ماذا يريدون من التربية!!؟
10-04-2016, 02:07 PM
بعد لُقمة العيش، أوّل حاجة للشعوب هي: التربية
ماذا يريدون من التربية!!؟
حسن خليفة

اللغط المُثار منذ بعض الوقت حول القضايا التربوية في وطننا، وما رافقها من الكتابات والاجتماعات الرسمية وغير الرسمية العلنية والسرية، والاتفاقات المعروفة وغير المعروفة، والتصريحات والتصريحات المضادة، والتهديدات والتهديدات المضادة أيضا... كل ذلك جزءٌ من الصورة غير المشرّفة لمشهدنا التربوي الذي يُدمي القلب، ويثير الشجون، ويُفطر قلب كل من يعي ويتبصّر ما يمكن أن يكون عليه المستقبل التربوي بعد 20 سنة مثلا في بلادنا، وكيف ستتدهور الأوضاع فوق ما هي متدهورة، وينحطّ المستوى فوق ما هو منحطّ أصلا، نتيجة هذه المخرجات المؤسفة التي يكاد ينعقد الإجماع على سطحيتها، وقلة نضجها، وخلوّها من الحصائل العلمية والخُلقية!!؟.
بدلا من هذا اللغط، الذي تثيره في كل مرّة الوزيرة المُنصّبة على رأس القطاع بتصريحاتٍ أو أفعال، سريعا ما تكون له انعكاساتٌ قويّة في الشارع.. بدلا من هذا اللغط، كان يمكن إطلاق نقاش مجتمعي مسؤول وصادق، يعترف بـ:"أوجاع" المنظومة، ويُقرّ بنقائصها، ويسعى بتأطير علمي ومنهجي إلى معالجة الاختلالات، وتجاوز مواطن الضعف والتّرهّل والعجز، وما أكثرها.. وحينئذ فقط: يمكن التأكد من حُسن النية، وصدق الإرادة في الإصلاح.
لكن طالما كانت الأمور تتمّ على هذا النحو "المُريب" الغامض الملتبس، وفي سرّية، وبالاستعانة بإطارات لا كفاءة لها، ومن بلدٍ واحد تحديدا!!؟؛ فإن الأمر سيثير المزيد من اللغط، والمزيد من الإشكال!!؟، وقد يفضي إلى تململ وتذمر وفوضى: وطنُنا في غنى عنها!!؟.
ينبغي أن يتحمل كاملَ المسؤولية من يثيرها، ويذكي نيرانها بفرض معطيات، وتطبيق قرارات ليست محلّ إجماع، وليست محلّ ترحيب من المجتمع!!؟.
دعونا نذكر هنا، على سبيل التنبيه إلى الخطورة التي يكتسيها أمر التربية، ببعض الأقوال التي هي بمثابة قوانين ومبادئ في هذا المجال:

ـ الثقافة المتأزِّمة تؤدي بالضرورة إلى تربية متأزِّمة.
ـ مما يميز الإنسان عن الحيوان: أنه لا يمكن أن يصبح الإنسان إنسانا إلا بالتربية.
ـ المسافة الحقيقية التي علينا أن نقطعها هي: بين مبادئنا وسلوكنا، وذلك ما يجب أن تصنعه التربية.
ـ على مقدار الهوّة الفاصلة بين القول والفعل في الواقع المعيش: تكون أزمة التربية.
ـ إن الحصول على الإنسان الناضج الصالح يحتاج إلى 40 سنة من التربية والصقل.

إنما أردتُ التذكير بهذه الأقوال الذهبية: للتأكيد على أن شأن التربية شأنٌ جليل عظيم خطير، ومن ثمّ لا يمكن أن يكون من إنجاز فئة، أو مجموعة، أو نُخبة ـ مهما علا شأنهاـ بل هو:" شأنٌ مجتمعي عام"، ينبغي أن يُشرَك ويشترك فيه المجتمعُ كله، بمكوناته وعناصره من البيت والأسرة، إلى المسجد، إلى المدرسة، إلى الخبراء، إلى قادة الرأي.. إلى أرفع الهيئات والمؤسسات القائمة على أمر المجتمع تشريعا وتطبيقا؛ إذ أن "المنتوج" الذي تنتجه لنا التربية هو: منتوج للمجتمع كله، وعلى قدر سموّه ومتانته وقوته واستقامته: سيكون المجتمع بعد حين قليل من الزمن، وعلى قدر تفاهته وضموره وسطحيته وهُزاله: سيكون المجتمع أيضا، فالمقدمات السليمة تفضي إلى النتائج السليمة.
وبالنسبة لوطن كالجزائر، وطن دفع أثمانا كبيرة في سبيل التحرر والاستقلال، يجب أن يكون شأن التربية متصلا بتلك التضحيات التي قدّمها الأشرافُ والأطهار من الشهداء والمجاهدين على مدار عقود، وقد ضحّوا من أجل مبادئ وقيّم وخصال: لا أتصوّر أنه يمكن الاختلافُ حولها، وإن أثار البعضُ الاختلاف هنا وهناك؛ فالكلمة للشعب وللمجتمع، ولا يصحّ أن تفرض:" أقلية هجينة موصولة بما وراء البحر عقلا وفكرا ومصلحة وهوى برامجها الكريهة غصبا على أكثرية الجزائريين والجزائريات!!؟".
إن هناك مسافة يجب أن نقطعها جميعا؛ بدءا من النقطة التي نحن فيها اليوم، وهي:" نقطة ضعف وعجز وتخلّف"، سواء تعلق الأمر بنظامنا التربوي، أو بنظامنا الإداري والتدبيري كلّه... نقطعها من هذه النقطة المؤسفة إلى:" نقطة القوة والمتانة والتقدّم والازدهار والرفاهية وعلوّ المكانة بين الأمم"، وهو:" الهدف الشريف النبيل الممكن"، لو تجاوزنا هذه المشكلات الخاطئة، والطروح المُقلّدة العمياء: لبلغناها بأقل ما يمكن من الجهود والتضحيات.
ليس سرّا: أن أمر الإصلاح هذا وصلَ عمره إلى نحو عشرين عاما، وها هي: النتائج المخيفة في الواقع التربوي المتدهور تصيح في وجوهنا كل يوم ماثلة أمامنا في البيت والمدرسة والشارع والجامعة:" مخدرات، فقدان هُوية، ضعف متناه، قابلية للاستحمار، تسرّب تربوي وأخلاقي، عصابات أحياء وشوارع، مشاكسات، جريمة، تجارات غير مشروعة...".
لو أحسنّا التدبير، وصدقنا فيه في مجال التربية خاصة، وفي مجال الثقافة والتثقيف عامة، لكان "المنتوج" اليوم أجمل ما يكون: شباب متنوّر صالح مستقيم عامل بنّاء إيجابي متوهّج طموح، يحب وطنه ويسعى إلى العُلا، وليس ما نراه من جيوش البطّالين والمتبطلين والمنحرفين الضائعين وأكثرهم من متسرّبي المنظومة التربوية.
إن الثقافة كما يعلم الجميع هي:" القاعدة الأساسية لتشكيل وعي الإنسان، والتربية جزء أصيل ورئيس من منظومة الثقافة البانية"، فماذا فعلنا بالإنسان في المدرسة وخارج المدرسة حتى يكون الأمر على النحو الذي نعيشه يوميا، ونجأر بالشكوى منه يوميا أيضا!!؟، وفوق ذلك: تعتزم شراذم من المتغرّبين الموصولين بخيوط ثقافية وذهنية بما وراء البحر: أن تزيد المشهد سوءا على سوء!!؟.
في أي إناء يحلبُ هؤلاء، وماذا يريدون!!؟.
ومن يتحمّل المسؤولية بعد عشرين أو ثلاثين عاما إذا مضوا في برامجهم الماسخة للشخصية الإسلامية الجزائرية!!؟.
ودعني أكمل هذا المقال بهذه الأقوال المجيدة للعلامة:" ابن باديس" رحمه الله، ونحن في ظلال ذكراه العطرة:
{ ولأننا جزائريون نعمل لِلَمِّ شُعَب الأمة الجزائرية ، وترغيب أبنائها في العلم النافع والعمل المفيد، حتى ينهضوا كأمة لها حق الحياة، والانتفاع في العالم، وعليها واجب الخدمة والنفع للإنسانية... وبالأحرى نحب من يحب وطننا ويخدمه، ونبغض من يبغضه ويظلمه، فلهذا نبذل غاية الجهد في خدمة وطننا الجزائري، وتحبيب بَنِيه فيه، ونُخلِص لكل من يخلص له، ونناوئ كل من يناوئه من بنيه وغير بنيه}. [آثار ابن باديس: 3/ 278].
منقول بتصرف يسير.