الإسلام والإيمان والإحسان والواقع المعيش- الباب الثاني الفصل الأول الإيمان
29-05-2012, 10:25 PM
الإيمان لغة هو التصديق، والإيمان شرعا هو الإعتقاد بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان والإذعان بالجوارح الظاهرة والباطنة، وانقيادها لأوامر الله وأحكامه، واجتنابها لنواهيه ومحرماته(1).
الإيمان هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره(2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ... أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ... »(3).
الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويتفاضل أهله فيه(4)، وأمور القلب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فهو وحده الذي يعلم المؤمن من غير المؤمن، أما نحن فنقول مسلم وكفى(5)، لا نستطيع أن نعلم ما في القلوب، نعرف ما يجري على اللسان وما تعمله الجوارح ولكن ما يخفى في الصدور فلا نعلمه، لذا؛ فلا يجوز لنا أن نقول هذا مؤمن أو غير مؤمن، الله وحده هو الذي يعلم ذلك، لا ننصب أنفسنا مكان الله والعياذ بالله؛ فنحكم على هذا بالإيمان وعلى ذاك بالكفر، ممكن أن نلاحظ تقصير البعض في جانب العبادة لكن هذا لا يؤدي بنا إلى درجة تكفير أي مسلم، والأفضل لنا أن نسدي النصيحة عن علم يقيني وهي أحسن لمن قصر في أمور الدين.
الإيمان الحق الصادق له شروط يكتمل بكمالها وينقص بنقصانها، وهذه الشروط هي:
- الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المتصرف، وأنه لا معبود بحق في الوجود سواه.
- الإيمان بأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، والتصديق بكل ما جاء به من ربه عز وجل واتخاذه القدوة والمثل الأعلى في كل الأمور الدينية والدنيوية.
- أن يكون الإيمان بالله ورسوله إيمانا ثابتا صادقا قويا لا يتزعزع ولا يتغير، ولا يعتريه أدنى شك ولا ارتياب، حيث يكون في أيام الشدة كأيام الرخاء، وفي أيام الحرب كأيام السلم.
- خشوع القلب وانكساره وطمأنينته عند ذكر الله سبحانه وتعالى.
- الشعور بازدياد الإيمان عند تلاوة آيات القرآن، أو سماعها والإنصات إليها.
- التوكل على الله في كل الأمور والأحوال: والتوكل يكون بأخذ الأسباب الممكن اتخاذها ثم تفويض الأمر إلى الله في تحقيق النتيجة المنتظرة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحب الناقة: « أعقلها وتوكل »(6)، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُومِنُونَ اَلذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ ءايَاتُهُ زَادَتْهُممُ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. اَلذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُومِنُونَ حَقًّا َۚلهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾(الأنفال/2-4).
ومن شروط الإيمان كذلك:
- إقامة الصلاة التي هي الصلة بين العبد وربه والتي ترمز إلى أركان الإسلام الخمس.
- الجود والكرم الذي يتمثل في إنفاق المال على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
- الجهاد في سبيل الله باللسان والقلم والسيف« السلاح » لإعلاء كلمة الله ونشر الإسلام(7)، قال تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُومِنُونَ اَلذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾(الحجرات/15).
ليس الإيمان مجرد كلمة تقال باللسان وكفى، أو مجرد شعور يشعر به المرء، يشعر بأنه مؤمن، أو مجرد إحساس يتردد في الوجدان، أو انتساب إلى أمة الإيمان، لا؛ بل هو عقيدة ثابتة لا تتزحزح، وفكرة أصيلة لا تتغير، وسلوك حميد، وعمل صالح خالص لا تعتريه شوائب ولا شكوك(8).
لا يقتصر الإيمان على قول المرء أنا مؤمن وحسب، أو أن يتزيا بزي المؤمنين إن كان لهم زي خاص بهم، أو أن يكون إيمانه شكلا ظاهرا فقط، ليس هذا هو الإيمان المطلوب!؛ بل الإيمان الحقيقي هو ما ظهرت آثاره على سلوكيات المرء وتصرفاته(9).
والإيمان بضع وسبعون شعبة، تتمثل فيها العقائد السليمة، والعبادات الخالصة، والأخلاق الفاضلة، والمعاملات المستقيمة، والعلاقات الطيبة، والمثل الإنسانية الرفيعة(10)، هذا هو الإيمان الحقيقي الذي سادت به الأمة الإسلامية في عصورها الزاهرة إلى أرفع الدرجات وإلى أعلى المستويات، الإيمان الحقيقي الذي به يسعد المؤمن في حياته الدنيا ويفوز به في الدار الآخرة في جنة النعيم، فأين نحن اليوم- عباد المادة والشهرة - من هذه الصفات الإيمانية التي أرادها الله سبحانه وتعالى لنا!؟.
ينور الإيمان الحقيقي قلب صاحبه، ويحرر عقله من الخرافات والأباطيل التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويبعده عن الوساوس والأوهام والعادات الزائفة، ويحرر نفسه من عبادة الهوى والشهوات، ويمنعها من التفسخ والانحلال والفساد، فيصير بذلك المؤمن واضح التفكير قوي العقل، نافع مفيد غير مضر، ومن كان كذلك فهو من الله سبحانه وتعالى قريب، ومن لم يكن كذلك فليراجع إيمانه ويزنه بميزان الصدق والإخلاص(11).
يحرر الإيمان الضمير من التمزق والتفكك والتهور والضعف ويجعله دائم اليقظة والانتباه والمراقبة، ومن ثم فالمؤمن الحق يراقب سلوكه، ويحاسب نفسه، ويقارن بين يومه وأمسه، ويفرح لحسنة كسبها، ويستاء لسيئة اقترفها، وينصر الحق مهما كانت الظروف، ويغير المنكر بيده إن استطاع وإلا فبلسانه أو قلبه، ويغضب لغضب الله، ويرضى لرضاه، لا لنفسه ولا لهواه..(12)، فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى هذا العلاج الإيماني الشافي.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: « إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد العبد إيمانا ازداد القلب بياضا، حتى إذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله.
وأن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد القلب سوادا، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب، وايم الله، لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب الكافر لوجدتموه أسود »(13) ولولا الصدور التي تخفي القلوب لما تعاشرنا وتجاورنا وتعامل بعضنا مع بعض.
وصلاح القلب عند أبي عثمان النيسابوري يتمثل في أربع خصال: في التواضع لله، والفقر إلى الله، والخوف من الله، والرجاء في الله(14)، من كانت فيه هذه الخصال فليحمد الله عز وجل ويبشر بالخير في الدنيا والآخرة أن شاء الله، وأهل الصفاء والنقاء والإخلاص والوفاء لا يعرفون في سلوكهم طريقا للنفاق، لأن ابتغاء وجه الله لا يجتمع أبدا مع الرياء(15) والنجاة من الرياء تحتاج لجهد كبير ومراقبة شديدة للنفس، فالقلب سريع التقلب خاصة في عصرنا هذا، عصر الفتن.
الإيمان يجعل المؤمن يستعلى على متاع الدنيا وزينتها، ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى وما عند غيره فان ومنته، فيتحرر بذلك من الخضوع لأي كان، لا يخضع إلا لله وحده، ولا يثق إلا فيه سبحانه وتعالى، وهذا الإيمان يمنح المؤمن الثقة والقوة فلا يهن ولا يضعف ولا يستكين مهما نزل به من المحن والشدائد وهو موقن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه(16)، قال تعالى: ﴿ قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُو مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُومِنُونَ ﴾(التوبة/51)، فالله سبحانه وتعالى سيد المؤمنين وملجؤهم، وهم تحت مشيئته وقدره، يتوكلون عليه وهو حسبهم ونعم الوكيل(17).
هذا الإيمان الذي حول عرب الجاهلية من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد الأحد، ومن شرب الخمر وممارسة الزنا والتعامل بالربا وفعل المنكرات والبغي إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، حولهم إلى أبر الناس قلوبا وأطهرهم نفوسا وأصلحهم أعمالا وأزهدهم في الدنيا وأحرصهم على الدين، فهو نور إلهي يشع في النفوس الخيرة، فيزيل عنها ظلام الظلم والجهالة، ويبعدها عن كل شر وضلالة، نور يضيء العقل، ويقين يغمر القلب، ومثل تحفز الإرادة، وضمير يوجه السلوك؛ به يصفو التصور وتتضح الرؤية وتسمو الروح وتطمئن النفس ويرتاح الضمير، هو اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل الجوارح بالأركان، من أوتيه فقد أوتي الخير كله، السعادة في الحياة الدنيا والنعيم في الدار الآخرة، ومن فقده حرم الخير كله، الشقاء والتعاسة في الدنيا والخسران المبين في الآخرة(18).
والمؤمن الحق هو من كان له قلب سليم، صاف نقي، صحيح قوي، طاهر من الشرك والذنوب(19) وهو بالله قوي عزيز وبه قادر عظيم، لا يذل ولا يستكين، ولا يحتار ولا يقلق، ينفع ولا يضر، يصلح ولا يفسد، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، إن استنصحه نصحه وإن شاوره أشار عليه وإن طلب منه جاد عليه وإن شاركه نفعه، تقي نقي، لا غش فيه ولا بغي، ولا غدر ولا غل ولا حسد، يأمنه الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، قال أحد الصالحين: « المؤمن رؤيته شفاء وموعظته دواء ينتفع برؤيته قبل روايته خيره بادر وشره نادر»(20)، فكيف يكون المجتمع إذا توفرت في أفراده مثل هذه الصفات يا ترى...؟!.
الإيمان يجعل المؤمن رقيبا على نفسه، يراقب نفسه قبل أن يراقبه الآخرون، يرصد تحركاته وسكناته بنفسه، يراقبها أينما كان وحيث ما حل أو ارتحل ، ومن كان رقيبه منه وفيه وعليه؛ فالغفلة تنعدم عنه، ويكون في يقظة دائمة، يستشعر فيها حضرة الخالق جل جلاله وعظم سلطانه(21)، يشعر دائما برقابة الله سبحانه وتعالى له، فيكون ظاهره كباطنه صفاء ونقاء، ويخلص العمل لله وحده، أما غير المؤمن؛ فضائع في متاهات الحياة، يجري وراء الملذات والشهوات، يعيش حياته الفانية، يعمل لاهثا ليل نهار وشعاره هل من مزيد؟! إنه بائس بلا أمل، وخائف بلا أمان، الظلم عنده عدل إن حقق له ما يريد، والقتل إحياء إن جر له غنيمة، والتخريب عنده تعمير إن حقق له منفعة، والهدم بناء إن عاد عليه بالفائدة، وإذا حلت به ضائقة مالية أو أزمة نفسية أو حادث مالي طاش عقله وضاع صوابه وخارت قواه وضاقت به الأرض بما رحبت واسودت الدنيا في عينيه، نسأل الله العفو والعافية(22).
قد ينتج المرء كثيرا وقد يكسب كثيرا ويتمتع بكل متاع الحياة، تنحني له الرؤوس عند مروره وترهف الآذان لقوله، يأمر فيطاع ويقول فيسمع، لكنه في حاجة ماسة إلى اطمئنان النفس وراحة الضمير وهدوء القلب، هذه المعاني السامية التي يغرسها الإيمان الحقيقي في القلب، والتي تجعل الإنسان يشعر بالحياة السعيدة(32)، وحتى نكون من السعداء في الدنيا والآخرة علينا أن نتقي الله حق تقواه، وأن نطيعه فلا نعصيه، وأن نذكره فلا ننساه، وأن نشكره فلا نكفره، فمن نسي الله ينسيه الله عز وجل نفسه فيعيش مضطربا قلقا لا يدري ما يفعل!(42).
ذكر سويد الأسدي رضي الله عنه فقال: « وفدت سابع سبعة من قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزينا فقال:
« من أنتم؟ فقلنا: مؤمنون. فقال: إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولكم وصدق إيمانكم؟ فقلنا: خمس عشرة خصلة خمس آمنا بها، وخمس عملنا بها وخمس تخلقنا بها في الجاهلية، ونحن عليها للآن، فإن كرهتها تركناها.
فقال عليه الصلاة والسلام: فاذكروا ما عندكم.. فقالوا: أما خمس الإيمان، فهي أن نؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت.. وأما خمس العمل، فهي أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن نقيم الصلاة، ونؤتى الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلا.. وأما خمس الجاهلية فهي: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضا بمر القضاء، والصدق والثبات عند الحرب واللقاء، وترك الشماتة للأعداء »
ومن عظم سرور الرسول صلى الله عليه وسلم بهم وبإيمانهم الحق قال لهم:
« أنتم حكماء علماء فقهاء كدتم أن تكونوا أنبياء.. وأنا أزيدكم خمسا ليتم لكم عشرون:
إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تتنافسوا في شيء أنتم عنه غدا زائلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون»(25).
أما نحن اليوم نعمل بعكس هذه الخصال!، نريد أن نجمع ما جمع قارون، نجمع ما يكفي لقرون، ونبني مثل أهرام فرعون، وأن تكون لنا بكل بقعة من المعمورة قصور بها بساتين وانهار وعيون، وما أكثر المتنافسون في متاع الدنيا وكأنهم بها خالدون، نسوا الموت والفناء والمصير الذي هم به جاهلون، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رحمن يا رحيم وأدخلنا برحمتك جنة النعيم مع الأنبياء والشهداء والصالحين آمين.
يقول أطباء النفس: « إن الإيمان القوي، والاستمساك بالدين والصلاة كفيلة بأن تقهر القلق والمخاوف والتوتر العصبي، وان الوعاظ الدينيين لا يحضوننا على الاستمساك بالدين توقيا من عذاب الجحيم في الدار الآخرة فحسب، وإنما يوصوننا بالدين توقيا من الجحيم المنصوب في هذه الحياة الدنيا، جحيم قرحات المعدة والانهيار العصبي والجنون»(26).
ويقول العلامة الدكتور"بول ارنست ادولف" أستاذ التشريح « لقد أيقنت أن العلاج الحقيقي لابد أن يشمل الروح والجسم معا وفي وقت واحد، وأدركت أن من واجبي أن أطبق معلوماتي الطبية والجراحية إلى جانب إيماني بالله وعلمي به، ولقد أقمت كلتا الناحيتين على أساس قويم. بهذه الطريقة وحدها استطعت أن أقدم لمرضاي العلاج الكامل الذي يحتاجون إليه. ولقد وجدت بعد تدبر عميق أن معلوماتي الطبية وعقيدتي في الله هما الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الفلسفة الطبية الحديثة. ولقد وجدت في أثناء ممارستي للطب أن تسلحي بالنواحي الروحية إلى جانب إلمامي بالمادة العلمية يمكناني من معالجة جميع الأمراض علاجا يتسم بالبركة الحقيقية.»(27)، وهكذا شهد شاهد من أهل الغرب الذين نحن مولعون بتقليدهم والإيمان بكل ما يأتينا من عندهم فالمغلوب مولع بتقليد غالبه.
الحياة في منطق الإيمان الرشيد، ومنطق الفكر السديد، حياة يقظة وإدراك، وتوحيد ومعرفة، وحب وفضيلة، وحياة توازن واعتدال، وعمل وجزاء، وكفاح وجهاد، وحياة فرح وحزن وعطاء وحرمان، ولقاء وفراق، وموت من أجل الحياة...(28).
يفعل الشيطان اللعين فعلته اللئيمة، فيفسد قلب المرء ويكدر صفاءه، ويبعده عن الجادة، ثم يرمي به في الهاوية، يدخله من باب الشهوات وحب الدنيا ومتاعها، وإن لم يكن كذلك؛ دخله من باب العبادات، يريه نفسه أنه أعبد العباد وأتقاهم وأقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، يدخله من باب الرياء، والرياء من أقبح الخصال محبط للأعمال.
والمرائي لا رأي له ولا همة، ولا إيمان ولا عقيدة، ولا مبدأ، ولا كلمة، ولا عهد ولا وفاء، فهو كالحرباء يتلون بكل لون، ويميل مع كل ريح، فهو شبح بلا روح، وكلمة بلا مدلول.
والرياء نوع من الشرك المحبط للعمل، المبطل للعبادة، وقد توعد الله المرائين بالويل ووخيم العاقبة، وأمرهم بقلع جذوره من النفوس(29)، فقال تعالى: ﴿ وَالذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُومِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَّكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴾(النساء/38)، فالشيطان سول لأوليائه وأملى لهم، وحسن لهم القبائح، وهو لهم قرين فساء القرين، قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي(30).
قال عز وجل: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾(النساء/142)، يعتقد المنافقون أن حلفهم لله يوم القيامة بأنهم كانوا على الاستقامة والسداد نافع لهم عنده، فهو عليم خبير بهم وبأعمالهم، يعلم الجهر وما أخفى(31).
« للمرائي أربع علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم ».
إن عبادة المرائي تجارة بلا ربح، وهيكل بلا روح، وحرث بلا زرع، بل تلاعب وتذبذب وتأرجح، نتيجته سمعة سيئة، وتاريخ مشوه، ومصير أليم.
ونية المرء هي المحور الذي يدور عليه كل من الثواب والعقاب، وبها يمتاز المؤمن الحق، والمنافق المخادع(32).
يحكى أن أحد المحسوبين على الإسلام قام بتأبين متوف بطريقة عادية لا تكلف فيها ولا تصنع، وعندما رفع رأسه إذا بوفد من المسؤولين قادم لحضور تشييع هذه الجنازة، وكان هذا المؤبن على وشك الانتهاء من التأبين؛ فأعاد التأبين ولكن هذه المرة بكل ما أوتي من أدعية مأثورة وغير مأثورة إرضاء للوفد الذي وصل وليس لله الذي هو معه حيث ما كان أو يكون، ... إنا لله وإنا إليه راجعون!، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ »(33).
ــــــــــــ
(1)– ركائز الحضارة في الإسلام، ص22.
(2)– شرح متن الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، ص21.
(3)- مختصر صحيح مسلم، ( الحديث المذكور سابقا) ص21.
(4)- 200 سؤال وجواب في العقيدة الإسلامية، ص16.
(5)- ينظر هذا هو الإسلام، ص11.
(6)– ينظر ركائز الحضارة في الإسلام، ص47.
(7)– ركائز الحضارة في الإسلام، ص49.
(8)– ينظر ركائز الحضارة في الإسلام، ص49.
(9)- ينظر في موكب الإيمان، ص165.
(10)- الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص73.
(11)- ينظر في موكب الإيمان، ص165.
(12)- في موكب الإيمان، ص166.
(13)- دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص250.
(14)- موسوعة أخلاق القرآن، الجزء الرابع ص155.
(15)- ينظر موسوعة أخلاق القرآن، الجزء الخامس ص98.
(16)- ينظر الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص72.
(17)- ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الثالث ص408.
(18)- ينظر الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص72.
(19)- ينظر موسوعة أخلاق القرآن، الجزء الرابع ص91.
(20)- ينظر ركائز الحضارة في الإسلام، ص55.
(21)- ينظر ركائز الحضارة في الإسلام، ص55.
(22)- ينظر سفينة الإيمان، ص84،85..
(23)– ينظر سفينة الإيمان، ص86.
(24)– ينظر موسوعة أخلاق القرآن، الجزء الرابع ص65.
(25)- في موكب الإيمان، ص170.
(26)– سفينة الإيمان، ص87.
(27)– سفينة الإيمان، ص87.
(28)– سفينة الإيمان، ص84.
(29)– في موكب الإيمان، ص126.
(30)– ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الثاني ص286.
(13)- ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الثاني ص417.
(32)– في موكب الإيمان، ص127.
(33)- مختصر صحيح مسلم، ص446.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم برواية ورش.
- عبد الحميد مهدي، ركائز الحضارة مفهوم: العلم، الإيمان، العمل في الإسلام، دار الشهاب للطباعة والنشر باتنة – الجزائر.
- الإمام يحي بن شرف الدين النووي، شرح متن الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، منشورات المكتبة العصرية صيدا بيروت 1402هـ -1983م.
– الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، مختصر صحيح مسلم دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى1428هـ -2007م.
- الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، 200 سؤال وجواب في العقيدة الإسلامية، نشر وتوزيع مكتبة رحاب الجزائر.
- يوسف عبد الوهاب، هذا هو الإسلام، دار الشهاب باتنة الجزائر بالتعاون مع مكتبة التراث الإسلامي القاهرة.
- محمد الصالح الصديق، في موكب الإيمان، دار البعث للطباعة والنشر قسنطينة الجزائر، الطبعة الأولى1405هـ - 1985م.
- الدكتور يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي.
- محمد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دار الكتب الجزائر، 1408هـ -1988م.
- الدكتور أحمد الشرباصي، موسوعة أخلاق القرآن الجزء الرابع والخامس، دار الرائد العربي- بيروت لبنان-، الطبعة الأولى حزيران(يونيو)1971.
– الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير ابن كثير الجزء الثاني والثالث، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السادسة1404هـ - 1984م.
- محمد الصالح الصديق، سفينة الإيمان، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر.
بوداود جلولي
.../...
الإيمان هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره(2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ... أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ... »(3).
الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويتفاضل أهله فيه(4)، وأمور القلب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فهو وحده الذي يعلم المؤمن من غير المؤمن، أما نحن فنقول مسلم وكفى(5)، لا نستطيع أن نعلم ما في القلوب، نعرف ما يجري على اللسان وما تعمله الجوارح ولكن ما يخفى في الصدور فلا نعلمه، لذا؛ فلا يجوز لنا أن نقول هذا مؤمن أو غير مؤمن، الله وحده هو الذي يعلم ذلك، لا ننصب أنفسنا مكان الله والعياذ بالله؛ فنحكم على هذا بالإيمان وعلى ذاك بالكفر، ممكن أن نلاحظ تقصير البعض في جانب العبادة لكن هذا لا يؤدي بنا إلى درجة تكفير أي مسلم، والأفضل لنا أن نسدي النصيحة عن علم يقيني وهي أحسن لمن قصر في أمور الدين.
الإيمان الحق الصادق له شروط يكتمل بكمالها وينقص بنقصانها، وهذه الشروط هي:
- الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المتصرف، وأنه لا معبود بحق في الوجود سواه.
- الإيمان بأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، والتصديق بكل ما جاء به من ربه عز وجل واتخاذه القدوة والمثل الأعلى في كل الأمور الدينية والدنيوية.
- أن يكون الإيمان بالله ورسوله إيمانا ثابتا صادقا قويا لا يتزعزع ولا يتغير، ولا يعتريه أدنى شك ولا ارتياب، حيث يكون في أيام الشدة كأيام الرخاء، وفي أيام الحرب كأيام السلم.
- خشوع القلب وانكساره وطمأنينته عند ذكر الله سبحانه وتعالى.
- الشعور بازدياد الإيمان عند تلاوة آيات القرآن، أو سماعها والإنصات إليها.
- التوكل على الله في كل الأمور والأحوال: والتوكل يكون بأخذ الأسباب الممكن اتخاذها ثم تفويض الأمر إلى الله في تحقيق النتيجة المنتظرة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحب الناقة: « أعقلها وتوكل »(6)، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُومِنُونَ اَلذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُ ءايَاتُهُ زَادَتْهُممُ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. اَلذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُومِنُونَ حَقًّا َۚلهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾(الأنفال/2-4).
ومن شروط الإيمان كذلك:
- إقامة الصلاة التي هي الصلة بين العبد وربه والتي ترمز إلى أركان الإسلام الخمس.
- الجود والكرم الذي يتمثل في إنفاق المال على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
- الجهاد في سبيل الله باللسان والقلم والسيف« السلاح » لإعلاء كلمة الله ونشر الإسلام(7)، قال تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُومِنُونَ اَلذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾(الحجرات/15).
ليس الإيمان مجرد كلمة تقال باللسان وكفى، أو مجرد شعور يشعر به المرء، يشعر بأنه مؤمن، أو مجرد إحساس يتردد في الوجدان، أو انتساب إلى أمة الإيمان، لا؛ بل هو عقيدة ثابتة لا تتزحزح، وفكرة أصيلة لا تتغير، وسلوك حميد، وعمل صالح خالص لا تعتريه شوائب ولا شكوك(8).
لا يقتصر الإيمان على قول المرء أنا مؤمن وحسب، أو أن يتزيا بزي المؤمنين إن كان لهم زي خاص بهم، أو أن يكون إيمانه شكلا ظاهرا فقط، ليس هذا هو الإيمان المطلوب!؛ بل الإيمان الحقيقي هو ما ظهرت آثاره على سلوكيات المرء وتصرفاته(9).
والإيمان بضع وسبعون شعبة، تتمثل فيها العقائد السليمة، والعبادات الخالصة، والأخلاق الفاضلة، والمعاملات المستقيمة، والعلاقات الطيبة، والمثل الإنسانية الرفيعة(10)، هذا هو الإيمان الحقيقي الذي سادت به الأمة الإسلامية في عصورها الزاهرة إلى أرفع الدرجات وإلى أعلى المستويات، الإيمان الحقيقي الذي به يسعد المؤمن في حياته الدنيا ويفوز به في الدار الآخرة في جنة النعيم، فأين نحن اليوم- عباد المادة والشهرة - من هذه الصفات الإيمانية التي أرادها الله سبحانه وتعالى لنا!؟.
ينور الإيمان الحقيقي قلب صاحبه، ويحرر عقله من الخرافات والأباطيل التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويبعده عن الوساوس والأوهام والعادات الزائفة، ويحرر نفسه من عبادة الهوى والشهوات، ويمنعها من التفسخ والانحلال والفساد، فيصير بذلك المؤمن واضح التفكير قوي العقل، نافع مفيد غير مضر، ومن كان كذلك فهو من الله سبحانه وتعالى قريب، ومن لم يكن كذلك فليراجع إيمانه ويزنه بميزان الصدق والإخلاص(11).
يحرر الإيمان الضمير من التمزق والتفكك والتهور والضعف ويجعله دائم اليقظة والانتباه والمراقبة، ومن ثم فالمؤمن الحق يراقب سلوكه، ويحاسب نفسه، ويقارن بين يومه وأمسه، ويفرح لحسنة كسبها، ويستاء لسيئة اقترفها، وينصر الحق مهما كانت الظروف، ويغير المنكر بيده إن استطاع وإلا فبلسانه أو قلبه، ويغضب لغضب الله، ويرضى لرضاه، لا لنفسه ولا لهواه..(12)، فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى هذا العلاج الإيماني الشافي.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: « إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد العبد إيمانا ازداد القلب بياضا، حتى إذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله.
وأن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد القلب سوادا، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب، وايم الله، لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب الكافر لوجدتموه أسود »(13) ولولا الصدور التي تخفي القلوب لما تعاشرنا وتجاورنا وتعامل بعضنا مع بعض.
وصلاح القلب عند أبي عثمان النيسابوري يتمثل في أربع خصال: في التواضع لله، والفقر إلى الله، والخوف من الله، والرجاء في الله(14)، من كانت فيه هذه الخصال فليحمد الله عز وجل ويبشر بالخير في الدنيا والآخرة أن شاء الله، وأهل الصفاء والنقاء والإخلاص والوفاء لا يعرفون في سلوكهم طريقا للنفاق، لأن ابتغاء وجه الله لا يجتمع أبدا مع الرياء(15) والنجاة من الرياء تحتاج لجهد كبير ومراقبة شديدة للنفس، فالقلب سريع التقلب خاصة في عصرنا هذا، عصر الفتن.
الإيمان يجعل المؤمن يستعلى على متاع الدنيا وزينتها، ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى وما عند غيره فان ومنته، فيتحرر بذلك من الخضوع لأي كان، لا يخضع إلا لله وحده، ولا يثق إلا فيه سبحانه وتعالى، وهذا الإيمان يمنح المؤمن الثقة والقوة فلا يهن ولا يضعف ولا يستكين مهما نزل به من المحن والشدائد وهو موقن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه(16)، قال تعالى: ﴿ قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُو مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُومِنُونَ ﴾(التوبة/51)، فالله سبحانه وتعالى سيد المؤمنين وملجؤهم، وهم تحت مشيئته وقدره، يتوكلون عليه وهو حسبهم ونعم الوكيل(17).
هذا الإيمان الذي حول عرب الجاهلية من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد الأحد، ومن شرب الخمر وممارسة الزنا والتعامل بالربا وفعل المنكرات والبغي إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، حولهم إلى أبر الناس قلوبا وأطهرهم نفوسا وأصلحهم أعمالا وأزهدهم في الدنيا وأحرصهم على الدين، فهو نور إلهي يشع في النفوس الخيرة، فيزيل عنها ظلام الظلم والجهالة، ويبعدها عن كل شر وضلالة، نور يضيء العقل، ويقين يغمر القلب، ومثل تحفز الإرادة، وضمير يوجه السلوك؛ به يصفو التصور وتتضح الرؤية وتسمو الروح وتطمئن النفس ويرتاح الضمير، هو اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل الجوارح بالأركان، من أوتيه فقد أوتي الخير كله، السعادة في الحياة الدنيا والنعيم في الدار الآخرة، ومن فقده حرم الخير كله، الشقاء والتعاسة في الدنيا والخسران المبين في الآخرة(18).
والمؤمن الحق هو من كان له قلب سليم، صاف نقي، صحيح قوي، طاهر من الشرك والذنوب(19) وهو بالله قوي عزيز وبه قادر عظيم، لا يذل ولا يستكين، ولا يحتار ولا يقلق، ينفع ولا يضر، يصلح ولا يفسد، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، إن استنصحه نصحه وإن شاوره أشار عليه وإن طلب منه جاد عليه وإن شاركه نفعه، تقي نقي، لا غش فيه ولا بغي، ولا غدر ولا غل ولا حسد، يأمنه الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، قال أحد الصالحين: « المؤمن رؤيته شفاء وموعظته دواء ينتفع برؤيته قبل روايته خيره بادر وشره نادر»(20)، فكيف يكون المجتمع إذا توفرت في أفراده مثل هذه الصفات يا ترى...؟!.
الإيمان يجعل المؤمن رقيبا على نفسه، يراقب نفسه قبل أن يراقبه الآخرون، يرصد تحركاته وسكناته بنفسه، يراقبها أينما كان وحيث ما حل أو ارتحل ، ومن كان رقيبه منه وفيه وعليه؛ فالغفلة تنعدم عنه، ويكون في يقظة دائمة، يستشعر فيها حضرة الخالق جل جلاله وعظم سلطانه(21)، يشعر دائما برقابة الله سبحانه وتعالى له، فيكون ظاهره كباطنه صفاء ونقاء، ويخلص العمل لله وحده، أما غير المؤمن؛ فضائع في متاهات الحياة، يجري وراء الملذات والشهوات، يعيش حياته الفانية، يعمل لاهثا ليل نهار وشعاره هل من مزيد؟! إنه بائس بلا أمل، وخائف بلا أمان، الظلم عنده عدل إن حقق له ما يريد، والقتل إحياء إن جر له غنيمة، والتخريب عنده تعمير إن حقق له منفعة، والهدم بناء إن عاد عليه بالفائدة، وإذا حلت به ضائقة مالية أو أزمة نفسية أو حادث مالي طاش عقله وضاع صوابه وخارت قواه وضاقت به الأرض بما رحبت واسودت الدنيا في عينيه، نسأل الله العفو والعافية(22).
قد ينتج المرء كثيرا وقد يكسب كثيرا ويتمتع بكل متاع الحياة، تنحني له الرؤوس عند مروره وترهف الآذان لقوله، يأمر فيطاع ويقول فيسمع، لكنه في حاجة ماسة إلى اطمئنان النفس وراحة الضمير وهدوء القلب، هذه المعاني السامية التي يغرسها الإيمان الحقيقي في القلب، والتي تجعل الإنسان يشعر بالحياة السعيدة(32)، وحتى نكون من السعداء في الدنيا والآخرة علينا أن نتقي الله حق تقواه، وأن نطيعه فلا نعصيه، وأن نذكره فلا ننساه، وأن نشكره فلا نكفره، فمن نسي الله ينسيه الله عز وجل نفسه فيعيش مضطربا قلقا لا يدري ما يفعل!(42).
ذكر سويد الأسدي رضي الله عنه فقال: « وفدت سابع سبعة من قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزينا فقال:
« من أنتم؟ فقلنا: مؤمنون. فقال: إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولكم وصدق إيمانكم؟ فقلنا: خمس عشرة خصلة خمس آمنا بها، وخمس عملنا بها وخمس تخلقنا بها في الجاهلية، ونحن عليها للآن، فإن كرهتها تركناها.
فقال عليه الصلاة والسلام: فاذكروا ما عندكم.. فقالوا: أما خمس الإيمان، فهي أن نؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت.. وأما خمس العمل، فهي أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن نقيم الصلاة، ونؤتى الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلا.. وأما خمس الجاهلية فهي: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضا بمر القضاء، والصدق والثبات عند الحرب واللقاء، وترك الشماتة للأعداء »
ومن عظم سرور الرسول صلى الله عليه وسلم بهم وبإيمانهم الحق قال لهم:
« أنتم حكماء علماء فقهاء كدتم أن تكونوا أنبياء.. وأنا أزيدكم خمسا ليتم لكم عشرون:
إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تتنافسوا في شيء أنتم عنه غدا زائلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون»(25).
أما نحن اليوم نعمل بعكس هذه الخصال!، نريد أن نجمع ما جمع قارون، نجمع ما يكفي لقرون، ونبني مثل أهرام فرعون، وأن تكون لنا بكل بقعة من المعمورة قصور بها بساتين وانهار وعيون، وما أكثر المتنافسون في متاع الدنيا وكأنهم بها خالدون، نسوا الموت والفناء والمصير الذي هم به جاهلون، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا رحمن يا رحيم وأدخلنا برحمتك جنة النعيم مع الأنبياء والشهداء والصالحين آمين.
يقول أطباء النفس: « إن الإيمان القوي، والاستمساك بالدين والصلاة كفيلة بأن تقهر القلق والمخاوف والتوتر العصبي، وان الوعاظ الدينيين لا يحضوننا على الاستمساك بالدين توقيا من عذاب الجحيم في الدار الآخرة فحسب، وإنما يوصوننا بالدين توقيا من الجحيم المنصوب في هذه الحياة الدنيا، جحيم قرحات المعدة والانهيار العصبي والجنون»(26).
ويقول العلامة الدكتور"بول ارنست ادولف" أستاذ التشريح « لقد أيقنت أن العلاج الحقيقي لابد أن يشمل الروح والجسم معا وفي وقت واحد، وأدركت أن من واجبي أن أطبق معلوماتي الطبية والجراحية إلى جانب إيماني بالله وعلمي به، ولقد أقمت كلتا الناحيتين على أساس قويم. بهذه الطريقة وحدها استطعت أن أقدم لمرضاي العلاج الكامل الذي يحتاجون إليه. ولقد وجدت بعد تدبر عميق أن معلوماتي الطبية وعقيدتي في الله هما الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الفلسفة الطبية الحديثة. ولقد وجدت في أثناء ممارستي للطب أن تسلحي بالنواحي الروحية إلى جانب إلمامي بالمادة العلمية يمكناني من معالجة جميع الأمراض علاجا يتسم بالبركة الحقيقية.»(27)، وهكذا شهد شاهد من أهل الغرب الذين نحن مولعون بتقليدهم والإيمان بكل ما يأتينا من عندهم فالمغلوب مولع بتقليد غالبه.
الحياة في منطق الإيمان الرشيد، ومنطق الفكر السديد، حياة يقظة وإدراك، وتوحيد ومعرفة، وحب وفضيلة، وحياة توازن واعتدال، وعمل وجزاء، وكفاح وجهاد، وحياة فرح وحزن وعطاء وحرمان، ولقاء وفراق، وموت من أجل الحياة...(28).
يفعل الشيطان اللعين فعلته اللئيمة، فيفسد قلب المرء ويكدر صفاءه، ويبعده عن الجادة، ثم يرمي به في الهاوية، يدخله من باب الشهوات وحب الدنيا ومتاعها، وإن لم يكن كذلك؛ دخله من باب العبادات، يريه نفسه أنه أعبد العباد وأتقاهم وأقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، يدخله من باب الرياء، والرياء من أقبح الخصال محبط للأعمال.
والمرائي لا رأي له ولا همة، ولا إيمان ولا عقيدة، ولا مبدأ، ولا كلمة، ولا عهد ولا وفاء، فهو كالحرباء يتلون بكل لون، ويميل مع كل ريح، فهو شبح بلا روح، وكلمة بلا مدلول.
والرياء نوع من الشرك المحبط للعمل، المبطل للعبادة، وقد توعد الله المرائين بالويل ووخيم العاقبة، وأمرهم بقلع جذوره من النفوس(29)، فقال تعالى: ﴿ وَالذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُومِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَّكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴾(النساء/38)، فالشيطان سول لأوليائه وأملى لهم، وحسن لهم القبائح، وهو لهم قرين فساء القرين، قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي(30).
قال عز وجل: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾(النساء/142)، يعتقد المنافقون أن حلفهم لله يوم القيامة بأنهم كانوا على الاستقامة والسداد نافع لهم عنده، فهو عليم خبير بهم وبأعمالهم، يعلم الجهر وما أخفى(31).
« للمرائي أربع علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم ».
إن عبادة المرائي تجارة بلا ربح، وهيكل بلا روح، وحرث بلا زرع، بل تلاعب وتذبذب وتأرجح، نتيجته سمعة سيئة، وتاريخ مشوه، ومصير أليم.
ونية المرء هي المحور الذي يدور عليه كل من الثواب والعقاب، وبها يمتاز المؤمن الحق، والمنافق المخادع(32).
يحكى أن أحد المحسوبين على الإسلام قام بتأبين متوف بطريقة عادية لا تكلف فيها ولا تصنع، وعندما رفع رأسه إذا بوفد من المسؤولين قادم لحضور تشييع هذه الجنازة، وكان هذا المؤبن على وشك الانتهاء من التأبين؛ فأعاد التأبين ولكن هذه المرة بكل ما أوتي من أدعية مأثورة وغير مأثورة إرضاء للوفد الذي وصل وليس لله الذي هو معه حيث ما كان أو يكون، ... إنا لله وإنا إليه راجعون!، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ »(33).
ــــــــــــ
(1)– ركائز الحضارة في الإسلام، ص22.
(2)– شرح متن الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، ص21.
(3)- مختصر صحيح مسلم، ( الحديث المذكور سابقا) ص21.
(4)- 200 سؤال وجواب في العقيدة الإسلامية، ص16.
(5)- ينظر هذا هو الإسلام، ص11.
(6)– ينظر ركائز الحضارة في الإسلام، ص47.
(7)– ركائز الحضارة في الإسلام، ص49.
(8)– ينظر ركائز الحضارة في الإسلام، ص49.
(9)- ينظر في موكب الإيمان، ص165.
(10)- الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص73.
(11)- ينظر في موكب الإيمان، ص165.
(12)- في موكب الإيمان، ص166.
(13)- دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص250.
(14)- موسوعة أخلاق القرآن، الجزء الرابع ص155.
(15)- ينظر موسوعة أخلاق القرآن، الجزء الخامس ص98.
(16)- ينظر الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص72.
(17)- ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الثالث ص408.
(18)- ينظر الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص72.
(19)- ينظر موسوعة أخلاق القرآن، الجزء الرابع ص91.
(20)- ينظر ركائز الحضارة في الإسلام، ص55.
(21)- ينظر ركائز الحضارة في الإسلام، ص55.
(22)- ينظر سفينة الإيمان، ص84،85..
(23)– ينظر سفينة الإيمان، ص86.
(24)– ينظر موسوعة أخلاق القرآن، الجزء الرابع ص65.
(25)- في موكب الإيمان، ص170.
(26)– سفينة الإيمان، ص87.
(27)– سفينة الإيمان، ص87.
(28)– سفينة الإيمان، ص84.
(29)– في موكب الإيمان، ص126.
(30)– ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الثاني ص286.
(13)- ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الثاني ص417.
(32)– في موكب الإيمان، ص127.
(33)- مختصر صحيح مسلم، ص446.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم برواية ورش.
- عبد الحميد مهدي، ركائز الحضارة مفهوم: العلم، الإيمان، العمل في الإسلام، دار الشهاب للطباعة والنشر باتنة – الجزائر.
- الإمام يحي بن شرف الدين النووي، شرح متن الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، منشورات المكتبة العصرية صيدا بيروت 1402هـ -1983م.
– الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، مختصر صحيح مسلم دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى1428هـ -2007م.
- الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، 200 سؤال وجواب في العقيدة الإسلامية، نشر وتوزيع مكتبة رحاب الجزائر.
- يوسف عبد الوهاب، هذا هو الإسلام، دار الشهاب باتنة الجزائر بالتعاون مع مكتبة التراث الإسلامي القاهرة.
- محمد الصالح الصديق، في موكب الإيمان، دار البعث للطباعة والنشر قسنطينة الجزائر، الطبعة الأولى1405هـ - 1985م.
- الدكتور يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي.
- محمد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دار الكتب الجزائر، 1408هـ -1988م.
- الدكتور أحمد الشرباصي، موسوعة أخلاق القرآن الجزء الرابع والخامس، دار الرائد العربي- بيروت لبنان-، الطبعة الأولى حزيران(يونيو)1971.
– الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير ابن كثير الجزء الثاني والثالث، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السادسة1404هـ - 1984م.
- محمد الصالح الصديق، سفينة الإيمان، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر.
بوداود جلولي
.../...








