رسالة من تحت الرماد من كتابي : خواطر جزائرية
03-12-2014, 10:51 PM
إنني إذا نسيت فلن أنسى ذلك المواطن المسكين الذي خرج من بيته ذات صبيحة مشؤومة ،كاسف البال منفطر القلب ،لم يملأ عينيه من زوجته وأولاده الصغار،حاملا بيده وسيلة موته ،آخذا طريقه نحو جهة آثرها عن كل الجهات ليضرم النار في جسده النحيف الذي تمالأت عليه كل هموم الدنيا وأحزانها حتى جعلت منه مجرد هيكل عظمي تتردد فيه الروح كما يتردد الهواء في صندوق خشبي .آثر أن يفجع أهله وأولاده وكل من عرفه بتلك الموتة التي لا يتحملها إلا من رأى الموت الأحمر والشقاء الأكبر،فكأنه خَبِرَ الموتَ وسبر أغواره ،فلم يجد ألما لتك الموتة إلا كما يجد أحدنا ألم القرصة..نعم لقد اختار أن تكون نهايته المروعة أمام بناية زجاجية شاهقة بنيت في روضة غناء وسط بساتين زهراء ، يخيل للناظر أنها قصر من قصور الملوك الغابرين ،تتلألأ في تلك البقعة الخضراء تلألؤ الكوكب المنير في البقعة الزرقاء ،كأنها نسر محلق في الفضاء أو قرط معلق في أذن الجوزاء ،في وسط تلك الروضة صهريجا من الرخام مستديرا يضم في وسطه فوارة ينفر الماء منها صعودا كأنه سيف مجرد أو سهم مسدد ،يخيل للرائي أن الأرض في غيض وحنق ،تريد أن تنتقم من ذلك البناء الشامخ الذي تعج جنباته ظلما وتعسفا ،وتثأر لضحاياه من المقهورين والمظلومين.
وها هو يحملق في ازدراء في ذلك القصر الزجاجي الشاهق ،محدثا نفسه : بخ بخ صرح عملاق كهذا ،أنفق على بناءه وتجهيزه ملايين الدينارات ثم لا يمنح للمواطن المسكين غير القنوط والموت .فخيل إليه أنه يتأمل وردة حسناء رائحتها خبيثة ،أو وجها وضيئا مشرقا تحمله نفس شريرة ،أو جسد أحد الجبارين كفر بالله وبالإنسانية ،ولم يؤمن إلا بنفسه وحظوظها فمسخه الله بناء .فيا عجبا نفس مقهورة آثرت الموت ،ثم لايكون موتها إلا أمام بناية من نيطت بهم رعاية شؤون الخلق ومصالحهم.أخذ المسكين يقلب بصره في معالم تلك البناية ونفسه تسيل ألما وحسرة ،وبينما هو كذلك لمح في أعلى البناية راية وطنه تداعبها أنفاس النسائم ، هذه الراية التي رددوا على مسمعه منذ طفولته أنها رمز سيادة الوطن وكرامته ،هي في الواقع لفافة قماش ولكن في الحقيقة والجوهر دماء وأرواح أولئك الرجال العظام الذين بذلوا دمائهم في سبيل هذا الوطن وحريته. وقف هنيهة وقفة هيبة وإجلال لتلك الراية كأن الوطن بكل تخومه وتضاريسه وأقاليمه تمثل له تلك اللحظة في تلك الراية فأراد أن يملأ عينيه منه قبل أن يودع الدنيا..وبينما هو يُهيء نفسه للموت رفع رأسه فرأى سربا من الطيور يحوم حول تلك الراية ،فألقي في رُوعِه أنها الطيور التي تحمل في حواصلها أرواح شهداء وطنه ،نزلت بأمر من الرحمن من فراديس الجنان لتشهد وفاته ولتشيع روحه مع الملأ الأعلى حين يصعدون بها السماء .وقد سره ذلك المنظر وبعث في نفسه الرغبة أكثر على الموت ،فحدثته نفسه : أنه إذا خذله أهل الأرض ، فها هي السماء بعوالمها الروحية الطاهرة تنصفه وتآزره ،فما كان منه إلا أن فتح إناء البنزين الذي كان بجانبه وأخذ يسكب منه على جسده حتى تبللت ثيابه كلها ،ثم مد يده إلى جيبه ليتناول ولاعة ،فخرجت مع الولاعة صورة ابتنه الصغرى التي لم تسلخ العامين فتأملها مليا حتى تخيل شبحها ماثلا أمامه فراح يخاطبها كما لو كانت تسمع أوتعقل : أي بنيتي بعد قليل سأودع هذه الحياة التي تمالأت همومها على أبيك وسأتركك وأنا لا أدري ما تصنع بك الأقدار من بعدي ،إن ما يخيفني يا صغيرتي هو أن أورثك همومي التي قتلتني ،أعلم يابنيتي أنك ستيتمين ،وستتجرعين ألوانا من الذل التي يتجرعها أبناء الأشقياء أمثالي ،أتذكرين يا صغيرتي يوم أصطحبتك معي وكان يوما شديد القر فمررنا بصبية تناهزك سنا ،رثة الثياب شعثاء الرأس تجلس القرفصاء على الرصيف تمد يدها للسابلة وهي تهتف : الرحمة يا مؤمنون ،الرحمة يا مؤمنون ؛وأمامها ورق كتب عليه : أنا طفلة لخمسة إخوة توفي أبي بسكتة قلبية بعد تسريحه من العمل ،ثم لحقته أمنا بعد عناء من أمراض كثيرة ،فسألتني ما شأن الطفلة فأجبتك أنها يتيمة ، فترقرقت بالدموع عيناك البريئتان ترقرق السحائب ،ثم سألتني ما اليتم ،فقلت ستعرفين حين تكبرين ،وها أنا ذا أزفك يا صغيرتي إلى اليتم بيدي ،وأحدد أنيابه ليمضغك رويدا رويدا،إنني أخشى يا صغيرتي أن يصيبك ما أصاب تلك الصبية فتشقين شقاءها وتتشردين تشردها ،تنامين على الأرصفة الباردة وتلتحفين السماء وتبيتين على الهم والطوى ،وأكثر ما يخيفني يا بنيتي أن تمتد إليك تحت جنح الظلام يد أثمة فتفجعك في عفتك ،فمن الناس يا صغيرتي إذا أسبل الليل ستائره خلع ثوب الإنسانية ولبس فروة السبع ،ولكن عزائي فيك أني تركت لك أما رؤما ،طاهرة الذيل كريمة العنصر ،ستمنع منك ماتمنع منه نفسها ،وسأضرع إلى الله أن يكلأك بحفظه ،ويسبل عليك ستر حمايته . وهنا سمع كأن هاتفا يهتف به من السماء ويقول : أيها المسكين لا تجزع ولا تحزن ،إن فلذة كبدك وثمرة فؤادك ستتعدها السماء بالرعاية وستحيطها بالعناية ،فمت هنيئا مطمئنا.
فتهلل وجهه وقرت عينه ،وشعر ببرد اليقين يملأ جوانحه، فقبل المسكين صورة ابنته وكان ذلك آخر عهده بها ثم أعادها إلى جيبه ،وخر ساجدا لله على ما مَنَّ عليه من عهد بسلامة ابنته من بعده .وهنا بدأ يلفت أنظار الناس ويجلب اهتمامهم ،فذهب الناس في أمره مذاهب شتى ،فمنهم من ظنه مجنونا فرثى لحاله ،ومنهم من خاله متدينا متطرفا فازدراه ،ومنهم من تجاهله ولم يعبأ لشأنه.
ثم انتصب من سجوده قائما وهويصرخ : قسما بالنازلات الماحقات ما أنا بمجنون ولا متطرف ولا سكران ولكنني مواطن بائس معدم ،سلبتني حقوقي المطامع البشرية ، حتى بت أرى نفسي مجرد حطب إنساني يابس لا يصلح سوى للنار ،وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى أشعل الولاعة وأضرم النار في كامل جسده ، فهرعت الحشود التي كانت تقف مستمعة لحديثه لإنقاذه ،ولكن النار كانت قد انتشرت في جسده انتشارها في الهشيم ولم تبق على موضع منه سليما ،فوقع اللغط والهرج ،وعلا الصراخ والعويل ،وأقبل الناس من كل حدب وصوب ،وحضرالمسعفون ورجال الشرطة بعد لأي ،وأمعن الناس في التعليق كما هو شأنهم في كل حدث وخطب ،أما أنا فقد وقفت أتأمل الجثة عن بعد ،وقد هالني مشهدها وأفزعني ،ونفسي تحدثني : أيعقل أن تكون هذه الكومة من الرماد بقايا إنسان وحطامه؟ ،أيعقل أن تكون أثرا لذات إنسانية عاشت فوق الأرض قبل أن تحول إلى ما حالت إليه ؟ أيعقل أن يبلغ اليأس من بعض النفوس هذا المبلغ الذي تهون معه الحياة ؟ نعم ،نعم إنها بقايا انسان ،إنها أثرلذات إنسانية ،إنها جناية السعداء على التعساء ، إنها تمثال للإنسانية التي شقيت بالسعداء وذوي النعمة.
فيا أيها القتيل لو كنت قاضيا لجعلت تلك النار التي أحرقوك بها قسمة بينك وبينهم ،ولكنني لا أستطع أن أنفعك ،فرحمة الله عليك أيها البائس.
وها هو يحملق في ازدراء في ذلك القصر الزجاجي الشاهق ،محدثا نفسه : بخ بخ صرح عملاق كهذا ،أنفق على بناءه وتجهيزه ملايين الدينارات ثم لا يمنح للمواطن المسكين غير القنوط والموت .فخيل إليه أنه يتأمل وردة حسناء رائحتها خبيثة ،أو وجها وضيئا مشرقا تحمله نفس شريرة ،أو جسد أحد الجبارين كفر بالله وبالإنسانية ،ولم يؤمن إلا بنفسه وحظوظها فمسخه الله بناء .فيا عجبا نفس مقهورة آثرت الموت ،ثم لايكون موتها إلا أمام بناية من نيطت بهم رعاية شؤون الخلق ومصالحهم.أخذ المسكين يقلب بصره في معالم تلك البناية ونفسه تسيل ألما وحسرة ،وبينما هو كذلك لمح في أعلى البناية راية وطنه تداعبها أنفاس النسائم ، هذه الراية التي رددوا على مسمعه منذ طفولته أنها رمز سيادة الوطن وكرامته ،هي في الواقع لفافة قماش ولكن في الحقيقة والجوهر دماء وأرواح أولئك الرجال العظام الذين بذلوا دمائهم في سبيل هذا الوطن وحريته. وقف هنيهة وقفة هيبة وإجلال لتلك الراية كأن الوطن بكل تخومه وتضاريسه وأقاليمه تمثل له تلك اللحظة في تلك الراية فأراد أن يملأ عينيه منه قبل أن يودع الدنيا..وبينما هو يُهيء نفسه للموت رفع رأسه فرأى سربا من الطيور يحوم حول تلك الراية ،فألقي في رُوعِه أنها الطيور التي تحمل في حواصلها أرواح شهداء وطنه ،نزلت بأمر من الرحمن من فراديس الجنان لتشهد وفاته ولتشيع روحه مع الملأ الأعلى حين يصعدون بها السماء .وقد سره ذلك المنظر وبعث في نفسه الرغبة أكثر على الموت ،فحدثته نفسه : أنه إذا خذله أهل الأرض ، فها هي السماء بعوالمها الروحية الطاهرة تنصفه وتآزره ،فما كان منه إلا أن فتح إناء البنزين الذي كان بجانبه وأخذ يسكب منه على جسده حتى تبللت ثيابه كلها ،ثم مد يده إلى جيبه ليتناول ولاعة ،فخرجت مع الولاعة صورة ابتنه الصغرى التي لم تسلخ العامين فتأملها مليا حتى تخيل شبحها ماثلا أمامه فراح يخاطبها كما لو كانت تسمع أوتعقل : أي بنيتي بعد قليل سأودع هذه الحياة التي تمالأت همومها على أبيك وسأتركك وأنا لا أدري ما تصنع بك الأقدار من بعدي ،إن ما يخيفني يا صغيرتي هو أن أورثك همومي التي قتلتني ،أعلم يابنيتي أنك ستيتمين ،وستتجرعين ألوانا من الذل التي يتجرعها أبناء الأشقياء أمثالي ،أتذكرين يا صغيرتي يوم أصطحبتك معي وكان يوما شديد القر فمررنا بصبية تناهزك سنا ،رثة الثياب شعثاء الرأس تجلس القرفصاء على الرصيف تمد يدها للسابلة وهي تهتف : الرحمة يا مؤمنون ،الرحمة يا مؤمنون ؛وأمامها ورق كتب عليه : أنا طفلة لخمسة إخوة توفي أبي بسكتة قلبية بعد تسريحه من العمل ،ثم لحقته أمنا بعد عناء من أمراض كثيرة ،فسألتني ما شأن الطفلة فأجبتك أنها يتيمة ، فترقرقت بالدموع عيناك البريئتان ترقرق السحائب ،ثم سألتني ما اليتم ،فقلت ستعرفين حين تكبرين ،وها أنا ذا أزفك يا صغيرتي إلى اليتم بيدي ،وأحدد أنيابه ليمضغك رويدا رويدا،إنني أخشى يا صغيرتي أن يصيبك ما أصاب تلك الصبية فتشقين شقاءها وتتشردين تشردها ،تنامين على الأرصفة الباردة وتلتحفين السماء وتبيتين على الهم والطوى ،وأكثر ما يخيفني يا بنيتي أن تمتد إليك تحت جنح الظلام يد أثمة فتفجعك في عفتك ،فمن الناس يا صغيرتي إذا أسبل الليل ستائره خلع ثوب الإنسانية ولبس فروة السبع ،ولكن عزائي فيك أني تركت لك أما رؤما ،طاهرة الذيل كريمة العنصر ،ستمنع منك ماتمنع منه نفسها ،وسأضرع إلى الله أن يكلأك بحفظه ،ويسبل عليك ستر حمايته . وهنا سمع كأن هاتفا يهتف به من السماء ويقول : أيها المسكين لا تجزع ولا تحزن ،إن فلذة كبدك وثمرة فؤادك ستتعدها السماء بالرعاية وستحيطها بالعناية ،فمت هنيئا مطمئنا.
فتهلل وجهه وقرت عينه ،وشعر ببرد اليقين يملأ جوانحه، فقبل المسكين صورة ابنته وكان ذلك آخر عهده بها ثم أعادها إلى جيبه ،وخر ساجدا لله على ما مَنَّ عليه من عهد بسلامة ابنته من بعده .وهنا بدأ يلفت أنظار الناس ويجلب اهتمامهم ،فذهب الناس في أمره مذاهب شتى ،فمنهم من ظنه مجنونا فرثى لحاله ،ومنهم من خاله متدينا متطرفا فازدراه ،ومنهم من تجاهله ولم يعبأ لشأنه.
ثم انتصب من سجوده قائما وهويصرخ : قسما بالنازلات الماحقات ما أنا بمجنون ولا متطرف ولا سكران ولكنني مواطن بائس معدم ،سلبتني حقوقي المطامع البشرية ، حتى بت أرى نفسي مجرد حطب إنساني يابس لا يصلح سوى للنار ،وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى أشعل الولاعة وأضرم النار في كامل جسده ، فهرعت الحشود التي كانت تقف مستمعة لحديثه لإنقاذه ،ولكن النار كانت قد انتشرت في جسده انتشارها في الهشيم ولم تبق على موضع منه سليما ،فوقع اللغط والهرج ،وعلا الصراخ والعويل ،وأقبل الناس من كل حدب وصوب ،وحضرالمسعفون ورجال الشرطة بعد لأي ،وأمعن الناس في التعليق كما هو شأنهم في كل حدث وخطب ،أما أنا فقد وقفت أتأمل الجثة عن بعد ،وقد هالني مشهدها وأفزعني ،ونفسي تحدثني : أيعقل أن تكون هذه الكومة من الرماد بقايا إنسان وحطامه؟ ،أيعقل أن تكون أثرا لذات إنسانية عاشت فوق الأرض قبل أن تحول إلى ما حالت إليه ؟ أيعقل أن يبلغ اليأس من بعض النفوس هذا المبلغ الذي تهون معه الحياة ؟ نعم ،نعم إنها بقايا انسان ،إنها أثرلذات إنسانية ،إنها جناية السعداء على التعساء ، إنها تمثال للإنسانية التي شقيت بالسعداء وذوي النعمة.
فيا أيها القتيل لو كنت قاضيا لجعلت تلك النار التي أحرقوك بها قسمة بينك وبينهم ،ولكنني لا أستطع أن أنفعك ،فرحمة الله عليك أيها البائس.








