الموت البطيء
18-06-2008, 08:46 PM
الموت البطيء
ذكريات ماض قريب، لاحت بين تقاطعٍ لحقيقة زائفة وخيال واقعي، أقسمت أنها ستكون برهانا لما سيؤول إليه الوضع الحالي في عقل هذا النائم المستيقظ، هذا المسكين وبفضل التكنولوجيا المعاصرة استفاق من سباتٍ.. ظن أنّه طويل جدا، لم يكن حينها يعي ما قد حدث ويحدث، ...فوق سرير نظيف .. في غرفة أرجوانية واسعة مرتبة نطق هذا الغريب بكلمة عجيبة كانت بداية لقصة مؤثرة حيث لا المنطق ولا القوانين الأرضية الأخرى تُعين على فهم هذه الأحداث المستغربة.
... أين أنا ...؟ سؤال غريب لم يتعود أبدا طرحه وهو الدكتور الفيزيائي الجزائري المشهود له بالبراعة في علوم أخرى كثيرة، أين أنا...مصطلح مركب لم يتعود من قبل حمله في حقيبته الفكرية و هو الأستاذ الذي طالما كان يسأل مجتمع الاختصاص العلمي...أين أنتم؟ ...هو المدرس الذي أفنى سنواتٍ كثيرة من عمره بين مدرجات الجامعات الجزائرية ومخابرها، هو المحاضر الدائم الإبحار في مختلف الندوات العلمية، لم يدخر هذا العالم – طيلة مسيرته العلمية – أي جهد في سبيل تطوير البحث العلمي في بلاده، فكان مثالا للأستاذ المجتهد النزيه، الذي لا يجد التعب طريقا للوصول إليه، المحبوب بقوة من طرف طلبته وزملاءه في جامعة"منتوري" بقسنطينة.
...أين أنا...؟ ماذا أفعل هنا ؟ كيف وصلت إلى هنا ؟ أسئلة غريبة كانت تحاكي ارتطام أمواج البحر الهائج في عقل هذا الدكتور، .. يا إلهي ..العون ..العون ما عدت أطيق صبرا..؟ نطق الدكتور "لحسن" بهذه العبارات المبهمة بينه وبين نفسه التائهة وسط هذا الكيان الجديد قبل أن تعاوده الكرّة بالاستسلام للنوم الهادئ العميق، كان يظن في عقله اللاشعوري أنها سلسلة من أضغاث الأحلام التي طالما حُدّث بها وحُذّرَ منها، ربما اختارته من بين الأهداف الأخرى الكثيرة لغاية لها خبيثة...ربما آثرت انتهاك حرمة حياته الهادئة المسالمة لتلهو معه فقط...ربما..، وحتما ..وبدون شك سرعان ما ستتلاشى وتندثر وتصير إلى عالم فراغها المفزع...نعم ستنتقل هذه الأضغاث المزعجة بكل تأكيد إلى مكان انتمائها الأبدي وستتركه لحال سبيله بعدما تُوجد لنفسها عقلا آخر تلهو به..، لكن هيهات... هيهات أنى لك ذلك يا دكتور لحسن ... فلم تمر إلا بضعٌ من الساعات حتى سمع هذا المسكين صوتا قرب باب الغرفة الأرجوانية، فما كان من الأستاذ العالم إلاّ أن عاود استفاقته بسرعة عجيبة والعرق يتصبب من كل مسامات جسمه الأكاديمي... آخذا وضعية الفريسة التي أيقنت قرب هلاكها، ماسكا بكلتا يديه، شاخصا بصره نحو الباب، منتظرا حدوث شيء علّه سيكون غريبا، وبينما هو في هذه الحال ..دُق باب الغرفة ثلاثا ثم فُتح... فإذا بضوء خافت تسلل إليها... صاحَبَهُ صوت امرأة عذب يقول بالفرنسية "votre dîner monsieur LAHCENE ".. استغل لحسن – في هذه الأثناء - حنان هذا الصوت ثم بادره بهذه الأسئلة:..." من فضلك يا سيدة... أين أنا...؟ ومن أنتِ...؟ وماذا أفعل هنا...؟ أنا لا أفهم شيئا... – هل باستطاعتك مساعدتي ؟ ...سكت هذا الصوت الأنثوي قليلا ثم تابع كلامه : "...ستعرف كل شيء في حينه فلا تستعجل يا دكتور...المهم أن تحاول الأكل... " وفي لمح البصر انسحب حيّز هذا الصوت العذب من الشق الضيّق للباب ناشرًا في جو الغرفة الأرجوانية عبارة فيها كثير من الحنّية ..: "حاول أن تنام قليلا بعد الوجبة يا دكتور فغدا سيكون يوما متعبا لك" .
بدأ لحسن في هذه الأثناء يسترجع بقايا عقله رويدا رويدا، ويناضل جاهدا كي يوحّد تفكيره الجديد مع مكونات الغرفة الجديدة .كافح بعدها مريرا طيلة سويعات بطيئة ثقيلة كي يستجمع قواه الخفيّة كلّها لتذكّره بتفاصيل ما قد جرى في اليوم الماضي،...نعم...بدأت أتذكر...هيا يا ذاكرتي ..لا تخذليني هذه المرة فلطالما كنتِ سندا لي فيما سبق...كان السيد العالِم يردد هذه الكلمات بتمتمة دائرية المسار، مضطربة تتلاشى بمجرد عودتها لمحور التساؤل الأول .....أذكر أني كنت برفقة زوجتي "حسيبة" وولديّ "فاطمة" و "فيصل"، كنا جميعا في زيارة خاطفة للجدة قاصدين مدينة عين مليلة، وفي أثناء عودتنا جميعا وبينما نحن في منتصف الطريق اصطدمت بنا سيارة رباعية الدفع...نعم أتذكرها جيّدا كانت سوداء ...فخمة...تشبه ما نراه في الأفلام الأمريكية الهوليودية. لقد كانت تسير في الاتجاه المعاكس ، لم يكن الاصطدام قويا هذا ما جعل الجروح جد طفيفة،...كان الدكتور يعيد جزءا من تفاصيل الحادثة الغريبة من بدايتها، وكأن شريط الأحداث مركب الآن بدماغه يشتغل بقفل أوتوماتيكي تتحكم به عن بعد غريزة معششة في عقله الباطني ،....بعد أن اطمأننتُ على حالة عائلتي الصغيرة، وتأكدت بفضل الله على سلامتهم، خرجتُ مسرعا من سيارتي نحو العربة الأخرى محاولا الاستفسار عن هذا الاصطدام الشبه مقصود ولكن ...آه نعم...لقد انكشف لي الآن كل شيء... ما أن اقتربتُ... حتى فُتح باب السيارة السوداء، ثم خرج منها رجلين قويي البنية، أمسكاني بعنف وانتقلا بي إلى سيارة أجرة كانت متوقفة بجانب مكان الاصطدام ومن ثم...الأوغاد... أفقدوني الوعي بطريقة لا أتذكرها....ولكن من هم هؤلاء..؟ وماذا يريدون مني..؟ إن كانوا لصوصا فليس معي إلا بعض الدريهمات القليلة التي بقيت من مرتبي الشهري هذا ما أملك إن أرادوا أخذها فليأخذوها وليتركوني لحال سيبلي... هذا ماكانت نفس لحسن تحدثه به قيل أن يغط في نوم آخر عميق غريب.
بعد استفاقة أخرى للسيد لحسن، بدأت تساوره شكوك حول نومه المتكرر، لماذا يا ترى؟... أسببه من التعب...أم ...بفعلٍ مقصود، ربما سيتضح له كل شيء في وقته،...لن أستعجل الأمر هذه المرة، وسأترك الحقيقة تدعوني لها، ...لن أرضخ للخيال الواقعي، ...نعم ...سأجد لنفسي حيّزا من صنعي أنا، أعيشه فقط لوحدي، ...لن أترك ..الآخرين يفصلونني عنه،...سترون يا أيتها العيون التي لا تنام أني لا أقهر، ...فسيرتي الذاتية مليئة بمواقف التصلب ...هذا ما توصل له الدكتور من نتيجة حتمية بعد حديث مقتضب مع نفسه الثانية، لقد أدرك الرجل صعوبة الموقف، وأنه يتوجب عليه أن يفصل فيما سيقرره بعد أن تتكشف له نوايا الآخرين.
أدرك الأستاذ أنه لن يمر وقت طويل حتى يأتيه مفاوضٌ حول شيء ما، فنظريته الفيزيائية الشهيرة حول النواة خلقت جدلا واسعا بين علماء الفيزياء النووية، لقد وصفوها بثورة جديدة، ستغيّر المفاهيم القديمة، وتستبدلها بأخرى تعين أكثر على فهم خصائص الجزيئات الصغيرة، وبسبب تداعيات أبحاثه العلمية فقد دُعي لأكثر من مرة لزيارة بلدان غربية كثيرة من أجل طرح أبحاثه أمام اللجان العلمية هناك، بل لقد رُشّح من طرف الأكاديميات العلمية لجائزة نوبل في هذا العام، وبما أن الدكتور ضليع في حل مشكلات الفيزياء العويصة، لهذا لم يجد أي صعوبة في فهم ما يدور حوله من أمور غريبة، لقد توقع أن نظريته الجديدة ستغري بعض الأطراف لاستغلاله من أجل نيل مآربها الاقتصادية، ولكن في بلده ...وبمدينته...هذا الأمر لم يخطر له بتاتا، ...
استجمع الدكتور لحسن أنفاسه، واستعد لملاقاة مفاوضه الغامض، فما هي إلا بضع من السويعات حتى يجيء هذا الشخص المزعوم وينقل له كما تجري الأعراف مطالب الأيادي الخفيّة، وكذا شروطها للعمل معه، لذا فمن واجب السيد لحسن الاستعداد النفسي والتكتيكي بغية النجاح في التفاوض المزعوم .....يتبع
من مواضيعي
0 المطرات الحزينة
0 كيف للقلم أن يجف حبره
0 عش الحقيقة
0 إمام البيعة .....الــــــ.....
0 أحن إلى جزائر أخرى
0 معا من أجل تخفيض سعر البطاطا والدقيق هذا شعاري لو كنت مرشحا للانتخابات
0 كيف للقلم أن يجف حبره
0 عش الحقيقة
0 إمام البيعة .....الــــــ.....
0 أحن إلى جزائر أخرى
0 معا من أجل تخفيض سعر البطاطا والدقيق هذا شعاري لو كنت مرشحا للانتخابات










