤك يوم القيامة"، فبكى سليمان وقال:" بالله استعين".

8 ـ زيد بن الحسن بن علي مع سليمان:
كان زيد بن الحسن بن علي قد أجاب الوليد بن عبد الملك في مسألة خلع سليمان خوفاً من الوليد، وكتب بموافقته من المدينة إلى الوليد، فلما استخلف سليمان وجد الكتاب، فبعث إلى واليه على المدينة، أن يسأل زيداً عن أمر الكتاب، فإن هو اعترف به، فليبعث بذلك إليه، وإن أنكر عليه اليمين أمام منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث باعترافه إلى سليمان كتب سليمان إلى والي المدينة أن يضربه مائة سوط ويمشيه حافياً، فحبس عمر الرسول، وقال:" لا تخرج حتى أكلم أمير المؤمنين، فيما كتب في زيد بن حسن، لعلي أطيب نفسه، فيترك هذا الكتاب"، فجلس الرسول فمرض سليمان، فقال للرسول لا تخرج، فإن أمير المؤمنين مريض، فلما توفي سليمان وأفضى الأمر إلى عمر: دعا بالكتاب ومزقه.
وظل عمر بن عبد العزيز قريباً من سليمان طيلة مدة خلافته يحوطه بنصحه وإرشاده.