تسييد النبلي صلى الله عليه وسلم.للشيخ محمود احمد الزين
10-03-2014, 09:37 PM
مسألة تسييد النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
الشيخ محمود الزين
الشيخ محمود الزين
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على رسول وعلى آله وصحبه هدانا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه: وبعد:كنت ذكرت ذلك في كتاب (دفع الأوهام عن الصلاة على خير الأنام) الموجود ضمن الكتب الموجودة في الموقع وجاء فيه : وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالسيادة عند ذكره والصلاة عليه كثر الإنكار عليه في أيامنا هذه، ومستند المنكرين أمران. أولهما: أن الأحاديث التي جاء فيها تعليم الصلاة عليه ليس فيها لفظ السيادة. وثانيهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: أنت سيدنا: ”السيد الله“ وقال لهم: ”لا يستجرينكم الشيطان“(1).
وهو استناد يحتاج إلى الإيضاح والمناقشة، أما أنه لم يرد في الأحاديث التي فيها تعليم كيفية الصلاة عليه، فهذا إنما يصح أن يقال في الصلاة عليه ضمن الصلاة ونحوها مما ينبغي فيه التقيد بالألفاظ الواردة دون زيادة، ومع ذلك فقد ثبت(2) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ”إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه... قولوا: اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين...“ وهذا أمر جاء بعد أداة الشرط، فهو يعم ما يكون في الصلاة بعد التشهد، وغير ذلك، لاسيما أنه ذكر في آخر هذه الرواية صيغة الصلوات الإبراهيمية المشهورة، التي تقال في الصلاة، وحسب المسلم قدوة من السلف ابن مسعود رضي الله عنه، وقد جاءت رواية ابن مسعود ـ التي تقدمت هنا ـ مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن أبي عاصم في كتابه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بسند جيد(3) ، ولا تعارض بين الرفع والوقف، بل هو من زيادات الثقات(4) ، فلا يكون هذا الرفع شاذاً يضعف به هذا الحديث. وأما حكم ذلك في الصلاة فهو موضع اختلاف، لم يتكلم فيه المتقدمون بمنع ولا استحباب، سوى قول ابن مسعود هذا ورواية عن ابن عمر أو ابن عمرو، رواه إسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينسب إليهم قول، واختلف المتأخرون فيه بين مستحب له وكاره ومتردد، وكلهم من الأئمة المقتدى بهم، فلا ينكر على قائل، ولا تارك، مثل كل أمر اجتهادي، ومما احتج به المجيزون قولهم: إن الآتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع السيادة آت بالمطلوب وزيادة في التعظيم موافقة لما جاء في الأحاديث الأخرى، وقد ذكر المهم من ذلك الإمام السخاوي(5) .
وأما غير الصلاة كمجالس الذكر فلا يقال لا يجوز الزيادة عليها؛ لأن مثل هذا يكفي فيه أن تكون الزيادة في نفسها موافقة لأدلة الشرع، ووصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة ثابت في حديث مسلم برقم (194): ”أنا سيد الناس يوم القيامة“ وهو عند البخاري برقم (3162)، فوصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة جائز ثابت في كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله تعالى من هو أقل منه مرتبة من الأنبياء سيدنا يحيى عليه السلام فقال: {وسيداً وحصوراً}(6)، فكيف يمتنع وصفه به وهو أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد وصف به النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنه فيما رواه البخاري برقم (2557) فقال: ”إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين“، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرقيق فيما رواه مسلم برقم (2249) أن لا يقول لمالكه ربي، وقال: ”ولكن ليقل سيدي“. فلفظ السيد من الألفاظ المشروعة، وهو مما يستعمل عند التكريم، وقد أمرنا الله تعالى بتكريم نبيه صلى الله عليه وسلم في الخطاب، فقال سبحانه: {لاتجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}(7)، وقال سبحانه: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}(8) والتعزير: معناه النصرة مع التعظيم، كما في مفردات الراغب الأصبهاني. وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المنافق فقط بلفظ السيادة فقال: ”لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم“ رواه الإمام أحمد في مسنده برقم (22939) عن عبد الله بن بريدة عن أبيه(9).
ولو كان حديث ”السيد الله“ يعارض وصف المخلوق بالسيادة لكانت الأحاديث متضاربة؛ إذ يقال حينئذٍ: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه ”أنا سيد ولد آدم“ بعد أن قال: ”السيد الله“، وحاشا أن يكون في السنة شيء من التناقض، ولو افترضنا الحديثين متعارضين لوجب أن يقدم الأثبت منهما، وحديث ”أنا سيد ولد آدم“ متواتر(10)، وبعض رواياته بلفظ: ”أنا سيد الناس“ لا يقدم عليه شيء، بل يقدم على كل ما يخالفه، لو وجد له مخالف. الجمع بين الأحاديث والواقع أن حديث ”السيد الله“ يدل بنفسه على المقصود منه، لو نظر إليه الباحث المنصف من خلال قواعد تفسير الألفاظ الشرعية؛ وذلك لأن كلمة ”سيد“ حين تكون مقرونة بالألف واللام تدل على الكمال في الصفة، فيكون معنى الحديث أن السيد الذي جمع وصف السيادة المطلقة بحيث لا يساويه غيره هو الله تعالى. وكل من وصف بالسيادة غيره فمعنى السيادة فيه غير معناه في الخالق سبحانه، كما يوصف غيره سبحانه بالحلم ونحوه، ويكون معناه في المخلوق غير معناه في الخالق سبحانه. على أن الحديث نفسه معه من الألفاظ ما يدل على جواز وصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال للذين قالوا له: ”أنت سيدنا، فقال: السيد الله، قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرنكم الشيطان“ فقوله صلى الله عليه وسلم: ”قولوا بقولكم“ إذنٌ في أن يقولوا الألفاظ التي تقدم ذكرها، ونهي عما يدعو إليه الشيطان من الخروج عما أحل الله إلى غير ذلك، وهو وصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة على معنى السيادة الخاصة بالله تعالى، وقوله: ”أو ببعض قولكم“ تخيير بين تلك الألفاظ لمن أراد الاقتصار على بعضها.
ومن زعم أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالألفاظ الواردة ـ ولم تأت الصلاة عليه في السنة مقرونة بالسيادة ـ فليأت بقول السلف في المنع، ولا يصح أن يقال إن سكوتهم يدل على المنع؛ لأن السكوت إنما يستدل به حيث لا يوجد دليل، والإطلاق الذي في الآية يدل على المشروعية، أما من منع السيادة بلا دليل راجح على هذا فقد خالف الإطلاق الذي خاطب الله تعالى به عباده في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً“، وضيق ما وسع الله على عباده، وقد ثبت عن ابن مسعود ذكر لفظ السيادة في الصلاة، كما سبق، بل ثبت رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت في الصلاة فمشروعيته في غيرها أولى، ولكن المانعين يوجبون على الناس ألا يصححوا من الأحاديث إلا ما صح في نظرهم، وألا يأخذوا بدليل إلا ما ثبت في نظرهم، وفهمهم من السنة هو السنة، وفهمهم من القرآن هو القرآن، وما يقبلونه من أقوال السلف هو مذهب السلف، وما سوى ذلك هو بدعة ضلالة.
وهذه كتب العلماء قديماً وحديثاً مليئة بالألفاظ المنوعة في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كتب ابن تيمية وتلاميذه وأتباعه، ومن أقدم ما جاء عن الأئمة في الألفاظ التي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم قول الشافعي رضي الله عنه في مقدمة كتابه الرسالة(11) : (صلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وصلى عليه في الآخرين أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه) وغيره في كتبه وكتب غيره كثير، وهو داخل في عموم تعظيمه، وقد أمر الله تعالى بتعزيره ـ والتعزير: النصرة مع التعظيم، كما قال الراغب في مفردات القرآن، قال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}(12)ـ بالألفاظ الدالة على تعظيمه المأمور به في قوله سبحانه: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}(13).
وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير في الصلاة فهي ـ وإن احتملت الإلزام بالألفاظ الواردة لكونها ضمن الصلاة ـ إلا أنها عند النظر في الاستدلال لا تختلف عن غير الصلاة؛ وذلك لأن الدليل على وجوبها أو استحبابها في الصلاة وخارج الصلاة، هو الأمر المطلق في قوله سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}(14)، والأمر المطلق إذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أو العمل ببعض ما يصدق عليه لم يكن ذلك مانعاً من غيره، وإن كان ما عمل به أو أمر به صلى الله عليه وسلم هو الأفضل(15)، ولذلك ذكر الإمام الشافعي في الأم (2/272): أن الواجب في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر الصلاة هو أقل ما يقع عليه اسم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه إذا اقتصر على ذلك كرهه له، ثم قال: (ولم أر عليه إعادة؛ لأنه قد جاء باسم تشهد وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم). هذا بالإضافة إلى أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم هي من قبيل الدعاء، وقد جاءت الأحاديث والأدلة الأخرى بمشروعية عموم الدعاء، فلا يقال عن شيء منه إنه ممنوع إلا بدليل يخص ذلك الشيء المعين من عموم نحو قوله تعالى: {إن ربي لسميع الدعاء}(16)، ومن خص شيئاً منه بلا دليل فقد ابتدع، بل رفض ما شرع الله تعالى، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري بعد التشهد برقم (800) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد ذكر التشهد: ”ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو“، وفوق ذلك فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من توابع التشهد، والتشهد وردت فيه ألفاظ عن الصحابة، ليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم كزيادة عمر رضي الله عنه في التحيات: (الزاكيات) كما رواه مالك في الموطأ موقوفاً عليه(17)، وكما مر في رواية ابن مسعود الموقوفة المشتملة على لفظ الزيادة(18).
وعلى كل حال لسنا ممن يستنكر على الأئمة الذين منعوا لفظ السيادة في الصلاة لأدلة بنوه عليها، إنما المستنكر حقاً هو أن يمنع المرء غيره من أهل العلم أن يثبتوا لفظ السيادة ؛ لما عندهم من الأدلة التي بنوه عليها، ثم يزعم أن ما وصل إليه باجتهاده هو السنة، وأن ما وصل إليه غيره باجتهاده هو البدعة، وأن يزعم ضمناً أن اجتهاده هو الميزان لكل العلماء، فما وافقه فهو الحق وما خالفه هو البدعة.
(1) الحديث في سنن أبي داوود (5/278) رقم (4773)، وسنن النسائي الكبرى (6/70) رقم (10074)، والأدب المفرد ص (83) رقم (211)، ومسند أحمد رقم (16311) دون لفظ ”السيد الله“ عند أحمد. (2) رواه الطبراني في الكبير برقم (8594) (9/114)، وفي القول البديع للسخاوي ص (126): (وإسناد الموقوف حسن، بل قال الشيخ علاء الدين مغلطاي: إنه صحيح)، وفي الترغيب والترهيب للمنذري برقم (2600) رواه ابن ماجه موقوفاً وإسناده حسن، وفي القول البديع ص (127) أنه اعترض عليه بوجود المسعودي في سنده، وقد اختلط، وهذا ليس على إطلاقه، ففي العلل ومعرفة الرجال (1/325) برقم (570) أن أحمد قال: (اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالبصرة والكوفة فسماعه جيد) وزياد البكائي الراوي عنه عند ابن ماجه كوفي، وكذا الفضل بن دكين الراوي عنه عند الطبراني، كما جاء في ترجمتها في التقريب.(3) انظر: هامش القول البديع ص (106).(4) في تقريب النووي مع تدريب الراوي (1/184): (فالصحيح أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر؛ لأن ذلك زيادة ثقة، وهي مقبولة). (5) في كتابه البديع ص (225) وما بعدها، تحقيق فضيلة الشيخ محمد عوامة، وكتب الدكتور زين العابدين العبد كتاباً خاصاً بذلك، ط: دار البحوث للدراسات الإسلامية في دبي، عنوانه ”الإفادة في حكم السيادة“. (6) سورة آل عمران، الآية/39. (7) سورة النور، الآية/63. (8) سورة الأعراف، الآية/157. (9) وقال المنذري في الترغيب والترهيب: إسناده صحيح، وقد قالوا عن رواية قتادة: إنه لم يسمع من عبد الله بن بريدة، وعلى التسليم بذلك فالسند الآتي يقويه، فيكون حسناً. (10) ذكر الشيخ أحمد الغماري في تشنيف الآذان ص (68) وما بعدها طرقه عن اثني عشر صحابياً، وعن ثلاثة من التابعين مرسلاً. (11) الرسالة ص (16)، ط: الشيخ أحمد شاكر. (12) سورة الأعراف، الآية/157. (13) سورة النور، الآية/63. (14) سورة الأحزاب، الآية/56. (15) في غاية الوصول شرح لب الأصول للقاضي زكريا الأنصاري ص (80) في مسألة العموم قال: (وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخص العام) ومثلوا له بحديث الترمذي: ”أيما إهاب دبغ فقد طهر“ مع حديث مسلم أنه صى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: ”هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به“. ثم قال ص (82): (والمطلق والمقيد كالعام والخاص فيما مر... فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب... بخلاف مذهب الراوي، وذكر بعض جزئيات المطلق). (16) سورة إبراهيم، الآية/39. (17) في الموطأ، كتاب الصلاة، باب التشهد برقم (53)، وعن ابنه برقم (54)، وعن عائشة برقم (55) #، والثلاث موقوفات، بخلاف رواية ابن مسعود الخالية من الزيادة، فإنها مرفوعة صراحة، وهذه الثلاث قالوا: إن لها حكم المرفوع، والشافعي رجح العمل برواية ابن مسعود؛ لأن رفعها صريح. (18) هذا إذا لم يؤخذ برواية ابن مسعود المرفوعة المشتملة على الزيادة.







