إنما يبتليك الله ليصطفيك
01-06-2016, 09:22 AM
إنما يبتليك الله ليصطفيك
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
إن سنَّة الله تعالى في الدَّعوات أن يبتلي أصحابها؛ ليُمحِّصهم وليُنقيهم؛ ليكونوا أقوى إيمانًا، وأزكى نفسًا، وأصلب عودًا، ثم يصطفيهم الله تعالى للمهام الجِسام التي تنوء بها الجبال، ويمكِّن الله تعالى لأوليائه في الأرض، فيقيموا فيها العدلَ بعد الظلمِ والبطشِ والحرمان.
أولًا: الابتلاء والاصطفاء في القرآن الكريم:
لقد ورَد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي ذكر فيها ابتلاء الله تعالى لعباده، مع تفاوت هذا الابتلاء في أنواعه وفي درجاته:
♦ قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ .
♦ قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾.
♦ قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾.
وبعد هذا الابتلاء والتمحيص يأتي الاصطفاء والتمكين:
♦ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾.
♦ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.
♦ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ .
♦ قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾.
ثانيًا: الابتلاء في السنة النبوية المطهرة:
لقد ورَد في سُنَّة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث التي كانت بمثابة السَّلوى لصَحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل دينهم، وما ضعُفوا وما استكانوا لِما أصابهم في سبيل الله، فاستحَقُّوا أن يصطفيهم الله عزَّ وجل، وأن يُمكِّن لهم دينهم الذي ارتَضى لهم، وأن يبدلهم بعد خوفهم أمنًا.
♦ عن مصعب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثمَّ الأمثل، فالأمثل؛ يُبتلى الرجل على حَسب دينه؛ فإن كان في دينه صُلبًا، اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة، ابتُلِيَ على قَدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يَمشي على الأرض وما عليه خطيئة))؛ رواه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني.
♦ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ((مثَل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الرِّيح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثَل المنافق كمثل شجرة الأَرْزِ، لا تهتزُّ حتى تُستحصد))؛ رواه مسلم، (الأَرْز: نبات يُشبه الصنوبر، معتدل صلب لا يحرِّكه هبوب الريح).
♦ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن يُرِدِ الله به خيرًا: يُصب منه))؛ رواه البخاري.
♦ جاء في كتاب الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "سأل رجل الشافعيَّ فقال: يا أبا عبدالله، أيما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أو يُبتلى؟، فقال الشافعي: لا يُمكَّن حتى يُبتلى؛ فإنَّ الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلمَّا صبَروا مكَّنهم، فلا يظن أحَد أن يخلص من الألَم ألبتة".
♦ لقد منَّ الله تعالى على أتباع الرسل أجمعين، فتجمَّعوا حولَ رسلهم وأنبيائهم من مختلف البطون والقبائل والشِّعاب، وهم ضعفاء فقراء، فابتلاهم الله تعالى فصَبروا، فمكَّن الله تعالى لهم، فسادُوا وأصبحوا قادةً في كلِّ ربوع المعمورة، وما جاد الزمان بمثلهم إلى يومنا هذا، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ .
ثالثًا: الابتلاء يكون بالخير ويكون بالشر:
إنه لا يَسلم أحَد على البسيطة من الابتلاء، والابتلاءُ تارة يكون بالخير، وتارة يكون بالشرِّ؛ قال تعالى:﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ ﴾، يقول: "نَبتليكم ﴿ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾؛ بالشدَّة والرَّخاء، والصحة والسقم، والغِنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال...".
♦ عن عمرو بن عوف رضي الله عنه، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((واللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا كما بُسِطَتْ على مَن كان قبلكم، فتَنافَسوها كما تَنافَسوها، وتهلككم كما أهلكَتهم))؛ رواه البخاري ومسلم.
♦ قال أحد الأفاضل: "والابتلاء بالشرِّ مفهومٌ أمرُه؛ ليتكشف مَدى احتمال المُبتلى، ومدى صبره على الضرِّ، ومدى ثقته في ربِّه، ورجائه في رحمته.. فأمَّا الابتلاء بالخير، فهو في حاجة إلى بيان؛ إنَّ الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خيِّل للناس أنه دون الابتلاء بالشرِّ، إنَّ كثيرين يصمدون للابتلاء بالشرِّ، ولكن القلَّة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير، كثيرون يَصبرون على الابتلاء بالمرَض والضعف، وقليلون هم الذين يَصبرون على الابتلاء بالصحَّة والقدرة...".
♦ إنَّ فَهمنا القاصِر لا يدرك الحكمةَ من تنوع الابتلاء بين ابتلاء بالخير وابتلاء بالشرِّ، والله وحده هو الذي يَعلم تمامَ الحكمة من ذلك، وما على المسلم سوى الانقياد التامِّ لقدَر الله تعالى؛ فالله تعالى يَعلم المفسدَ من المصلِح، ويعلم ما يقوِّم إيمان العبد ويحفظه، ويعلم ما في الصدور، وهو سبحانه وتعالى: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾.
وللحديث بقيَّة إن شاء الله.
محمد عبدالرحمن صادق
إن سنَّة الله تعالى في الدَّعوات أن يبتلي أصحابها؛ ليُمحِّصهم وليُنقيهم؛ ليكونوا أقوى إيمانًا، وأزكى نفسًا، وأصلب عودًا، ثم يصطفيهم الله تعالى للمهام الجِسام التي تنوء بها الجبال، ويمكِّن الله تعالى لأوليائه في الأرض، فيقيموا فيها العدلَ بعد الظلمِ والبطشِ والحرمان.
أولًا: الابتلاء والاصطفاء في القرآن الكريم:
لقد ورَد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي ذكر فيها ابتلاء الله تعالى لعباده، مع تفاوت هذا الابتلاء في أنواعه وفي درجاته:
♦ قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ .
♦ قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾.
♦ قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾.
وبعد هذا الابتلاء والتمحيص يأتي الاصطفاء والتمكين:
♦ قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾.
♦ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.
♦ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ .
♦ قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾.
ثانيًا: الابتلاء في السنة النبوية المطهرة:
لقد ورَد في سُنَّة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث التي كانت بمثابة السَّلوى لصَحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل دينهم، وما ضعُفوا وما استكانوا لِما أصابهم في سبيل الله، فاستحَقُّوا أن يصطفيهم الله عزَّ وجل، وأن يُمكِّن لهم دينهم الذي ارتَضى لهم، وأن يبدلهم بعد خوفهم أمنًا.
♦ عن مصعب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثمَّ الأمثل، فالأمثل؛ يُبتلى الرجل على حَسب دينه؛ فإن كان في دينه صُلبًا، اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة، ابتُلِيَ على قَدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يَمشي على الأرض وما عليه خطيئة))؛ رواه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني.
♦ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ((مثَل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الرِّيح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثَل المنافق كمثل شجرة الأَرْزِ، لا تهتزُّ حتى تُستحصد))؛ رواه مسلم، (الأَرْز: نبات يُشبه الصنوبر، معتدل صلب لا يحرِّكه هبوب الريح).
♦ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن يُرِدِ الله به خيرًا: يُصب منه))؛ رواه البخاري.
♦ جاء في كتاب الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "سأل رجل الشافعيَّ فقال: يا أبا عبدالله، أيما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أو يُبتلى؟، فقال الشافعي: لا يُمكَّن حتى يُبتلى؛ فإنَّ الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلمَّا صبَروا مكَّنهم، فلا يظن أحَد أن يخلص من الألَم ألبتة".
♦ لقد منَّ الله تعالى على أتباع الرسل أجمعين، فتجمَّعوا حولَ رسلهم وأنبيائهم من مختلف البطون والقبائل والشِّعاب، وهم ضعفاء فقراء، فابتلاهم الله تعالى فصَبروا، فمكَّن الله تعالى لهم، فسادُوا وأصبحوا قادةً في كلِّ ربوع المعمورة، وما جاد الزمان بمثلهم إلى يومنا هذا، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ .
ثالثًا: الابتلاء يكون بالخير ويكون بالشر:
إنه لا يَسلم أحَد على البسيطة من الابتلاء، والابتلاءُ تارة يكون بالخير، وتارة يكون بالشرِّ؛ قال تعالى:﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ ﴾، يقول: "نَبتليكم ﴿ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾؛ بالشدَّة والرَّخاء، والصحة والسقم، والغِنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال...".
♦ عن عمرو بن عوف رضي الله عنه، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((واللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا كما بُسِطَتْ على مَن كان قبلكم، فتَنافَسوها كما تَنافَسوها، وتهلككم كما أهلكَتهم))؛ رواه البخاري ومسلم.
♦ قال أحد الأفاضل: "والابتلاء بالشرِّ مفهومٌ أمرُه؛ ليتكشف مَدى احتمال المُبتلى، ومدى صبره على الضرِّ، ومدى ثقته في ربِّه، ورجائه في رحمته.. فأمَّا الابتلاء بالخير، فهو في حاجة إلى بيان؛ إنَّ الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خيِّل للناس أنه دون الابتلاء بالشرِّ، إنَّ كثيرين يصمدون للابتلاء بالشرِّ، ولكن القلَّة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير، كثيرون يَصبرون على الابتلاء بالمرَض والضعف، وقليلون هم الذين يَصبرون على الابتلاء بالصحَّة والقدرة...".
♦ إنَّ فَهمنا القاصِر لا يدرك الحكمةَ من تنوع الابتلاء بين ابتلاء بالخير وابتلاء بالشرِّ، والله وحده هو الذي يَعلم تمامَ الحكمة من ذلك، وما على المسلم سوى الانقياد التامِّ لقدَر الله تعالى؛ فالله تعالى يَعلم المفسدَ من المصلِح، ويعلم ما يقوِّم إيمان العبد ويحفظه، ويعلم ما في الصدور، وهو سبحانه وتعالى: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾.
وللحديث بقيَّة إن شاء الله.