في ذكرى 16 أبريل يوم العلم
15-04-2014, 02:17 PM

العِلم كمرادف للمعرفة وإدراك الأمور والأشياء بحقيقتها ونقيضه الجهل. والمعرفة تنسب في بعض السياقات، للإدراك الجزئي أو البسيط لا للمفاهيم الكّلية والمركبة فإذا علمنا أن ما ينطبق على العلم ينطبق على الوجود والسمع، فالوجود المطلق والسمع المطلق كلها لله عز وجل. قال تعالى "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا{36} " الإسراء 17.
لا شك أن للعلم أهمية كبيرة في حياة البشر ما يجعله ميزة خاصة لدى العقلاء وأنها أساسيا في صيرورة حياتهم، ووصف العالِم يطلق على كل مُتَضَلِّعُ في العلم. شرعي ديني أو دُنيوي. وفي ذلك يقول رسول الله عليه وسلم: {إن العُلَماء ورَثةُ الأنبياَء، إن الأنبياَء لم يورثُوا درهمًا ولا دينارًا وإنما ورثُوا العِلمَ فمَن أخذه أخذ بحظ واف بحظٍ وافرٍ} (أخرجه أبو داود). وقال يخاطب صحابته: {فَضلُ العَالِم على العَابِد كفضلِي على أدناكُم} (أخرجه أبو داود). كما ان فضل العِلم والثّناء على أهله ذكر كثيرا القرآن الكريم، مثل قول اله تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} (المجادلة 11) و{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (الزمر 11). وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ فاطر(28)}. ولفظ العَالِم يطلق على الفقيه والمجتهد في الشريعة وأصول العقيدة الإسلامية والعارف بمسائل الحياة، المطلع على اسرار الطبيعة ومكوناتها وكنه الأشياء وقوى تحريكها والأحداث واباب مجراتها...ما يمكنه من الوقوف على الحقائق والتأثير بها أوفي مجرياتها بالإبداع والتعديل والنشر فيما يفيد.
كما أن مصطلح العِلم (Science) بالتعريف الحديث يطلق على طريقة التفكير العلمية (مشاهدة، فرضية، تجربة، صياغة التعريف أو انشاء فكر) والمنظومة الفكرية التي تنتج عنها وهي مجموعة الفرضيات والنظريات والقوانين والاكتشافات المتسقة والمتناسقة التي تصف الطبيعة والأخلاق والقيم الانسانية وتسعى لبلوغ حقيقة الأشياء
وبسبب كثرة الاستكشافات وأهميتها وتعدد مجالاتها وتطور الصراعات وعودة قطاع من البشرية إلى الجاهلية الأولى بما فيها من انحرافات واعوجاجات واستجابة لغواية الشيطان الانس والدعوة لعبادة أوثانه، فتدني مستوى الأخلاق وهبوطه وانحطاطه إلى الحضيض السحيق، في هذا الزخم غفل الكثيرون من الناس عن غربلة أحكامهم وتصحيح رؤاهم، وظل السفهاء والبلهاء يخرجون علينا، بين حين وآخر، بسفالة تبدي القبائح من أفواههم وتسفر عما في صدورهم من بهيمية، ولا غرابة ممن ختم الله على قلوبهم أقفالها، إذ أصابوا ماضينا حين نفوا الأهمية عن مقوماتنا وتمادوا بجهالتهم وفي نفوسهم أضغاث احلامهم.
ولعل القراء الكرام يذكرون ما ورد على لسان الوزير الأول الجزائري عبد الماك سلال خلال الندوة التي نظمت في نهاية شهر أوت 2014 م حول "رهان قطاع التربية" بالثانوية الرياضية في العاصمة الجزائية متباهيا بالقول:
(الشعر وقل أعوذ برب الفلق" و"ملتي واعتقادي" لا تبني الأمم)
قول أثار زوبعة غضب عارمة، وسط الشعراء والأدباء، لشعورهم بالإهانة والمساس بكرامتهم!!.
لكن الوزير لم يتفطن أو تجاهل، وظل سادراً في غوايته وأخطائه ومخالفاته وسخرية وتهكم، حتى وهو في حملته الانتخابية لصالح الرئيس الغائب المترشح، استمر على ذلك الأسلوب وتمادى فيه، وظن أنه أبلغ الناس وأفصحهم بياناً، ولم يدر المسكين أن الناس سكتوا عنه إعراضاً عنه لا غير، والسكوت عنا لا يعني التقليل من قدرات من سكتوا رغم الغضب...
لقد قال الكثيرون: لماذا اختار سلال التهكم على أهم مكونات الهوية الوطنية، (اللغة والدين والأدب)، وفي مناسبة هامة: (تخص البحث في مسألة رهان قطاع التربية).
والحقيقة التي لم تعد خافية على أحد هي أن التهكم جلي القصد وسافر الجذور، فسلال ليس معزولا بل مغمورا في نقع سياق التوجه التغريبي، والتحدي الخطير الذي يواجه الشعب الجزائري منذ الاستقلال، ليس ذلك التحدي الاستعماري القائم على: نهب الثروات، وتعطيل حركة التنمية والتقدّم، وشلّ المشروع النهضوي في أساسياته فحسب، بل هو هده الاتجاهات التي تتخذ صبغة اصلاحية، ويغذيها الغربيون، وهدفها الوحيد هو محاربة القيم الوطنية والروحية لدى الشعب الجزائري.
يقول " يوجين روستوك " مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون: " يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي ... هذا ليس قولا محدث بل مبني مرتكزات تاريخية.
ذلك أن المحطات التاريخية جميعها تؤكد أن أمريكا هي جزء مكمل للعالم الغربي: (فلسفة، وعقيدة، ونظام. وتاريخ) فالتغريب في أوضح أوجهه، ليس إلا اللباس الثقافي، وعملية محو للثقافة وتدمير بلا قيد ولا شرط للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية التقليدية، هذا هو الهدف الأسمى الذي سطر له أصحاب هذه الاتجاهات، ومع الأسف الشديد قد ظل التجاوب مع ذه الاتجاهات من قبل فئة ضالة من الجزائريين قائما طيلة خمسة عقود من عمر الاستقلال.
كيف لا يفعل سلال ذلك في مثل هذه المواقف وهو لا يحسن الخوض في مسائل أصغر منها، إنه الغرور والإعجاب بالنفس والتيه والكبر والمكابرة بالخطأ، وفوق ذلك كله الجهل المركب الذي هو من أخص سمات هذا النوع من البشر خاصة وقد فسح له ولأمثاله المجال في منابر تحتفل بكل ناعق من المخالفين والمستغربين... نموذج خطير على الأمة ومقوماتها.
كان على سلال أن يقول (إن التقدم له أسباب ومظاهر فالغرب لم يتقدم بسبب أن شعوبهم كانت تمشي وتأكل في الشوارع، أو لأن رجالهم يُقحمون كلمات غريبة عنهم في أحاديثهم أو ينفثون سوم الانسلاخ من أفواههم، وإنما كان التقدم في الغرب لأسباب انتهجوها: تشجيع البحث العلمي، والتزام الأمانة والجدية في حفظ القيم من خلال المعاملات، وإعطاء الحقوق، وتشجيع الموهوبين وإفساح المجال لهم، والتخلي عن النفاق، بالشباب ...تلك صفات كانت سببا في تقدمهم).
وكان عليه ان يستحضر التاريخ، بالعودة إلى مضمون الرد العملي على المحتفلين بمضي قرن على احتلال الجزائرعام:1931م، الذين كانت أصواتهم تردد -عبارة الجزائر فرنسية-وإلى الشق الأهم في هذا الرد الذي هو شعار العلماء المصلحين تحديدا (الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا)،يوم الخامس من ماي 1931 م في (نادي الترقي) بالعاصمة "ساحة الشهداء حاليا" حيث دعي علماء الإسلام في الجزائر, من طرف أشخاص حياديين ينتمون إلى نادي الترقي، لا يثير ذكرهم حساسية أو شكوكا لدى الحكومة ولا عند الطرقيين... وأعلنوا : أن الجمعية دينية تهذيبية تسعى لخدمة الدين والمجتمع. وانتخب الشيخ ابن باديس رئيسا للجمعية رغم كونه كان غائباً حيث لم يحضر، الاجتماع ،وألقى كلمة عند حضوره مما جاء فيها:
"إنني ما كنت أعد نفسي أهلاً للرئاسة لو كنتُ حاضراً يوم الاجتماع الأول،فكيف تخطر لي بالبال وأنا غائب ؟ لكنكم بتواضعكم وسلامة صدوركم وسمو أنظاركم جئتم بخلاف اعتقادي في الأمرين فانتخبتموني للرئاسة"
"إخواني، كنت أعد نفسي مُلْكًا للجزائر أما اليوم فقد زدتم في عنقي ملكية أخرى، فاللهَ أسأل أن يقدرني على القيام بالحق الواجب.
إخواني إنني أراكم في علمكم واستقامة تفكيركم لم تنتخبوني لشخصي، وإنما أردتم أن تشيروا بانتخابي إلى وصفين عرف بهما أخوكم الضعيف هذا:
-الأول: إنني قصرت وقتي على التعليم فلا شغل لي سواه فأردتم أن ترمزوا إلى تكريما لتعليم إظهاراً لمقصد من أعظم مقاصد الجمعية وحثاً لجميع الأعضاء على العناية به كل بجهده.
- الثاني: أن هذا العبد له فكرة معروفة، وهو لن يحيد عنها ولكنها يبلغها بالتي هيأ أحسن، فمن قبلها فهو أخ في الله، ومن ردها فهو أخ في الله، فالأخوّة في الله فوق ما يقبل وما يرد فأردتم أن ترمزوا بانتخابي إلى هذا الأصل، وهو أن الاختلاف في الشيء الخاص لا يمس روح الأخوة في الأمر العام
كان عليه ان يقول هذا هو النهج الباديسي الذي شكل اللبنة الأولى لتأسيس "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ لقاء الشيخين "الإمام ابن باديس المقيمً بالمدينة المنورة معر فيق الدرب العلامة الشيخ البشير الإبراهيمي الذي جاء من سوريا" بالمدينة المنورة، سنة 1913 م، لبحث الوضع المتردي للجزائر، وسبيل النهوض بها من كبوتها. وعن ذلك يقول الشيخ البشر الإبراهيمي : "وَأشْهِدُ الله على أن تلك الليالي من عام 1913 م هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين والتي لم تبرز للوجود إلا عام 1931 م".
وهكذا بدأ تفكير بن باديس يتجه إلى توسيع الخطة الإصلاحية التي شرع في تنفيذها بتعليم الناس وإرشادهم وتصحيح أمورد يهم، واستنهاض همم العلماء، تأكد لديه أن معركة الدفاع عن الجزائر وعن مقوماتها لا يمكن أن يقوم بها شخص واحد، أو جماعة محدودة العدد، وبسلاح واحد، لذلك أخذ ابتداء من سنة 1924يتطلع إلى الدخول في مرحلة جديدة تتكامل فيها وسائل العمل النضالي ويوجه فيها جهد المخلصين من أبناء هذا الوطن للتصدّي لإفشال سياسة الاستعمار، والقيام بواجب خدمة الوطن والدين واللغة، وإصلاح الأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية، وساعيا إلى تحقيق يقظة فكرية، وبعث شعور قومي، ووعي سياسي وديني، يدفع الحركة الإصلاحية إلى الأمام. وكان من الطبيعي أن يتطلع ابن باديس إلى استكمال الأدوات التي تحتاج إليها الحركة الإصلاحية، وتأسيس الهيئات وإنشاء الصحف وعقد اللقاءات مع الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي، تارة في سطيف، وأخرى في قسنطينة، التي كانت تنصب على دراسة الوضع في الجزائر والبحث عنا السبل الكفيلة بمعالجة هذا الوضع. في خطوات عملية تمهيدا مباشر للشروع في التحضر لتأسيس هذه الجمعية التي ظلت فكرة، لم تجد طريقها للتنفيذ الا سنة 1924 م، التقى الشيخان وعقدا العزم على تأسيس جمعية (الإخاء العلمي) يكون مركزها العام بمدينة قسنطينة العاصمة العلمية... تجمع شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم، وتقارب بين مناحيهم في التعليم والتفكير، وتكون صلة تعارف بينهم، ومزيلة لأسباب التناكر والجفاء.
هكذا رسم استراتيجية العمل وتنفيذ مشروع الإصلاح، متخذا من التربية والتعليم والإعلام وسيلته الأساسية للتوعية ومواجهة المستعمر المتسلط على بلده وهكذا ينبغي ان تتميز بالعلم والامل جهودنا.
وحينما يرى العاقل في الاستعمار والتبعية ندير عذاب ويتساءل:
كيف يكون الإسلام عزيزا السلمون أذلاء؟
وكيف يكون الإسلام قويا المسلمون ضعفاء محتلين؟
ويستخلص في بحثه إن ابن باديس دخل بشجاعة في عمله الإصلاحي من خلال حل معادلة غير متساوية الطرفين، فهو في مجتمع مسلم ولكنه بالمقابل مجتمع ذليل ضعيف متخلف، والإسلام هو دين العزة والقوة والتقدم فجعل آراء ه وأفكاره التربوية دعائم لحركته الإصلاحية.
إن بن باديس يعطي أهمية بالغة للجانب العلمي التعلمي، ويرى بأن أي عمل لا يقوم على علم فهو غير مأمون النتائج بل قد بشكل خطرا على صاحبه وعلى من يحيط به يقول رحمه الله: "العلم قبل العمل ومن دخل العمل بغير علم لا بأمن على نفسه من الضلال ولا على عبادته من مداخل الفساد والاختلال وربما اغتر به الجهال فسألوه فاغتر هو بنفسه فتكلم بما لا يعلم، فَضَلَّ وأضلَّ". وبذل رحمه الله جهدا كبيرا في تعليم جميع فئات المجتمع الجزائري بما في ذلك النساء والكبار.
الحمد لله
غيمة تمطر طهرا
غيمة تمطر طهرا













