تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
منتديات الشروق أونلاين > المنتدى الحضاري > منتدى القرآن الكريم

> من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد

 
أدوات الموضوع
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 07-05-2008
  • الدولة : البليدة
  • العمر : 37
  • المشاركات : 7,183
  • معدل تقييم المستوى :

    25

  • جمال البليدي is on a distinguished road
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد
05-04-2009, 10:57 PM
تمهيد



إنّ الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، و من يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله .
أمّا بعد ، فهذه فوائدُ قرآنيّة كنت استفدت أكثرها قديما ممّا كتبه بعض أهل العلم ، فلمّا تقادم الزّمن و بدأ الذّهن في الكلال رأيت تدوينها كي لا يطويَها النسيانُ ، و قد أحببت أن أشرِك القارئ في الاستفادة منها ، وهي متنوّعة ، فمنها في العقيدة ، و منها في التفسير ، و منها في التجويد ، و منها في الحديث ، و منها في الفقه ، و منها في الخُلق ، ومنها في اللّغة و البلاغة ، ومنها ما كان من علم المناسبات ، سواءً كانت من المناسبات الموضوعيّة ، أو مناسبة سورةٍ لسورة ، أو آية لآية ، أو مناسبة أوّل السورة لآخرها ، أو لفظةٍ للفظة كالمشاكلات اللّفظيّة ، أو ما كان من علم التّقاسيم و الأشباه و النّظائر ، أو ما كان من مطابقةٍ بين القرآن و الحديث النّبويّ و غيرها .
و قد جعلتُ عنوانَ الكتاب : " من كلّ سورةٍ فائدةٌ " ، و أعني : على الأقلّ ، و لذلك فقد أزيد على الفائدة الواحدة ، بحيث أذكر تحت السورة الواحدة أكثر من آية ، و قد أذكر تحت الآية الواحدة عدّة فوائدَ ، فتتعدّد الفوائد حينئذٍ ، و قد كنت عزمت في الأوّل أن أستوعب ما اجتمع في الذهن من فوائد ، فلمّا رأيت ذلك يطول جدّا ، اكتفيت في الأغلب بآية واحدة من كلّ سورة ، و هي بحوث شريفة تدلّ على إعجاز الكتاب الكريم ، و هو الغرض الأسمى الذي من أجله جمعتها هنا .
و قد كتب كثيرٌ من أهل العلم في هذا الباب ، و كثُرت استنباطاتهم و تنوّعت ، ومن اطّلع عليها رأى التفاوت الكبير بينهم ، فمنهم من يكون استنباطه في الإعجاز شبه يقين لموافقته الأصول ، ومنهم من يكون محتملا ، ومنهم من يكون بعيدا متكلّفا ، كما نبّه على ذلك الشوكانيّ في " فتح القدير " (1/73) ، و ردّ على من يتكلّف إيجادَ مناسبة لكلّ آيتين أو سياقين ، وضرب مثالا ببعض من رأى أنّه جازف في هذا الباب و تجاوز المطلوب أو المرغوب فيه .
و قد يلاحظ القارئ أنّني أُكثرُ من النّقل عن الشيخين الجليلين ابن تيمية و ابن القيّم رحمهما الله ، و السبب في ذلك راجع في جملته إلى أمرين :
أحدهما : أنّ تبحّرهما في علم الكتاب و السنّة أورثهما حسّا صادقا في غالب ما يستنبطان (1) .
الثّاني : أنّ تشبّعهما بعلم السّلف جعل استنباطاتهما لا تخرج عن علم السّلف ، و لا ريب أنّ من لزم غرز السّلف فقد آوى إلى ركنٍ شديد ، وقد كان من طريقتهما أنّهما لا يستنبطان شيئا إلّا دعّماه بمأثور من أقوال السلف ، و هكذا شأن الموفّق في علمه ، فإنّه قبل أن يستسلم لخطرات نفسه و استنتاجات قريحته يعرض ذلك على علم السّابقين الأوّلين الذين جاء مدحُهم بحقٍّ في الكتاب و السنّة ، و ما مُدح مَن مُدح مِن بعدهم إلا ببركة متابعته لهم ، والله وليّ التوفيق .

________________
(1) : في الأصل المطبوع : يستنبطون . [ أبو حاتم ]
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 07-05-2008
  • الدولة : البليدة
  • العمر : 37
  • المشاركات : 7,183
  • معدل تقييم المستوى :

    25

  • جمال البليدي is on a distinguished road
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
رد: من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد
05-04-2009, 10:59 PM
حِفظُ الله للقرآن

ممّا يدلُّ على صدقِ نُبوّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم حفظ الكتاب الذي أُرسل به إلى النّاس ، ألا و هو القرآن الكريم ، فقد حُفظ هذا الكتاب حفظًا لم يُعرف له نظير من قبلُ في الكتب السّماويّة الأخرى ؛ لأنّ الله هو الذي تولّى حفظه ، وسخّر لذلك ما شاء من الأسباب ، فحفظه الأئمّة في المحاريب ، و الصّبيان في الكتاتيب ، لا تسأل عن نقطه و شكله ، و لا عن نسخه و رسمه ، فقد تفنّن المسلمون في ذلك أيّما تفنّن ، فجلس القرّاء يقرئونه في المساجد ، والعلماء يفسّرونه في المعاهدِ ، و يجيزون طلّابهم فيه بأنقى الإجازات ذات السّلاسل المتّصلة ، لا يحاول أحدٌ تحريف حرفِ منه إلا افتضح من توِّهِ ، قال الباجي رحمه الله : " كتابنا المحفوظ يحفظه الصّغير و الكبير ، لا يمكن لأحد الزّيادة فيه و لا النّقصان ، و الذي يقرأ به مَن في أبعد المشرق هو الذي يقرأ به مَن في أبعد المغرب ، دون زيادة حرفٍ و لا لفظةٍ و لا اختلاف في حركةٍ و لا نقطةٍ " من مقدّمة محقّق كتاب الباجي " فصول الأحكام " (ص62) ، و في " تفسير القرطبيّ " (10/5-6) عن يحي بن أكثمَ قال : " كان للمأمون - و هو أميرٌ إذّاك - مجلس نظر ، فدخل في جملة النّاس رجل يهوديٌّ حسنُ الثّوب حسنُ الوجه طيّب الرّائحة ، قال فتكلّم فأحسن الكلام و العبارة ، قال : فلمّا تقوَّضَ المجلس دعاه المأمونُ ، فقال له : إسرائيليٌّ ؟ قال : نعم ! قال له : أسلم حتى أفعل بك و أصنع ، و وعده ، فقال : ديني و دين آبائي ! ! و انصرف ، قال : فلمّا كان بعد سنة جاءنا مسلمًا ، قال : فتكلّم على الفقه ، فأحسن الكلام ، فلما تقوّض المجلس دعاه المأمون ، و قال : ألستَ صاحبَنا بالأمس ؟ قال له : بلى ! قال : فما كان سبب إسلامك ؟ قال : انصرفت من حضرتك ، فأحببت أن أمتحن هذه الأديان و أنت تراني حسن الخطّ ، فعمَدتُ إلى التّوراة فكتبت ثلاث نسخ ، فزِدت فيها و نقَصتُ ، و أدخلتها الكنيسة فاشتُريت منّي ، و عمدت إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاث نسخ ، فزدت فيها و نقصت ، وأدخلتها البِيعة فاشتُريت منّي ، و عمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ و زدت فيها و نقصت ، وأدخلتها الورّاقين فتصفّحوها ، فلمّا أن وجدوا فيها الزّيادة والنّقصان رموا بها فلم يشتروها ، فعلمت أنّ هذا كتابٌ محفوظٌ ، فكان هذا سبب إسلامي ، قال يحيـى بن أكثم : فحججتُ تلك السّنة فلقِيتُ سفيانَ بنِ عُيينة فذكرت له الخبر فقال لي : مصداق هذا في كتاب الله عز وجل ، قال قلت : في أيّ موضعٍ ؟ قال : في قول الله تبارك و تعالى في التوراة و الإنجيل: ﴿ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ ( المائدة : 44 ) ، فجعل حفظه إليهم فضاع ، وقال عزّ و جلّ : ﴿إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ﴾ ( الحجر : 9 ) ، فحفظه الله عزّ وجلّ علينا فلم يضِع " .
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 07-05-2008
  • الدولة : البليدة
  • العمر : 37
  • المشاركات : 7,183
  • معدل تقييم المستوى :

    25

  • جمال البليدي is on a distinguished road
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
رد: من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد
15-04-2009, 06:05 PM
تدبُّرُ القُرْآنِ



أنزل الله كتابَه الكريمَ ليُتلى و يُعمل به ؛ قال الله تعالى : ﴿ وَ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ( الكهف : 27 ) ، و قال : ﴿ وَ هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( الأنعام : 155 ) ، و قال : ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ( الأعراف : 3 ) .
و لا يتمّ العملُ بالكتاب الكريم إلا بعد تدبُّرِ معانيهِ ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اْلأَلْبَابِ ( ص : 29 ) ، و قد حصل لكثير من المسلمين في هذا الزّمان ضَعفٌ ملحوظٌ ؛ لأنّهم تركوا العمل بكثيرٍ منه ، و قنعوا منه بما يجلبُ لهم بعض منافعهِ ، فاتّخذوه جُنّةً من الجِنّةِ ، واستولدوا به الأجنّة ، بل جمعوا به الأقوات ، وقَصَروا نفعه للأموات ، و ابتدعوا قراءته إذا رجلٌ مات ، و الله يقول : ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ . لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ( يس : 69 - 70 ) ، فأين تفهّمُه و تنويرُ البصائر به و إحياءُ القلوب به ؟! و أين العمل به و التأدّب بآدابه ؟! فكيف بتبليغه و الدّعوة إليه ؟ ! قال الله عزّ و جلّ : ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ ءابَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ ( المؤمنون : 68 ) ، و ينبغي للمسلمين الحذر من هجر تدبّره ؛ فإنّ هذا سبيلُ من أُقفل على قلوبهم ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ أَفَلاَ يتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( محمّد : 24 ) ، فإنّ ترك تدبّره أوّل حاجبٍ عن العمل به ، مع أنّ الله قد يسّره للذّكرِ ؛ كما قال : ﴿ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهْلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( القمر : 17 ) ، و كذلك فإنّ الله أحكمَ آياته فلا ترى فيه تناقضًا و لا انحرافًا ، وقد مضى عليه أربعة عشر قرنا فلم يضع منه حرفٌ و لم يُستنكر منه لفظٌ ؛ قال الله عزّ و جلّ : ﴿ أَفَلَا يَتَدبَّرُونَ القُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيرًا ( النّساء : 82 ) ، و أخرج عبدُ الرّزّاق ( 5984 ) بسندٍ صحيحٍ عن الحسن أنّه قال في قوله تعالى : ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكََّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ ( ص : 29 ) : " و ما تدبّرُ آياته إلا اتّباعُه بعمله ، و الله ! ما هو بحفظ حروفه و إضاعة حدوده ، حتّى إنّ أحدَهم ليقولُ : و الله ! لقد قرأت القرآن كلّه و ما أُسقطُ منه حرفا واحدا ، و قد أَسقطَه كلّه ! ما ترى له في القرآن من خُلُق و لا عملٍ ، و حتّى إنّ أحدهم ليقول : و الله ! لأقرأُ السّورةَ في نَفَسٍ واحدٍ ! و الله ! ما هؤلاء بالقرّاء و لا العلماء و لا الحكماء و لا الورعة ! و متى كان القرّاء يقولون مثل هذا ؟! لا كثّر الله في المسلمين من هؤلاء !! " .
و قد جعل الله آياته باهرةً ، و حُجَجه قاهرةً ، كلّما مرّ عليه زمن ازدادت حجّته في الظّهور ، و أيقنت الخليقة معه بالقصور ، و لقد تحدّى الله به أفصح العرب إنسهم و جنّهم على أن يأتوا بمثله فعجزوا و لو كانوا مجتمعين ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الِإنْسُ وَ الجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء : 88 ) ، بل تحدّاهم على أن يأتوا بعشر سورٍ مثله فقط فعجزوا ؛ قال الله عزّ وجلّ : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بَعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ ادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُم مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( هود : 13 ) ، بل تنزّل معهم إلى أن تحدّاهم بسورة واحدة ، فقال : ﴿ وَ إِنْ كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة : 23 ) ، وهذا تحدٍّ ما بعده تحدٍّ ! و لو لم يكن سواه لكفى إعجازًا للبشريّة ودلالةً لهم على صدق الرّسالة المحمّديّة ، وقد كان من فضل الله على النّاس أنّه ما يُرسِل رسولاً إلّا يظهر حجّته بإظهار معجزته ، وجعل لرسوله محمّد صلّى الله عليه وسلّم معجزاتٍ كثيرة ، أظهرها القرآن الكريم ؛ و لذلك روى البخاريُّ ( 4981 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبيّ صلّى الله عليه و سلّم : " ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، و إنّما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " ، قال ابنُ حجرٍ في " الفتح " ( 6/582 ) : " و أشهر معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلّم : القرآن ، لأنّه صلى الله عليه وسلّم تحدّى به العرب و هم أفصح النّاس لسانا ، وأشدّهم اقتدارا على الكلام بأن يأتوا بسورة مثله فعجزوا ، مع شدّة عداوتهم له و صدّهم عنه ! حتّى قال بعض العلماء : أقصر سورة في القرآن : ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ ( الكوثر : 1 ) ، فكلّ قرآن من سورة أخرى كان قدر ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ سواء كان آيةً أو أكثرَ أو بعضَ آيةٍ فهو داخلٌ فيما تحدّاهم به ، وعلى هذا فتصل من هذه الحيثيّة إلى عدد كثير جدّا ، و وجوه إعجاز القرآن من جهة حسن تأليفه و التئام كلماته و فصاحته و إيجازه في مقام الإيجاز ، وبلاغته ظاهرة جدّا ، مع ما انظمّ إلى ذلك من حسن نظمه و غرابة أسلوبه ، مع كونه على خلاف قواعد النّظم و النّثر ، هذا إلى ما اشتمل عليه من الإخبار بالمغيّبات ممّا وقع من أخبار الأمم الماضية ممّا كان لا يعلمه إلا أفراد من أهل الكتاب ، و لم يُعلم أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم اجتمع بأحد منهم و لا أخذ عنهم ، و بما سيقع فوقع على وفقِ ما أخبر به في زمنه صلّى الله عليه و سلّم و بعدَه ، هذا مع الهَيْبَة التي تقع عند تلاوته ، و الخشية التي تلحق سامعَه ، و عدم دخول الملال و السّآمة على قارئه و سامعه مع تيسُّر حفظه لمتعلّميه ، و تسهيل سرده لتاليهِ ، و لا ينكر شيئا من ذلك إلا جاهلٌ أو معاندٌ ، و لهذا أطلق الأئمّة أنّ معظم معجزات النّبيّ صلّى الله عليه وسلم القرآن ، و من أظهر معجزات القرآن إبقاؤه مع استمرار الإعجاز " .
و لا يزال التّحدي قائما إلى اليوم ، فعلى النّصارى و اليهود و المشركين أن يجمعوا بلاغيّيهم و شعراءهم و أدباءهم العرب ليأتوا بمثل سورة واحدة إن كانوا صادقين في تكذيب هذا الكتاب ! و هل يُعقل أن يأتي أُمّيٌّ من جزيرة العرب بكتاب يتحدّى به جموع قومه و فيهم الخطباء و البلغاء ، ثمّ يتحدّى أحفادهم و أحفاد أحفادهم إلى آخر زمن البشريّة ؟! و هل يُعقل أن يغلب رجلٌ واحدٌ ملايينَ الرّجال على مدى التّاريخ البشريّ ؟! قال ابنُ القيّم في " بدائع الفوائد " ( 4 /1547 - العمران ) : " إن حصل لكم ريب في القرآن و صدق من جاء به و قلتم : إنّه مفتعلٌ ، فأتوا و لو بسورة واحدة تُشبهه ، وهذا خطاب لأهل الأرض أجمعهم ، ومن المحال أن يأتي واحد منهم بكلام يفتعله و يختلقه من تلقاء نفسه ، ثمّ يطالب أهل الأرض بأجمعهم أن يعارضوه في أيسر جزء منه ، يكون مقداره ثلاث آيات من عدّة ألوف ، ثمّ تعجز الخلائق كلّهم عن ذلك ، حتّى إنّ الذين راموا معارضته كان ما عارضوه من أقوى الأدلّة على صدقه ، فإنّهم أتوا بشيء يستحي العقلاء من سماعه ، ويحكمون بسماجته و قبح ركاكته و خسّته ، فهو كمن أظهر طيبًا لم يَشمَّ أحد مثل ريحه قطّ ، وتحدّى الخلائق ملوكهم وسوقتهم بأن يأتوا بذرّةِ طيبٍ مثله ، فاستحى العقلاء و عرفوا عجزهم ، وجاء الحُمقانُ بعذرة منتنةٍ خبيثةٍ ، و قالوا : قد جئنا بمثل ما جئت به ، فهل يزيد هذا ما جاء به إلا قُوّةً و برهاناً و عَظَمةً و جلالةً ؟! "
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 07-05-2008
  • الدولة : البليدة
  • العمر : 37
  • المشاركات : 7,183
  • معدل تقييم المستوى :

    25

  • جمال البليدي is on a distinguished road
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
رد: من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد
04-07-2009, 10:05 AM
استنباطُ الأحكامِ و الفوائدِ من القُرْآنِ


مباحثُ القرآن مباحثُ شريفةٌ ، لا سيما ما كان منها في علم التّفسير ؛ فإنّ القرآن كلام الله ، و كلّما تبيّن لطالب العلم وجوه إعجاز الكلام ازداد تعظيماً للمتكلّم و عرفاناً بحقّه ، و أيقن أنّ هذا لا يقوله إلا حكيمٌ عليمٌ ، كما قال الله عزّ وجلّ : ﴿ وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( النّمل : 6 ) ، و إحكامُ الكلام يدلّ على حكمة المتكلّم و مَحْمَدته ؛ كما قال سبحانه : ﴿ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِِيزٌ . لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( فصّلت : 41 - 42 ) ، و هذا يتأتّى أكثرَ لمن آتاه الله قوّةَ الاستنباطِ و الفهمَ في كتاب الله ، أو هداه الله لمطالعة كتب الرّاسخين من أهل العلم في هذا الباب ؛ فإنّ كتاب الله مليئ بالدّرر ، بل كلّه دررٌ لا تقدّرُ بثمن ، و كلّ من أطلعه الله على شيء منها ازداد إيماناً ؛ قال الله عزّ و جلّ : ﴿ وَ إِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فأمَّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( التّوبة : 124 ) ، و أوفرُ نصيبٍ من هذه الزّيادة يكون لمن كان أسدّ اجتهادًا و أحسنَ استنباطاً ، قال ابنُ مسعودٍ : " من أراد العلم فليثوّر القرآن ؛ فإنّ فيه علم الأوّلين و الآخرين " أخرجه ابن المبارك في " الزّهد " (814 ) و ابن أبي شيبة ( 10067 - ط الهنديّة ) بإسناد صحيح ، على الرّغم من أنّ فيه أبا إسحاق السّبيعي و هو ثقة اختلط بآخره ، إلا أنّ الرّاوي عنه هنا هو سفيان الثّوريّ ، وهو أثبت النّاس فيه كما قال المزّيّ في " تهذيب الكمال " ( 22/109 ) ، و قالابن القيّم في " إعلام الموّقعين " ( 1/173 ) : " و قد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه ، و أخبر أنّهم أهل العلم ؛ و معلومٌ أنّ الاستنباط إنّما هو استنباط المعاني و العلل ، و نسبة بعضها إلى بعضٍ ، فيُعتبر ما يصحّ منها بصحّة مثله و مُشبِهِه و نظيره ، ويُلغى ما لا يصحّ ، هذا الذي يَعقله النّاس من الاستنباط ، قال الجوهريّ : الاستنباط كالاستخراج ، و معلوم أنّ ذلك قدر زائد على مجرّد فهم اللّفظ ، فإنّ ذلك ليس طريقةَ الاستنباط ؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تُنال بالاستنباط ، وإنّما تُنال به العلل و المعاني و الأشباه و النّظائر و مقاصد المتكلّم ، والله سبحانه ذمّ من سمع ظاهرا مجرّدا فأذاعه و أفشاه ، و حمد من استنبط من أوّلِ العلم حقيقتَه و معناه (1) ، و يوضّحه أنّ الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه ، و منه استنباط الماء من أرض البئر و العين ، و من هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه و قد سُئل : ( هل خصّكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء دون النّاس ؟ فقال : لا ! و الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة ! إلا فهماً يؤتيه الله عبدا في كتابه ) (2) ، و معلوم أنّ هذا الفهمَ قدر زائد على معرفة موضوع اللّفظ و عمومه أو خصوصه ؛ فإنّ هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب ، و إنّما هذا فهم لوازم المعنى و نظائره و مراد المتكلّم بكلامه و معرفة حدود كلامه ، بحيث لا يَدخل فيها غير المراد ، و لا يَخرج منها شيء من المراد " ، ثمّ ضرب بعض الأمثلة لذلك ، ثمّ قال : " و فهم هذا القدر زائد على فهم مجرّد اللّفظ و وضعه في أصل اللّسان ، و الله المستعانُ ، و عليه التّكلانُ و لا حول و لا قوّة إلا بالله " .


_______________________
(1) : يريدُ قولَ الله عزّ و جلّ : { وَ إِذَا جَاَءَهُمْ أَْمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } ( النّساء : 83 ) .
(2) : أخرجه البخاريّ ( 3047 ) .
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية امين عبد الرؤوف
امين عبد الرؤوف
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 03-05-2009
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 1,338
  • معدل تقييم المستوى :

    18

  • امين عبد الرؤوف is on a distinguished road
الصورة الرمزية امين عبد الرؤوف
امين عبد الرؤوف
عضو متميز
رد: من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد
04-07-2009, 09:54 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك اخي جمال وجزاك الله خيرا على ما افدتنا به
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 07-05-2008
  • الدولة : البليدة
  • العمر : 37
  • المشاركات : 7,183
  • معدل تقييم المستوى :

    25

  • جمال البليدي is on a distinguished road
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 07-05-2008
  • الدولة : البليدة
  • العمر : 37
  • المشاركات : 7,183
  • معدل تقييم المستوى :

    25

  • جمال البليدي is on a distinguished road
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
رد: من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد
07-07-2009, 08:36 PM
أنواعُ التّفسيرِ


اختلفت مناهجُ المفسّرين للقرآن الكريم ، فمنهم من عُمدته الرّأيُ ، و منهم من عُمدته اللّغة العربية ، و منهم من عمدته الإشاراتُ الخفيّة و المعاني الباطنيّة ، و أسعدُهم بالحقّ من عمدته الأثرُ ، فيفسّر القرآن بالقرآن ، ويفسّره بالسّنّة ، ويفسّره بآثار السّلف ، مع ما آتاه الله عزّ وجلّ من معرفة واسعةٍ باللّسان العربي ، فمن جمع الله له علم هذه المناحي الأربعة فقد جمع له أسباب التّوفيق إلى إصابة المعنى الصّحيح من كلام الله إن شاء الله ، مع ما يكون عليه من سلامة معتقدٍ و فقهٍ في الدّين وتقوًى لله ربّ العالمين ، و قد يكون ضليعًا في اللّغة ضعيفًا في الاطّلاع على الأثر فيفوته خيرٌ كثير ، فإنّ اللّغة واسعةٌ ذات مفرداتٍ متشعّبة المعاني ، و قد يوجد في القرآن أو في السنّة ما يُعيِّن إحدى مفردات اللّفظ القرآنيّ و هو لا يدري ، أو يكونُ للصحّابيّ علمٌ بالقرائن الحاليّة للتّنزيل المعِينة على صحيح التّأويل فيخفى ذلك على غيره ، أو يكون قد انطلق من بعض القواعد القرآنيّة الجامعة ، ويكون اللّغويُّ غيرَ مطّلعٍ عليها ، فيخالف السّلف ظنّاً منه أنّ الوضعَ اللّغويَّ وحده كافٍ لأن يقول في كتاب الله ما قال .
و قد يكون المنتصبُ للتّفسير متخصّصاً في العلوم الكونيّة لكنَّ بضاعته الشّرعيّةَ مزجاةٌ ، فيتخيَّلُ في كلّ آية ما يسمّى اليومَ ب ( الإعجازِ العلميِّ ) ، حتّى الصّلاة فقد يفسّرها برياضةٍ بدنيّةٍ !! فتضيعُ حلاوةُ العبادة وهَيْبَةُ الخشوع و القرب من الله بين أحضان مثل هذا التّفسير المادّيّ ، و قد رأينا من فسّر القرآن كلَّه على هذا النّمط ، فحوّل هذا الكتاب الهادي إلى كتاب مادّي ، و حرّف معانيَ آياته بحسَب تأثّره بأوهام المدنيّة الحديثة .
و قد يكون المنتصب للتّفسير خرافيَّ المعتقد ، فيلحد في آيات الكتاب ، و يلصق بها من الخرافات العجبَ العُجاب !!
و الموفّقُ من راعى تلك الأصول التي بدأنا بها هذا الفصل ، فجعل اللّغة بين يديه ، وتفاسير السّلف نصب عينيه ، مع معرفته بصحيحها من سقيمها ؛ فإنّ القوم قد عرفوا عن الله و رسوله ما لم يعرفه غيرهم إلا من كان من مشربهم ينهلُ ، و قد أيّدهم الله بالتّوفيق و إصابة الحقّ لما كانوا عليه من أسباب التقوى و حسن الدّيانة .
و كلامنا هنا مرتبط بالاستنباط أكثر منه بالتّفسير، وهما – و إن كانا قريبين – إلا أنّ الاستنباط أخصُّ ، وأهله أخصّ ، و لذلك فإنّ باب الاستنباط من الكتاب و السّنة غير مُشرَعٍ للجميع ؛ فإنّ من دخل فيما لا يحسنُ أفسد أكثر ممّا يتوهّم أنّه يصلح ، كما أنّ من دخل في غير فنّه أتى بالعجائب ، و قد رأيتُ لابن القيّم رحمه الله كلمةً جامعةً بيّن فيها اختلاف النّاس في أصول تفاسيرهم ، وبيّن أيضا الاحترازات التي ينبغي أن يراعيَها من لاح له معنى في كتاب الله ، فقال في " التّبيان في أقسام القرآن " ( 1/50 ) : " و تفسير النّاس يدور على ثلاثة أصول :
1 - تفسير على اللّفظ ، و هو الذي ينحو إليه المتأخّرون .
2 - و تفسير على المعنى ، وهو الذي يذكره السّلف .
3 - و تفسير على الإشارة و القياس ، و هو الذي ينحو إليه كثير من الصّوفية و غيرهم ، و هذا لا بأس به بأربعة شرائط :
- أن لا يناقض معنى الآية .
- و أن يكون معنًى صحيحا في نفسه .
- و أن يكون في اللّفظ إشعار به .
- و أن يكون بينه و بين معنى الآية ارتباطٌ وتلازمٌ .
فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطاً حسناً " و انظر " الموافقات " للشاطبيّ ( 3/394 ) .
و هذا الذي قوّاه ابن القيّم في حسن الاستنباط في تأويل كلام الله يقوم على دِعامة الفقه [ في ] الدّين ، وقد جمعهما الرّسول صلى الله عليه و سلّم لحبر هذه الأمّة عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما في دعائه له بقوله : " اللهمّ فقّهه في الدّين وعلّمه التأويل " رواه أحمد ( 1/266 ) بإسناد صحيح ، فكان ابن عبّاس من المحلّ المعروف في التّفسير خاصّة .
ثمّ إنّ للاستنباط طُرقًا شتّى .
فقد يعتمد صاحبه على التّقاسيم و النّظائر ، كأن يقول : جمعت هذه الآية بين العلم والعمل ، أو يقال : جمعت بين أصول الإيمان الستّة ، أو يقول : جمعت هذه الآية بين حقوق الله وحقوق العباد ، أو يقول : هي على قاعدة التّحذير من مرض الشّبهة ومرض الشّهوة ، إلى غير ذلك ممّا يعرفه المطّلع على القواعد الشّرعيّة و الأصول الجامعة .
و قد يعتمد المستنبط على قرائن الأحوال جمعا بينها و بين الأهداف الكلّية ، كما في تفسير ابن عبّاس لسورة النّصر ، فقد روىالبخاريُّ ( 4294 ) عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لِمَ تدخل هذا الفتى معنا و لنا أبناء مثله ؟ ! فقال : إنّه ممّن قد علمتم ! قال : فدعاهم ذات يوم و دعاني معهم ، قال : و ما أُريتُه دعاني يومئذٍ إلا ليُريَِهم منّي ، فقال : ما تقولون في ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الفَتْحُ . وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا ( النّصر 1 – 2 ) حتّى ختم السّورةَ ، فقال بعضهم : أُمرنا أن نحمد الله و نستغفره إذا نصَرَنا و فَتَح علينا ، و قال بعضهم : لا ندري ، أو لم يقل بعضهم شيئا ، فقال لي : يا ابن عبّاس ! أَكذاكَ تقول ؟ قلت : لا ! قال : فما تقولُ ؟ قلت : هو أجلُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه الله له ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الفَتْحُ : فتحُ مكَّةَ ، فذاك علامة أجلك ، ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ، قال عمر : ما أعلمُ منها إلا ما تعلمُ " .
فأين يجد المرء في هذه السّورة ذكرًا للأجل لولا توفيقُ الله لمن شاء من عباده ؟! فنقول كما قال ابن القيّم في " بدائع الفوائد " ( 1/338 – العمران ) في مناسبة أخرى : " فهل خطر ببالك قطُّ أنّ هذه الآية تتضمّن هذه العلوم و المعارف مع كثرة قراءتك لها و سماعك إيّاها ، و هكذا سائر آيات القرآن فما أشدّها من حسرة و أعظمها من غَبنة على من أفنى أوقاتَه في طلب العلم ، ثمّ يخرج من الدّنيا و ما فهمَ حقائق القرآن و لا باشر قلبُه أسراره و معانيَه ، فالله المستعان " ، و قال في " مدارج السالكين " ( 1/43 ) : " فالفهم عن الله ورسوله عنوان الصّديقيّة و منشور الولاية النّبويّة ، و فيه تفاوتت مراتب العلماء حتّى عُدّ ألفٌ بواحدٍ ! فانظر إلى فهم ابن عبّاس و قد سأله عمر و من حضر من أهل بدر عن سورة ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الفَتْحُ و ما خُصّ به ابن عبّاس من فهمه منها أنّها نعي الله سبحانه نبيَّه إلى نفسه و إعلامه بحضور أجله ، و موافقة عمر له على ذلك ، و خفائه عن غيرهما من الصّحابة ، و ابن عبّاس إذ ذاك أحدثُهم سِنًّا ! و أين تجد في هذه السّورة الإعلامَ بأجله لولا الفهمُ الخاصّ ؟! و يدِقّ هذا حتّى يصل إلى مراتبَ تتقاصر عنها أفهام أكثر النّاس ، فيحتاج مع النّص إلى غيره ، و لا يقع الاستغناء بالنّصوص في حقّه ، وأمّا في حقّ صاحب الفهم فلا يحتاج مع النّصوص إلى غيرها " .
و قد بيّن ابن تيمية أنّ وجه ذلك كامنٌ في لفظ الاستغفار في قوله : ﴿ وَ اسْتَغْفِرْهُ الّذي عُلم باستقراء نصوص الشّريعة أنّه يجيء في خاتمة الأعمال ، مع مناسبة إنهاء النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم وظيفتَه التي أُرسل لتحقيقها ، فقال في " مجموع الفتاوى " ( 16/418 ) : " و هذا باطن الآية الموافق لظاهرها ؛ فإنّه لمّا أُمر بالاستغفار عند ظهور الدّين – والاستغفار يِؤمر به عند ختام الأعمال ، و بظهور الدّين حصل مقصود الرّسالة – علموا أنّه إعلامٌ بقرب الأجل مع أمور أُخَر ، و فوق كلّ ذي علمٍ عليمٌ ، و الاستدلال على الشّيء بملزوماته ، والشّيء قد يكون له لازمٌ ، وللازمِه لازمٌ ، و هلمّ جرّا ، فمن النّاس من يكون أفطنَ بمعرفة اللّوازم من غيره يستدلّ بالملزوم على اللاّزم ... " .
ومنهم من يعتمد على جمع الآيات في الموضوع الواحد ليستنبط منها حكما خفيّا لو أخذت كلّ آية على حدة ، كما في قوله تعالى : ﴿ وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ( الأحقاف : 15 ) ، فقد جعل الله هذه المدّة للحمل و الفصال ، والفصالُ هو فطام الولد عن لبن أمّه ، و هذا يكون بعد أربعٍ و عشرينَ شهرا ؛ لقول الله عزّ وجلّ : ﴿ وَ الوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( البقرة : 233 ) ، فإذا طرحنا مدّة الفصال من مجموع ثلاثين شهرا نتج لنا مدّة الحمل التي هي ستّة أشهر ، فقال العلماء : هذه أقلّ مدّة الحمل ، وقد رواه ابن جرير في " تفسيره " ( 2/491 ) و ابن أبي حاتم أيضا ( 18567 ) و الحاكم ( 2/308 ) و البيهقيّ ( 7/442 ) عن ابن عبّاس بإسناد صحيح ، وهذا استدلال بدلالة مجموع أدلّة القرآن ، كما ذكر الآمديّ في " الإحكام في أصول الأحكام " ( 3/73 ) ، وقال ابن كثير في تفسير آية الأحقاف السّابقة بعد أن نسب ذاك الاستنباط لعليّ رضي الله عنه : " وهواستنباط قويٌّ صحيح ، و وافقه عليه عثمان و جماعة من الصّحابة رضي الله عنهم " ، و قال ابن عبد البرّ في " الاستذكار " ( 7/493 ) : " لا أعلم خلافا بين أهل العلم فيما قاله عليّ و ابن عبّاس في هذا الباب في أقلّ الحمل ، وهو أصل و إجماع ، و في الخبر بذلك فضيلة كبيرة و شهادة عادلة لعليّ و ابن عبّاس في موضعهما من الفقه في دين الله عزّ و جلّ و المعرفة بكتاب الله عزّ و جلّ " .
و فيه قصّة رواها عبد الرّزّاق ( 13449 ) و ابن شبّة في "أخبار المدينة " ( 1691 ) ) بإسناد صحيح عن نافع بن جبير أنّ ابن عبّاس أخبره قال : " إنّي لصاحب المرأة التي أُتي بها عمرُ وضعت لستّة أشهر ، فأنكر النّاس ذلك ، فقلت لعمر : لم تظلم ؟ فقال : كيف ؟ قال : قلت له : اقرأ : ﴿ وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ، و قال :﴿ وَ الوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ، كم الحولُ ؟ قال : سنة ، قال : قلت : كم السّنة ؟ قال : اثني عشر شهرا ، قال : قلت : فأربعة و عشرون شهرا حولان كاملان ، ويؤخَّر من الحمل ما شاء الله و يقدَّم ، فاستراح عمر إلى قولي " .
و قد وقعت أيضا بين ابن عبّاس و عثمان رضي الله عنهما ، فقد روى عبد الرّزّاق ( 13446 ) و ابن شبّة في " أخبار المدينة " (1688 ) و ( 1690 ) و ابن جرير في " تفسيره ( 2/491 ) و ابن وهب و إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " كما في " التّلخيص الحبير " لابن حجر ( 3/ 219 ) بإسناد صحيح عن أبي عبيد مولى عبد الرّحمن ابن عوف قال : " رفعت إلى عثمان امرأةٌ ولدت لستّة أشهر ، فقال : إنّها رفعت إليّ امرأة – لا أُراه إلا قال - : و قد جاءت بشرٍّ أو نحو هذا ، ولدت لستّة أشهر ، فقال ابن عبّاس : إذا أتمّت الرَّضاع كان الحمل ستّة أشهر ، قال وتلا ابن عبّاس : ﴿ وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ، فإذا أتمّت الرّضاع كان الحمل ستّة أشهر " ، وصحّحها ابن حجر في المصدر المذكور .
و في لفظ رواه عبد الرّزّاق ( 13447 ) و سعيد بن منصور في " سننه " ( 2705 ) و ابن شبّة ( 1689 ) عن قائد ابن عبّاس قال : " أتي عثمان بامرأة ولدت في ستّة أشهر ، فأمر برجمها ، فقال ابن عبّاس : ادنوني منه ، فلمّا أَدْنَوه منه : قال : إنّها إن تخاصِمْك بكتاب الله تَخْصِمك ؛ يقول الله تعالى ﴿ وَ الوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ، ويقول الله في آية أخرى : ﴿ وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ، فقد حملته ستّة أشهر ، فهي ترضعه لكم حولين كاملين ، قال : فدعا بها عثمان فخلّى سبيلها " .
و وردت رواياتٌ أخرى فيها أنّ ذلك وقع بين عليّ و عمر رضي الله عنهما ، أخرجها عبد الرّزّاق ( 13443 - 13444 ) و ( 13448 ) و سعيد بن منصور ( 2074 ) و ابن شبَّة ( 1692 ) و البيهقي ( 7/442 ) .
و في أخرى أنّ ذلك كان بين عليّ و عثمان رضي الله عنهما ، أخرجها ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 18566 ) و ابن شبّة ( 1693 ) و البيهقي ( 7/442 ) ، والله أعلم .
و قد يعتمد المستنبط على النّظر في السّياق و السّباق ، وكان هذا النّوع أيضا معروفا عند السّلف ؛ فقد روى عبد الرّزاق ( 5988 ) عن إبراهيمَ النّخعي قال : قال ابن مسعود : " إذا سأل أحدكم صاحبَه كيف يقرأ آية كذا و كذا ، فليسأله عمّا قبلها " ، و هو صحيح ؛ لأنّه من رواية إبراهيم عن ابن مسعود ، و قد صحّحوها كما في " شرح علل التّرمذي " لابن رجبٍ ( 1/556 ) ، و روى أبو عبيدٍ القاسمُ بن سلاَّم في " فضائل القرآن " ( ص 377 ) و ابن أبي شيبة ( 35588 ) و أبو نعيمٍ ( 2/292 ) عن مسلم بن يسار رحمه الله قال : " إذا حدَّثتَ حديثًا ، فقف حتّى تنظر ما قبله و ما بعده "
ومن لم يفعل ذلك يوشكُ أن يضرب القرآنَ بعضه ببعض و يفهمه فهمًا غلطًا ، بل جلُّ البدع ظهر بسبب الأخذ ببعض الآيات و إغفال البعض الآخر ، ومثاله ما في قصّة جابر رضي الله عنه مع الخوارج الذين فارقوا الصحابة رضي الله عنهم و ظنّوا أنّهم أفهمُ لكتاب الله منهم ، فأخذوا ببعض الآيات التي ظاهرها التّكفير بالكبيرة وعزلوها عن أخواتها الأخرى ، ومن ذلك أنّهم فسّروا خطأً قوله تعالى : ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَ لَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( المائدة 37 ) على أنّ ذلك في حقّ كلّ من دخل النّار مسلما كان أو غير مسلم ، ففي " تفسير ابن كثير " أنّه قال عند هذه الآية : " روى ابن مردويه من طريق المسعودي عن يزيد بن صهيب الفقير عن جابر بن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال : ( يخرجُ من النّار قومٌ فيدخلون الجنّة ) ، قال : فقلت لجابر بن عبد الله : يقول الله :﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا ! قال : اتلُ أوّل الآية :﴿ إِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ الآية ( المائدة 36 ) ، ألا إنّهم الّذين كفروا " ، أي إنّ أوّل الآية يدلّ على أنّ ما بعدها – الّذي هو الخلود في النّار – خاصّ بالكفّار .
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 07-05-2008
  • الدولة : البليدة
  • العمر : 37
  • المشاركات : 7,183
  • معدل تقييم المستوى :

    25

  • جمال البليدي is on a distinguished road
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
رد: من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد
07-07-2009, 08:37 PM
أمثلةٌ منَ التّفسير الإشاريّ المنحرف


أمّا التّفسيرُ الإشاريُّ الذي جاء في كلام ابن القيّم السّابق ، فقد اشتهر به الصّوفيّة ، و منه ما هو صحيحٌ ، و هو ما اشتمل على ما ذكَره رحمه الله ، و منه ما هو تحريفٌ محضٌ لكتاب الله و لعبٌ بألفاظ الدّين و تقوُّلٌ على الله بغير علم ، كاستنباط بعضهم من قصّة موسى مع الخضر عليهما السّلام أنّه يسع الأولياء الصّالحين الخروج عن دين الأنبياء عليهم السّلام !! أو القول بأنّ للقرآن ظهرًا و بطنًا ، و يمثّل أهل هذا الاتّجاه لهذه الضّلالة بقوله تعالى :﴿ وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ( الحجّ : 26 ) ؛ فقد قالوا : ظاهرُ الآية دالٌّ على الكعبة ، وباطنها دالّ على قلب المؤمن الذي أكرمه الله و جعله محلَّ معرفته !! قالأبو بكر بن العربي رحمه الله في " قانون التّأويل " ( ص 539-540 ) بعد أن بيّن المراد بالبيت في الآية و ردّ على من قال : لا حظّ للكعبة في تفسير البيت ، قال : " و لو هُديت لهذا الفرقةُ الضّالّة من الشّيعة و الباطنيّة لما كانت عن سبيل الحقّ ناكبةً و قالت : إنّ المراد بقوله : ﴿ وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ القلبَ و لا حظّ للكعبة فيه !! و لكنّه كما أخبر تعالى عنه : ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إَلاَّ الفَاسِقِينَ ( البقرة : 26 ) " .
و قالالشّاطبيّ رحمه الله في " الموافقات " ( 3/401 ) فيما انتقده على بعضهم : " و مِن ذلك أنّه قال في قوله تعالى : ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ( آل عمران : 96 ) الآية : باطنُ البيت قلب محمّدٍ صلّى الله عليه و سلّم يؤمنُ به من أثبتَ الله في قلبه التّوحيدَ و اقتدى بهدايته !! و هذا التّفسير يحتاج إلى بيانٍ ؛ فإنّ هذا المعنى لا تعرفه العربُ ، ولا فيه من جهتها وضعٌ مجازيٌّ مناسبٌ ، و لا يلائمه مساقُ الحال ، فكيف هذا ؟! و العذر عنه أنّه لم يقع فيه ما يدلّ على أنّه تفسير للقرآن ، فزال الإشكال إذًا ، و بقي النّظر في هذه الدّعوى ، و لا بدّ – إن شاء الله – من بيانها " ، و قال أيضا ( 3/402-403 ) : " و نُقل في قوله تعالى : ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( طه : 12 ) أنّ باطن النّعلين هو الكونان : الدّنيا و الآخرة ، فذُكر عن الشّبلي أنّ معنى ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ اخلع الكلّ منك تصل إلينا بالكلّيّة ، و عن ابن عطاء : ﴿ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ عن الكون فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب ، وقال : النّعلُ : النّفس ، والوادي المقدّس : دينُ المرء ، أي حان وقت خُلوّك من نفسك و القيام معنا بدينك ، وقيل غير ذلك ممّا يرجع إلى معنىً لا يوجد في النّقل عن السّلف ، و هذا كلّه إن صحّ نقله خارج عمّا تفهمه العرب ، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه ، ولقد قال الصّدّيقُ : أيّ سماء تظلّني و أيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟! و في الخبر : ( من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ) (1) ، و ما أشبهَ ذلك من التّحذيرات " .
و قال ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " ( 6/412 ) في تفسير قول الله تعالى :﴿ وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَ لَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ( البقرة : 260 ) قال : " و حكى ابنُ التّين عن بعض من لا تحصيل عنده أنّه أراد بقوله : ﴿ قَلْبِي رجلا صالحا كان يصحبه سأله عن ذلك !! و أبعدَ منه ما حكاه القرطبيّ المفسّر عن بعض الصّوفيّة أنّه سأل مِن ربّه أن يُريه كيف يحيي القلوبَ !!! " .
و أضلّ منهم سعيًا و أسوأ منهم هديًا من زعم أن محمّدا صلّى الله عليه و سلّم ليس آخرَ الأنبياء ، فلمّا تُلي عليه قوله تعالى : ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَ خَاتَمَ النَّبِيَّينَ وَ كَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( الأحزاب : 40 ) ، ذهب يفسّر كلمة ( خَاتَم ) هنا بخَاتَم الزِّينة ، أي إنّه صلّى الله عليه و سلّم زينة الأنبياء ، كما أنّ الخاتم الّذي يُلبس هو زينة أصابع اليد !!
و كذا من فسّر بقرة بني إسرائيل بعائشةَ رضي الله عنها ، وذلك في قول الله عزّ و جلّ : ﴿ وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ( البقرة : 67 ) !! فأيّ عقل يقبل هذه السّخافةَ الرّافضيّة ؟! و أين كانت عائشةُ رضي الله عنها يوم خاطب موسى صلّى الله عليه و سلّم قومه بهذا ؟! و مَن فسَّر قولَه عزّ وجلّ : ﴿ مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( الرّحمن : 19 ) بعليٍّ وفاطمةَ رضي الله عنهما !! و قولَه عزّ وجلّ ﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ المَرْجَانُ ( الرّحمن : 22 ) بالحسن والحسين رضي الله عنهما !! و مَن فسّر قولَه عزّ وجلّ : ﴿ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ بفاطمةَ رضي الله عنها !! و قولَه : ﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ بالحسن رضي الله عنه !! و قولَه : ﴿ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ بالحسين رضي الله عنه !! ومن فسّر النّورَ الذي في قوله عزّ وجلّ : ﴿ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ( النور : 35 ) بأئمّة الشّيعة الرّوافض ، فقال : " يهدي الله للأئمّة من يشاء " !!! و انظر لهذه العجائبِ كتابَ " الأصول من الكافي " للكُلَيني ( 1/194 ) الذي قيل عنه : إنّه للشّيعة الرّوافض كصحيح البخاريّ لأهل السّنّة ، وقارن بينهما كما تقارن بين الهدى و الضّلال لتعرف نعمة السّنّة عليك ! بل قارن بينهما كما تقارن بين العقل و الجنون لتعرف نعمة العقل عليك ! و حينما تقرأ هذه التّرّهات ، فإنّك لا تدري : أَأَنتَ تقرأ القرآن العربيّ المبينَ بلغته ، أم تقرؤه بلغةٍ لم تدرَّس لا عند الجنّ و لا عند الإنس !! قال الشاطبيّ في " الموافقات " ( 3/391-392 ): " كلّ معنىً مستنبطٍ من القرآن غير جارٍ على اللّسان العربيّ فليس من علوم القرآن في شيء ، لا ممّا يستفاد منه ، و لا ممّا يستفاد به ، ومن ادّعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطلٌ ... و من أمثلة هذا الفصل ما ادّعاه من لا خلاق له من أنه مسمًّى في القرآن " ، وكان ممّا مثلّ له أن قال رحمه الله : " و حكى بعض العلماء أنّ عبيد الله الشّيعيّ المسمّى بالمهدي حين ملك إفريقية و استولى عليها ، كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره ، وكان أحدهما يسمّى بنصر الله ، والآخر بالفتح ، فكان يقول لهما : أنتما اللّذان ذكركما الله في كتابه ، فقال : ﴿ إِذَا َجَاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الفَتْحُ !!! قالوا : و قد كان عمل ذلك في آياتٍ من كتاب الله تعالى ، فبدّل قوله : ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران : 110 ) بقوله : ( كتامَةُ خير أمّة أخرجت للنّاس ) !!! ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا ؛ لأنّ المتسمِّيَّينِ بنصر الله و الفتح المذكورين إنّما وُجدا بعد مئين من السّنين من وفاة رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، فيصيرُ المعنى : إذا مِتَّ يا محمّد ! ثمّ خُلق هذان ، و رأيت النّاس يدخلون في دين الله أفواجا فسبّح ، الآية ! فأيّ تناقضٍ وراء هذا الإفك الّذي افتراه الشيعيّ ؟! قاتله الله ! " .
و ما تركته أكثرُ ممّا مثّلتُ به ، وكلّ من يطّلع على هذه السّخافات من أيّ دين كان ، يحمد الله على سلامته من الدّخول في دين كهذا ، بل لن تحدّثه نفسُه أبدا بالالتفات إلى كتابٍ مشتمل على هذه المعاني التي لن تكون إلى هداية النّاس بسبيلٍ .

____________________
(1) : أخرجه أبو داود ( 3652 ) و التّرمذيّ (2952 ) بإسناد ضعفّه فيهما الألبانيّ .
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية امين عبد الرؤوف
امين عبد الرؤوف
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 03-05-2009
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 1,338
  • معدل تقييم المستوى :

    18

  • امين عبد الرؤوف is on a distinguished road
الصورة الرمزية امين عبد الرؤوف
امين عبد الرؤوف
عضو متميز
رد: من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد
07-07-2009, 10:49 PM
الاستنباط إنّما هو استنباط المعاني و العلل
حزاك الله خيرا
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
  • تاريخ التسجيل : 07-05-2008
  • الدولة : البليدة
  • العمر : 37
  • المشاركات : 7,183
  • معدل تقييم المستوى :

    25

  • جمال البليدي is on a distinguished road
الصورة الرمزية جمال البليدي
جمال البليدي
شروقي
رد: من كُتُب علوم القرآن : " من كلّ سورة فائدة " للشيخ عبد الملك رمضاني ..متجدد
08-07-2009, 04:56 PM
سورةُ الفاتحة

اشتمالهُا على شفاءِ القلوبِ و شفاءِ الأبدانِ



قال الله تعالى : ﴿بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (1) ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ (2) ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (3) مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَ لاَ ٱلضَّآلينَ (7)

خلقَ اللهُ الإنسان ضعيفاً لتقوى صلته بالقويّ المتين سبحانه ، فيطلبُه عند الضّعف ، و يستعين به عند العجز ، و يستبينُ به الطّريقَ عند التّيهِ ، بل يذكره في رخائه كما يذكره في شدّته و حاجته ، وكان من ضعف الإنسان انزعاجُ قلبه واضطرابُه و وحشتُه ، فجعل الله في ذكره سبحانه الطُّمأنينة و السّكينة و راحة النّفس ، كما قال : ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ( الرّعد : 28 ) ، والقرآن من ذكر الله ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ وَ هَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( الأنبياء : 50 ) ، بل هو أصل الذّكر ، ولذلك ذكره الله معرّفا بالألف و اللام في قوله : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر : 9 ) .
و لمّا كان ذكر الله شفاءً للقلوب ، ولمّا كان القرآن أصلَ الذّكر و أفضلَه ، جعل الله عزّ وجلّ القرآن كلّه شفاءً للمؤمنين ، فقال : ﴿ وَ نُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَ رَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ( الإسراء 82 ) ( مِن ) هنا للجنس و ليست للتّبعيض ، قاله ابن الجوزي في " منتخب قرّة العيون النّواظر في الوجوه والنّظائر " عند كلامه على كلمة ( مِن ) ، و قال ابن القيّم في " زاد المعاد " ( 4/177 ): " و من المعلوم أنّ بعض الكلام له خوّاص و منافع مجرّبة ، فما الظنّ بكلام ربّ العالمين الذي فضلُه على كلّ كلام كفضل الله على خلقه ، الذي هو الشفاء التّامُّ و العصمة النّافعة و النّور الهادي و الرّحمةُ العامَّة ، الذي لو أُنزل على جبل لتصدّع من عظمته و جلالته ، قال تعالى : ﴿ وَنُنَزلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَ رَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ( الإسراء : 82 ) ، و ( مِن ) ههنا لبيان الجنس لا للتّبعيض ، هذا أصحّ القولين " ؛ لأنّ القرآن كلَّه شفاءٌ ، بدليل قول الله عزّ وجلّ : ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ( فصلت : 44 ) ، و قوله :﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ من رَّبكُمْ وَ شِفَآءٌ لمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَ هُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ ( يونس : 57 ) .

أنواع الأمراض :
قال ابن القيّم في " زاد المعاد " ( 4/5-7 ) : " المرض نوعان : مرض القلوب ، ومرض الأبدان ، وهما مذكوران في القرآن .
و مرض القلوب نوعان : مرض شبهة و شكّ ، ومرض شهوة وغيّ ، وكلاهما في القرآن ، قال تعالى في مرض الشبهة :﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً ( البقرة : 10 ) ، وقال تعالى :﴿ وَ لِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ ٱلْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً ( المدّثّر : 31 ) ، و قال تعالى في حقّ من دُعي إلى تحكيم القرآن والسّنّة فأبى و أعرض :﴿ وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ منْهُمْ مُّعْرِضُونَ (48) وَ إِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ( النور : 48 - 50 ) ، فهذا مرض الشّبهات و الشّكوك .
و أمّا مرضُ الشهوات ، فقال تعالى : ﴿ يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ منَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ( الأحزاب : 32 ) ...
فأمّا طبُّ القلوب فمسلَّمٌ إلى الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلاّ من جهتهم و على أيديهم ؛ فإنّ صلاحَ القلوب أن تكون عارفةً بربّها و فاطرها ، وبأسمائه و صفاته و أفعاله و أحكامه ، و أن تكون مُؤْثِرَةً لمرضاته و محابِّه ، متجنّبة لمناهيه و مساخطه ، و لا صحّة لها و لا حياة البتَّةَ إلاّ بذلك ، و لا سبيل إلى تلقّيه إلاّ من جهة الرّسل ، و ما يُظنُّ من حصول صحّة القلب بدون اتّباعهم فغلطٌ ممّن يظنُّ ذلك ، و إنّما ذلك حياةُ نفسه البهيمية الشّهوانيّة و صحّتُها و قوّتها ، و حياة قلبه و صحّته و قوّته عن ذلك بمعزلٍ ، و من لم يميّز بين هذا و هذا فليَبْكِ على حياة قلبه ؛ فإنّه من الأموات ، وعلى نوره ؛ فإنّه منغمس في بحار الظّلمات " .

شفاءُ سورةِ الفاتحة للقلوب :
بعد أن عرفنا أنّ الله عزّ وجلّ جعل الشّفاء في كتابه الكريم كلّه ، فليُعلم أنّ الله عزّ وجلّ خصّ سورًا و آياتٍ من كتابه بزيادةٍ في خاصّيّة الشّفاء و التأثير ، منها سورة الفاتحة ، فقد ذكر الله فيها المنعمَ عليهم أصحابَ الصراط المستقيم الذين عرفوا الحقّ وعملوا به ، و قابلهم بمن انحرف عن ذلك ، وهم أمّتان : اليهودُ الذين عرفوا الحقّ و تركوا العمل به بسبب مرض الشهوات خاصّةً ،و إن كانوا لا يسلَمون من الشّبهات، و النّصارى الذين ضلّوا عن معرفة الحقّ بسبب الشّبهات خاصّةً ، و إن كانوا لا يسلَمون من الشّهوات ، قال ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين " ( 1/52-55 ) : " فأمّا اشتمالها على شفاء القلوب ، فإنّها اشتملت عليه أتمّ اشتمال ؛ فإنّ مدارَ اعتلال القلوب و أسقامها على أصلين ، فسادُ العلم ، و فسادُ القصد ، و يترتّب عليهما داءان قاتلان و هما الضّلالُ و الغضبُ ، فالضّلال نتيجة فساد العلم ، و الغضب نتيجة فساد القصد ، و هذان المرضان هما مِلاك أمراض القلوب جميعها ، فهداية الصّراط المستقيم تتضمّن الشّفاء من الضّلال ، و لذلك كان سؤالُ هذه الهداية أفرضَ دعاءٍ على كلّ عبد و أوجبَه عليه كلّ يوم و ليلة في كلّ صلاة ؛ لشدّة ضرورته و فاقته إلى الهداية المطلوبة ، و لا يقوم غير هذا السّؤال مقامَه ... " .
و قال في " زاد المعاد " ( 4/178 ) : " و بالجملة فما تضمّنتهُ الفاتحة من إخلاص العبودية و الثناء على الله ، و تفويض الأمر كلّه إليه و الاستعانة به و التّوكّل عليه ، و سؤالِه مجامعَ النّعم كلّها ، وهي الهداية التي تجلب النّعمَ و تدفعُ النّقمَ ، من أعظم الأدوية الشّافية الكافية ، و قد قيل إنّ موضع الرّقية منها :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، و لا ريب أنّ هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدّواء ؛ فإنّ فيهما من عمومِ التّفويضِ و التوكّلِ و الالتجاءِ و الاستعانةِ و الافتقارِ و الطّلبِ " .
ثم أجمل هذا في كلمة جامعة نافعة ، فبيّن أنّ هذه الآية اشتملت على : " الجمع بين أعلى الغايات و هي عبادة الرّبّ وحده ، و أشرف الوسائل و هي الاستعانةُ به على عبادته ... " ، و قد فصّل رحمه الله في الموضع السّابق من كتابه " مدارج السالكين " فقال : " و لا شفاء من هذا المرض إلا بدواء ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ . . . فإذا ركَّبَها الطّبيبُ اللطيف العالم بالمرض و استعملها المريض حصل بها الشّفاء التّامّ ، وما نقص من الشّفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر ، ثمّ إنَّ القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبدُ تراميا به إلى التّلف و لا بدّ ، و هما الرّياءُ و الكبرُ ، فدواء الرّياء ب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، ودواء الكبرِ ب ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ تدفع الرّياء ،﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ تدفع الكبرياء ، فإذا عوفي من مرض الرياء ب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، ومن مرض الكبرياء و العجب ب ﴿ و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ومن مرض الضّلال و الجهل ب ﴿ ٱهْدِنَا ٱلصرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾ ، عُوفي من أمراضه و أسقامه و رفَلَ في أثواب العافية و تمّت عليه النّعمة ، و كان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم و هم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحقّ و عدلوا عنه ، و الضّالّين و هم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحقّ و لم يعرفوه ، و حُقّ لسورة تشتمل على هذين الشّفائين أن يسشفى بها من كلّ مرض ، و لهذا لمَّا اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفائين كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى ، كما سنبيّنه ، فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله و كلامه ، و فهمت عنه فهمًا خاصّا اختصّها به من معاني هذه السورة " .

شفاءُ سورةِ الفاتحة للأبدانِ :
جرى كثيرٌ من المتأثّرين بالتمدّن المُقلّين من مطالعة كتب السّلف على إنكار معالجة البدن بالقرآن و الأذكار المسنونة ؛ توهمًّا أنّ ذلك ضربٌ من الخرافة ، و أنّ فيه تشجيعًا على الخمول و الرّكون إلى الكهنة و أشكالهم من الانتهازيين ، و نظرًا لقلّة عنايتهم بالسنّة و جُرأتهم على الشّريعة باستعمال عقولهم في كلّ شيءٍ ظنّوا أنّ الأمراض الحسّيّة لا تُداوى إلا بالأدوية الحسّيّة ، وقد تكلّم ابن القيّم على الاستشفاء الحسّي بالفاتحة ، فذكر حكمه و دليله بما لا مردّ له فقال في " مدارج السّالكين " ( 1/55 ) : " و أمّا تضمُّنها لشفاء الأبدان فنذكر منه ما جاءت به السنّة وما شهدت به قواعدُ الطّبّ و دلّت عليه التّجربة ، فأمّا ما دلّت عليه السنّة ، ففي الصّحيح (1) من حديث أبي المتوكّل النّاجي عن أبي سعيدٍ الخدريّ " أنّ ناسًا من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم مرّوا بحيٍّ من العرب ، فلم يَقرُوهم و لم يُضيّفوهم ، فلُدغ سيّد الحيّ ، فأتوهم فقالوا : هل عندكم من رقيةٍ أو هل فيكم من راقٍ ؟ فقالوا : نعم ! و لكنّكم لم تَقرُونا ، فلا نفعلُ حتى تجعلوا لنا جُعلا ، فجعلوا لهم على ذلك قطيعًا من الغنم ، فجعل رجلٌ منّا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب ، فقام كأن لم يكن به قَلَبةٌ (2) ، فقلنا : لا تعجلوا حتى نأتيَ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، فأتيناه فذكرنا له ذلك ، فقال : ما يُدريك أنّها رُقيةٌ ؟ ! كلوا و اضربوا لي معكم بسهمٍ " ، فقد تضمّن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللّديغ بقراءة الفاتحة عليه ، فأغنَته عن الدّواء ، وربّما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدّواء ، هذا مع كون المحلّ غيرَ قابلٍ ؛ إمّا لكون هؤلاء الحيّ غير مسلمين أو أهل بخلٍ و لؤمٍ ، فكيف إذا كان المحلُّ قابلا ؟! " .
فهذا صريحٌ في التّداوي بالقرآن لداء حسّيٍّ بحتٍ ، ألا و هو لدغة العقرب ، كما أن التّجارب شهدت بصدقه ، قال ابن القيّم أيضا ( 1/ 57 - 58 ) : " و أمّا شهادة التّجارب بذلك ، فهي أكثر من أن تُذكر ، و ذلك في كلّ زمان ، و قد جرّبتُ أنا ذلك في نفسي و في غيري أمورًا عجيبةً ، ولا سيّما مدّة المقام بمكّةَ ، فإنّه كان يَعرِض لي آلامٌ مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني ، و ذلك في أثناء الطّواف و غيره ، فأبادر إلى قراءة الفاتحة و أمسح بها على محلّ الألم ، فكأنّه حصاة تسقط ! جرّبت ذلك مرارًا عديدةً " .


___________________________
(1) : أخرجه البخاري ( 2276 ) و مسلم ( 2201 ) .
(2) : قال ابنُ حجرٍ في " الفتح " ( 10/210 ) : " ما به قلبة : بفتح اللام بعدها موحّدة ، أي ما به ألم يقلّب لأجله على الفراش ، وقيل : أصله من القُلاب بضمّ القاف ، وهو داءٌ يأخذ البعير فيمسك على قلبه فيموت من يومه " .
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 09:48 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى