من كتاب الإسلام والإيمان والإحسان والواقع المعيش- الفصل الخامس الصـوم -
16-05-2012, 10:44 PM
الصيام لغة هو الإمساك عن الشيء، فإذا أمسك المرء عن الكلام أو الطعام فهو صائم(1)، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنُ آكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾(مريم/26)، أما شرعا فهو الإمساك عن الأكل والشرب والإتصال الجنسي يوما كاملا من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنية ابتغاء مرضاة الله، فالصوم هو إمساك مخصوص في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة، وقد فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة(2)، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام أوجبه الله سبحانه وتعالى فقال: ﴿ يَأَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾(البقرة/183)، أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بالإمساك عن الطعام والشراب والوقاع خلال شهر رمضان بنية خالصة، ففي هذا الشهر تتزكى النفوس وتتطهر وتتنقي من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة(3).
أجمعت الأمة على وجوب صيام شهر رمضان ومن أنكره فهو كافر مرتد عن الإسلام(4)، وفي هذا الشهر تغلق أبواب النار وتفتح أبواب الجنة وتصفد الشياطين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ اَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ اَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ »(5)، وفي الجنة باب يدخل منه الصائمون يقال له الريان، قال عليه الصلاة والسلام: « إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ. يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ »(6).
العمل في شهر رمضان يضاعف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ: الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلىَ سَبْعُمَائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: إِلاَّ الصِّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ منْ أَجلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَة ٌعِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَة ٌعِنْدَ لِقَاءِ رَبِهِ. وَلََخُلُوفُ فِيهِ اَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ »(7).
فضل الله سبحانه وتعالى شهر رمضان على بقية الشهور فأنزل فيه القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا آوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنَ آيَّامٍ آخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾(البقرة/185)، مدح الله سبحانه وتعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور، أنزل فيه القرآن الكريم كما أن الكتب الإلهية كانت هي كذلك تنزل فيه، فصحف إبراهيم نزلت في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين منه، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، وأنزل الزبور لثنتي عشرة خلت منه والإنجيل لثماني عشرة، وأنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم على النبي العظيم لأربع وعشرين خلت من رمضان(8).
الدعاء في شهر رمضان مسموع، والعمل فيه مرفوع، والخير فيه مجموع، والضرر فيه مدفوع والسيئات فيه مغفورة، والأعمال الحسنة فيه موفورة، والتوبة فيه مقبولة، والرحمة من الله لملتمسها فيه مبذولة، والمساجد بذكر الله فيه معمورة، وقلوب المؤمنين بالتوبة فيه مسرورة، هو أفضل الشهور، خصه الله سبحانه وتعالى بالرحمة والمغفرة، من أطاع فيه الملك الجبار، واتبع السنة والآثار غفر الله له ما قد سلف من الذنوب والأوزار، أما من عصى فيه الملك القهار، وخالف القرآن والآثار، وعمل بأعمال الفجار غضب عليه مقدر الأقدار، فضلت به هذه الأمة في سائر الدهور، السعي فيه مشكور، والشيطان فيه مبعد مثبور والوزر والإثم فيه مهجور، يحل ويرتحل فيشهد على المسلم بالشقاوة أو السعادة، أو النقصان أو الزيادة، أو هو محروم أو مقبول، فمن أراد أن يفوز بدار الخلد والسلام، وينظر إلى وجه ذي الجلال والإكرام، ويرافق النبي عليه الصلاة والسلام فليكرم نهاره بتحقق الصيام ويقطع ليلته بطول البكاء والقيام(9).
الصيام أربعة أقسام، أحدها: صيام مفروض، وهو صيام شهر رمضان أداء وقضاء، وصيام الكفارات، والصيام المنذور، ثانيها: الصيام المسنون، ثالثها: الصيام المحرم، رابعها: الصيام المكروه(10)، وهناك صوم الروح وهو قصر الأمل، وصوم العقل وهو مخالفة الهوى. وصوم الجوارح وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع..، من صام عن الطعام والشراب فصومه عادة، ومن صام عن الربا والحرام وأفطر على الحلال من الطعام فصومه عدة وعبادة، ومن صام عن الذنوب والعصيان وأفطر على طاعة الرحمن فهو صائم رضي، ومن صام عن القبائح وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو صائم تقي، ومن صام عن الغيبة والبهتان وأفطر على تلاوة القرآن فهو صائم رشيد، ومن صام عن المنكر والأغيار وأفطر على الفكرة والإعتبار فهو صائم سعيد، ومن صام عن الرياء والإنتقاص وأفطر على التواضع والإخلاص، فهو سالم، ومن صام عن خلاف النفس والهوى وأفطر على الشكر والرضا فهو صائم غانم، ومن صام عن قبيح أفعاله وأفطر على تقريب أجله فهو صائم زاهد(11)، ألا فما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك: « مدرسة الثلاثين يوما »(12).
أما من حيث المراتب؛ فللصوم ثلاث مراتب: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.
فأما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
وأما صوم الخصوص: فهو كف النظر، واللسان، واليد، والرجل، والسمع، والبصر، وسائر الجوارح عن الآثام.
وأما صوم خصوص الخصوص: فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة والأفكار المبعدة عن الله تعالى، وكفه عما سوى الله تعالى بالكلية(13).
للصوم شروط وجوب، وشروط صحة، وشروط وجوب وصحة معا، أما شروط الوجوب فهي البلوغ والقدرة على الصوم، وشروط الصحة هي الإسلام والزمان القابل للصوم والنية، وشروط الوجوب والصحة معا هي العقل والنقاء من دم الحيض والنفاس ودخول شهر رمضان(14).
يرخص الفطر للشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الذي لا يرجى برؤه وأصحاب الأعمال الشاقة الذين لا يجدون متسعا من الرزق غير ما يزاولونه من أعمال.
هؤلاء جميعا يرخص لهم في الفطر إذا كان الصيام يجهدهم ويشق عليهم مشقة شديدة في جميع فصول السنة وعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينا(15).
يباح الفطر للمريض الذي يرجى برؤه والمسافر ويجب عليهما القضاء(16).
اتفق الفقهاء: على انه يجب الفطر على الحائض والنفساء ويحرم عليهما الصيام وإذا صاما لا يصح صومهما ويقع باطلا وعليهما قضاء ما فاتهما(17).
يباح في الصيام نزول الماء والإنغماس فيه والإكتحال والقطرة ونحوهما مما يدخل العين والقبلة لمن قدر على ضبط نفسه والحقنة مطلقا سواء أكانت للتغذية أم لغيرها وسواء أكانت في العروق أم تحت الجلد والحجامة والمضمضة والإستنشاق إلا أنه تكره المبالغة فيهما، ويباح أيضا بلع الريق وغبار الطريق وغربلة الدقيق والنخامة ونحو ذلك، ويباح للصائم أيضا أن يأكل ويشرب ويجامع حتى يطلع الفجر، وأن يصبح جنبا، ويجوز للحائض والنفساء إذا انقطع الدم من الليل تأخير الغسل إلى الصباح(18).
ليس الصيام مجرد امتناع عن الأكل والشرب وكفى، بل هو أيضا امتناع عن قول الزور والعمل به قال رسول صلى الله عليه وسلم: « مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي اَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ »(19)، ويوصي صلى الله عليه وسلم الصائمين فيقول: « الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فََلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ. فَإِنّ امْرُؤ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ »(20).
لا يقتصر الصيام على شهر رمضان فقط، بل هناك صوم في سبيل الله وهو صوم التطوع: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِِلاَّ بَاعَدَ اللَّهُ - بِذَلِكَ الْيَوْمِ - وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا »(21).
وصيام التطوع هو صيام ستة أيام من شوال وصوم يوم عرفة لغير الحاج وصوم عاشوراء ويوما قبلها ويوما بعدها وصيام أكثر شعبان وصوم الأشهر الحرم وصوم يومي الإثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصيام يوم وفطر يوم(22).
أجمع العلماء على تحريم صوم يومي العيدين سواء أكان الصوم فرضا أم تطوعا، وعدم جواز صيام الأيام الثلاثة التي تلي عيد النحر، والنهي عن صيام يوم الجمعة لأنه عيد أسبوعي للمسلمين، وإفراد يوم السبت بصيام، وصوم يوم الشك، وصوم الدهر، وصيام المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه، ووصال الصوم(23).
يبطل الصوم الأكل والشرب والقيء عمدا والحيض والنفاس والإستمناء وتناول ما لا يتغذى به من المنفذ المعتاد إلى الجوف مثل تعاطي الملح الكثير ومن نوى الفطر وهو صائم ومن أكل أو شرب أو جامع ظانا غروب الشمس وعدم طلوع الفجر(24).
كلما حل شهر الصيام إلا وهرع الناس إلى الأسواق يتهافتون على اقتناء المواد الغذائية التي تكفيهم مدة هذا الشهر وزيادة، فالطوابير طويلة، والحلويات متنوعة، والمأكولات متوفرة وبأسعار جد ملتهبة، والقلق يسيطر على العقول والقلوب وكأن الناس في حلبة لعرض العضلات، فلأتفه الأشياء تسمع السباب والشتائم لأن الناس صيام، ومن لم يكن كذلك فصيامه في نظر هؤلاء غير معهود!.
الناس في النهار- خلال هذا الشهر- يملؤون الأسواق!، وبعد الفطور يملؤون المساجد لتأدية صلاة التراويح كما جرت به العادة!، ثم بعد ذلك يملؤون المقاهي لقضاء الليل في الهرج والمرج والقيل والقال إن اقتصر الأمر على هذا الحال، لقد اختلط الأمر، أهذا شهر عبادة وتقرب إلى الله!؟ أم هو شهر حفلات وسهرات للرقص والغناء رضاء للشيطان اللعين!؟، حسبنا الله ونعم الوكيل.
ــــــــــــ
(1)- ينظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص541.
(2)– ينظر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، الجزء الثاني ص52.
(3)– ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الأول ص375.
(4)– ينظر فقه السنة، المجلد الأول ص366.
(5)- مختصر صحيح مسلم، ص151
(6)- مختصر صحيح مسلم، ص159.
(7)- مختصر صحيح مسلم، ص159.
(8)– ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الأول ص380.
(9)– ينظر بستان الواعظين ورياض السامعين، ص218- 220.
(10)- كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص541.
(11)– بستان الواعظين ورياض السامعين، ص234.
(12) –وحي القلم، الجزء الثاني ص72.
(13)- مختصر منهاج القاصدين، ص44.
(14)– ينظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص546.
(15)– فقه السنة، الجزء الأول ص371.
(16)– فقه السنة، الجزء الأول ص372.
(17)- فقه السنة، الجزء لأول ص375.
(18)– ينظر فقه السنة، الجزء الأول ص388-392.
(19)- مختصر صحيح البخاري، ص212.
(20)– كتاب الموطأ، ص252.
(21)- مختصر صحيح مسلم، ص159.
(22)– ينظر فقه السنة، الجزء الأول 380- 383.
(23)– ينظر فقه السنة، الجزء الأول 376- 379.
(24)– ينظر فقه السنة الجزء الأول 392-394.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم برواية ورش.
- عبد الرحمن الجزيري، كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، المجلد الأول.
– الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد الجزء الثاني، جماعة إحياء التراث.
– الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير ابن كثير الجزء الأول، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السادسة1404هـ - 1984م.
- السيد سابق، فقه السنة، الجزء الأول- العبادات-، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى1397هـ - 1977م.
– الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، مختصر صحيح مسلم دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى1428هـ -2007م.
- الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي، بستان الواعظين ورياض السامعين، خرج أحاديثه أحمد بن شعبان بن أحمد، مكتبة الصفا القاهرة، الطبعة الأولى 1425هـ-2004م.
- مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم الجزء الثاني، دار الكتاب العربي بيروت لبنان.
- الإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين، المكتبة القيمة للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة.
- الإمام زين الدين أحمد بن عبد الطيف الزبيدي، مختصر صحيح البخاري المسمى التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى1428هـ -2007م.
- الإمام مالك بن أنس، كتاب الموطأ، والإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، كتاب إسعاف المبطأ برجال الموطأ، قدم لهما وراجعهما ونسقهما فاروق سعد، منشورات دار الأفاق الجديدة بيروت، الطبعة الثانية1401هـ -1981م.
بوداود جلولي
.../...
أجمعت الأمة على وجوب صيام شهر رمضان ومن أنكره فهو كافر مرتد عن الإسلام(4)، وفي هذا الشهر تغلق أبواب النار وتفتح أبواب الجنة وتصفد الشياطين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ اَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ اَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ »(5)، وفي الجنة باب يدخل منه الصائمون يقال له الريان، قال عليه الصلاة والسلام: « إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ. يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ »(6).
العمل في شهر رمضان يضاعف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ: الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلىَ سَبْعُمَائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: إِلاَّ الصِّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ منْ أَجلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَة ٌعِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَة ٌعِنْدَ لِقَاءِ رَبِهِ. وَلََخُلُوفُ فِيهِ اَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ »(7).
فضل الله سبحانه وتعالى شهر رمضان على بقية الشهور فأنزل فيه القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا آوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنَ آيَّامٍ آخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾(البقرة/185)، مدح الله سبحانه وتعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور، أنزل فيه القرآن الكريم كما أن الكتب الإلهية كانت هي كذلك تنزل فيه، فصحف إبراهيم نزلت في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين منه، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، وأنزل الزبور لثنتي عشرة خلت منه والإنجيل لثماني عشرة، وأنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم على النبي العظيم لأربع وعشرين خلت من رمضان(8).
الدعاء في شهر رمضان مسموع، والعمل فيه مرفوع، والخير فيه مجموع، والضرر فيه مدفوع والسيئات فيه مغفورة، والأعمال الحسنة فيه موفورة، والتوبة فيه مقبولة، والرحمة من الله لملتمسها فيه مبذولة، والمساجد بذكر الله فيه معمورة، وقلوب المؤمنين بالتوبة فيه مسرورة، هو أفضل الشهور، خصه الله سبحانه وتعالى بالرحمة والمغفرة، من أطاع فيه الملك الجبار، واتبع السنة والآثار غفر الله له ما قد سلف من الذنوب والأوزار، أما من عصى فيه الملك القهار، وخالف القرآن والآثار، وعمل بأعمال الفجار غضب عليه مقدر الأقدار، فضلت به هذه الأمة في سائر الدهور، السعي فيه مشكور، والشيطان فيه مبعد مثبور والوزر والإثم فيه مهجور، يحل ويرتحل فيشهد على المسلم بالشقاوة أو السعادة، أو النقصان أو الزيادة، أو هو محروم أو مقبول، فمن أراد أن يفوز بدار الخلد والسلام، وينظر إلى وجه ذي الجلال والإكرام، ويرافق النبي عليه الصلاة والسلام فليكرم نهاره بتحقق الصيام ويقطع ليلته بطول البكاء والقيام(9).
الصيام أربعة أقسام، أحدها: صيام مفروض، وهو صيام شهر رمضان أداء وقضاء، وصيام الكفارات، والصيام المنذور، ثانيها: الصيام المسنون، ثالثها: الصيام المحرم، رابعها: الصيام المكروه(10)، وهناك صوم الروح وهو قصر الأمل، وصوم العقل وهو مخالفة الهوى. وصوم الجوارح وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع..، من صام عن الطعام والشراب فصومه عادة، ومن صام عن الربا والحرام وأفطر على الحلال من الطعام فصومه عدة وعبادة، ومن صام عن الذنوب والعصيان وأفطر على طاعة الرحمن فهو صائم رضي، ومن صام عن القبائح وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو صائم تقي، ومن صام عن الغيبة والبهتان وأفطر على تلاوة القرآن فهو صائم رشيد، ومن صام عن المنكر والأغيار وأفطر على الفكرة والإعتبار فهو صائم سعيد، ومن صام عن الرياء والإنتقاص وأفطر على التواضع والإخلاص، فهو سالم، ومن صام عن خلاف النفس والهوى وأفطر على الشكر والرضا فهو صائم غانم، ومن صام عن قبيح أفعاله وأفطر على تقريب أجله فهو صائم زاهد(11)، ألا فما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك: « مدرسة الثلاثين يوما »(12).
أما من حيث المراتب؛ فللصوم ثلاث مراتب: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.
فأما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
وأما صوم الخصوص: فهو كف النظر، واللسان، واليد، والرجل، والسمع، والبصر، وسائر الجوارح عن الآثام.
وأما صوم خصوص الخصوص: فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة والأفكار المبعدة عن الله تعالى، وكفه عما سوى الله تعالى بالكلية(13).
للصوم شروط وجوب، وشروط صحة، وشروط وجوب وصحة معا، أما شروط الوجوب فهي البلوغ والقدرة على الصوم، وشروط الصحة هي الإسلام والزمان القابل للصوم والنية، وشروط الوجوب والصحة معا هي العقل والنقاء من دم الحيض والنفاس ودخول شهر رمضان(14).
يرخص الفطر للشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الذي لا يرجى برؤه وأصحاب الأعمال الشاقة الذين لا يجدون متسعا من الرزق غير ما يزاولونه من أعمال.
هؤلاء جميعا يرخص لهم في الفطر إذا كان الصيام يجهدهم ويشق عليهم مشقة شديدة في جميع فصول السنة وعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكينا(15).
يباح الفطر للمريض الذي يرجى برؤه والمسافر ويجب عليهما القضاء(16).
اتفق الفقهاء: على انه يجب الفطر على الحائض والنفساء ويحرم عليهما الصيام وإذا صاما لا يصح صومهما ويقع باطلا وعليهما قضاء ما فاتهما(17).
يباح في الصيام نزول الماء والإنغماس فيه والإكتحال والقطرة ونحوهما مما يدخل العين والقبلة لمن قدر على ضبط نفسه والحقنة مطلقا سواء أكانت للتغذية أم لغيرها وسواء أكانت في العروق أم تحت الجلد والحجامة والمضمضة والإستنشاق إلا أنه تكره المبالغة فيهما، ويباح أيضا بلع الريق وغبار الطريق وغربلة الدقيق والنخامة ونحو ذلك، ويباح للصائم أيضا أن يأكل ويشرب ويجامع حتى يطلع الفجر، وأن يصبح جنبا، ويجوز للحائض والنفساء إذا انقطع الدم من الليل تأخير الغسل إلى الصباح(18).
ليس الصيام مجرد امتناع عن الأكل والشرب وكفى، بل هو أيضا امتناع عن قول الزور والعمل به قال رسول صلى الله عليه وسلم: « مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي اَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ »(19)، ويوصي صلى الله عليه وسلم الصائمين فيقول: « الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فََلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ. فَإِنّ امْرُؤ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ »(20).
لا يقتصر الصيام على شهر رمضان فقط، بل هناك صوم في سبيل الله وهو صوم التطوع: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِِلاَّ بَاعَدَ اللَّهُ - بِذَلِكَ الْيَوْمِ - وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا »(21).
وصيام التطوع هو صيام ستة أيام من شوال وصوم يوم عرفة لغير الحاج وصوم عاشوراء ويوما قبلها ويوما بعدها وصيام أكثر شعبان وصوم الأشهر الحرم وصوم يومي الإثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصيام يوم وفطر يوم(22).
أجمع العلماء على تحريم صوم يومي العيدين سواء أكان الصوم فرضا أم تطوعا، وعدم جواز صيام الأيام الثلاثة التي تلي عيد النحر، والنهي عن صيام يوم الجمعة لأنه عيد أسبوعي للمسلمين، وإفراد يوم السبت بصيام، وصوم يوم الشك، وصوم الدهر، وصيام المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه، ووصال الصوم(23).
يبطل الصوم الأكل والشرب والقيء عمدا والحيض والنفاس والإستمناء وتناول ما لا يتغذى به من المنفذ المعتاد إلى الجوف مثل تعاطي الملح الكثير ومن نوى الفطر وهو صائم ومن أكل أو شرب أو جامع ظانا غروب الشمس وعدم طلوع الفجر(24).
كلما حل شهر الصيام إلا وهرع الناس إلى الأسواق يتهافتون على اقتناء المواد الغذائية التي تكفيهم مدة هذا الشهر وزيادة، فالطوابير طويلة، والحلويات متنوعة، والمأكولات متوفرة وبأسعار جد ملتهبة، والقلق يسيطر على العقول والقلوب وكأن الناس في حلبة لعرض العضلات، فلأتفه الأشياء تسمع السباب والشتائم لأن الناس صيام، ومن لم يكن كذلك فصيامه في نظر هؤلاء غير معهود!.
الناس في النهار- خلال هذا الشهر- يملؤون الأسواق!، وبعد الفطور يملؤون المساجد لتأدية صلاة التراويح كما جرت به العادة!، ثم بعد ذلك يملؤون المقاهي لقضاء الليل في الهرج والمرج والقيل والقال إن اقتصر الأمر على هذا الحال، لقد اختلط الأمر، أهذا شهر عبادة وتقرب إلى الله!؟ أم هو شهر حفلات وسهرات للرقص والغناء رضاء للشيطان اللعين!؟، حسبنا الله ونعم الوكيل.
ــــــــــــ
(1)- ينظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص541.
(2)– ينظر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، الجزء الثاني ص52.
(3)– ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الأول ص375.
(4)– ينظر فقه السنة، المجلد الأول ص366.
(5)- مختصر صحيح مسلم، ص151
(6)- مختصر صحيح مسلم، ص159.
(7)- مختصر صحيح مسلم، ص159.
(8)– ينظر تفسير ابن كثير، الجزء الأول ص380.
(9)– ينظر بستان الواعظين ورياض السامعين، ص218- 220.
(10)- كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص541.
(11)– بستان الواعظين ورياض السامعين، ص234.
(12) –وحي القلم، الجزء الثاني ص72.
(13)- مختصر منهاج القاصدين، ص44.
(14)– ينظر كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، المجلد الأول ص546.
(15)– فقه السنة، الجزء الأول ص371.
(16)– فقه السنة، الجزء الأول ص372.
(17)- فقه السنة، الجزء لأول ص375.
(18)– ينظر فقه السنة، الجزء الأول ص388-392.
(19)- مختصر صحيح البخاري، ص212.
(20)– كتاب الموطأ، ص252.
(21)- مختصر صحيح مسلم، ص159.
(22)– ينظر فقه السنة، الجزء الأول 380- 383.
(23)– ينظر فقه السنة، الجزء الأول 376- 379.
(24)– ينظر فقه السنة الجزء الأول 392-394.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم برواية ورش.
- عبد الرحمن الجزيري، كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، المجلد الأول.
– الشيخ حافظ بن أحمد حكمي، معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد الجزء الثاني، جماعة إحياء التراث.
– الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير ابن كثير الجزء الأول، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة السادسة1404هـ - 1984م.
- السيد سابق، فقه السنة، الجزء الأول- العبادات-، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى1397هـ - 1977م.
– الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، مختصر صحيح مسلم دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى1428هـ -2007م.
- الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي، بستان الواعظين ورياض السامعين، خرج أحاديثه أحمد بن شعبان بن أحمد، مكتبة الصفا القاهرة، الطبعة الأولى 1425هـ-2004م.
- مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم الجزء الثاني، دار الكتاب العربي بيروت لبنان.
- الإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين، المكتبة القيمة للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة.
- الإمام زين الدين أحمد بن عبد الطيف الزبيدي، مختصر صحيح البخاري المسمى التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، دار الإمام مالك الجزائر، الطبعة الأولى1428هـ -2007م.
- الإمام مالك بن أنس، كتاب الموطأ، والإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، كتاب إسعاف المبطأ برجال الموطأ، قدم لهما وراجعهما ونسقهما فاروق سعد، منشورات دار الأفاق الجديدة بيروت، الطبعة الثانية1401هـ -1981م.
بوداود جلولي
.../...








