السلسلة الذهبية في الآداب النبوية الحلقة:(11): آداب الضيافة:(أ)
26-02-2014, 03:59 PM
السلسلة الذهبية في الآداب النبوية
الحلقة:(11): آداب الضيافة:(أ)
آداب الضيافة:
قد جاءت الكثير من الأحاديث الحاثة على إكرام الضيف والمبينة أنه من الإيمان، فالضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه، وهي من سنن المرسلين عليهم السلام، ومن أخلاق السلف رضوان الله عليهم.
وللضيافة أحكام وآداب ذكرها الشيخ في هذه الحلقة.
الحث على إكرام الضيف:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
إكرام الضيف من الآداب العظيمة التي حفلت بها هذه الشريعة المباركة، وأكدت ما كان موجودا ًعند العرب من المعروف في هذا الأمر.
أما ضاف القوم وتضيفهم أي: نزل عليهم ضيفاً وأضافوه وضيفوه أي: أنزلوه، والضيف معروف وجمعه أضياف وضِيفان، والاسم هو الضيافة، ويقال: أضفته إضافة إذا نجى إليك من خوف فأجرته، واستضافني فأضفته استجارني فأجرته، وتضيفني فضيفته إذا طلب القِرى، فإذا طلب الإنسان أن ينزل ضيفاً فيقال: تضيف، والذي يقبل هذا يقال: ضيفه، هكذا في المصباح المنير.
والضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه، وهو من سنن المرسلين، وأول من ضيف الضيف: إبراهيم عليه السلام، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}.[الذاريات:24] فوصفهم بأنهم أكرموا.
وقصته عليه السلام لما قدم لهم عجلاً حنيذاً نزلاً وضيافةً معروفة.
وجاء في بعض الإسرائيليات قصة فيها عبرة: كان إبراهيم عليه السلام لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه، فلقي يوماً رجلاً فلما جلس معه على الطعام. قال له إبراهيم: سم الله، قال له الرجل: لا أدري ما الله!!. قال له: اخرج عن طعامي، فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل، فقال له: يقول الله عز وجل: إنه يرزقه على كفره مدى عمره، وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم مسرعاً فرده، فقال: ارجع، فقال: لا أرجع، تخرجني ثم تردني لغير معنى، فأخبره بالأمر فقال: هذا رب كريم آمنت، ثم دخل عند إبراهيم وسمى الله وأكل بعدما آمن، وستأتي قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، والعبر التي فيها، والآداب المنطوية عليها بالنسبة للضيافة في قصته مع الملائكة.
وأما لوطٌ عليه السلام، فإنه كان يكرم الضيوف أيضاً، كيف لا وهو قد تعلم من إبراهيم عليه السلام، ولما جاءه ضيوفه وجاء قومه يهرعون إليه لعمل الفاحشة، فدافعوه الباب حتى كادوا يغلبونه، وهو يخاطبهم:{هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}.[هود:78]، وأخبر عز وجل أنهم راودوه عن ضيفه، فطمس أعينهم ولم يرجمهم فقط، ولكن طمس أعينهم ثم رجمهم، وهذا دليل على أهمية وخطورة إيذاء الضيف.
وهذه عجوز السوء امرأته التي كانت تدل الفجار على ضيفه، قال الله تعالى فيها:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}. [الأعراف:83]، وقال:{وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}.[هود:81]. لماذا؟، لأنها كانت تدل قومها على الضيفان، وهذه خيانة لزوجها؛ فعذب الله عجوز السوء بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث.
وقد جاء في معرض الذم: ذكر القوم الذين نزل عليهم الخضر وموسى عليهما السلام، فأبوا أن يضيفوهما.
وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان أعظم الناس في إكرام الضيف على الإطلاق، وقد وصفته خديجة بمثل ذلك من أيام الجاهلية، فلما دخل عليها فزعاً مما لقي في الغار بعد نزول سورة اقرأ، وقال:" زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـ خديجة: " أي خديجة مالي؟، لقد خشيت على نفسي؟" - فأخبرها الخبر- فقالت خديجة:" كلا،أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف". والحديث في صحيح البخاري.
منزلة الضيف عند أهل الجاهلية:
كان لأهل الجاهلية شأن عظيم في إكرام الضيف، والذم فيمن لم يكرمه، فجاء الله بهذا الدين الذي رفع شأن هذا الأدب العظيم، وهو إكرام الضيف؛ فأقر ما كان عليه أهل الجاهلية من المعروف في هذا وزاد عليه، وأبطل ما كان معروفاً عندهم في هذه الخصلة وغيرها، كما كانوا يفعلون من بعث الرجل بأمته إلى ضيفه.
وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم قصة عندما ذهبوا مع أبي سعيد رضي الله عنه، وسافروا ونزلوا على حيٍ من أحياء العرب المشركين، فاستضافوهم فأبو أن يضيفوهم حتى لدغ أحدهم، فرقاه أبو سعيد رضي الله عنه على قطيع من الغنم.
وكان قيس بن عاصم الصحابي رضي الله عنه سيد قومه، وكان جواداً حليماً، أخذ الأحنف بن قيس الحلم عنه.
تزوج قيس امرأة، فأحضرت له طعاماً، فقال لها: أين أكيلي؟، فلم تدر ما يقول لها!، فأنشأ يقول:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ÷ أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخاً طارقاً أو جار بيتٍ فإنني ÷ أخاف ملامات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف من غير ذلة ÷ وما في إلا ذاك من شيمة العبد
فسمعه جارٌ له، وكان بخيلاً فقال:
لبيني وبين المرء قيس بن عاصم ÷ بما قال بون في الفعال بعيد
وإنا لنجفو الضيف من غير قلة ÷ مخافة أن يغرى بنا فيعود
وقد أوصى قيس بن خفاف بن عمر بن حنظلة جبيلاً ابنه بقصيدة فيها آداب ومصالح، يقول له فيها:
أجبيل إن أباك كارم يومه ÷ فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل
أوصيك إيصاء امرئ لك ناصحٍ ÷ ظن بغيه الدهر غير معقل
الله تتقه وأوف بنذره ÷ وإذا حلفت ممارياً فتحلل
والضيف تكرمه فإن مبيته ÷ حقٌ ولا تك لعنة للنزل
واعلم بأن الضيف مخبر أهله ÷ بمبيت ليلته وإن لم يسأل
أحاديث في إكرام الضيف:
قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه "، وقال عليه الصلاة والسلام:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟. قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك، فهو صدقة عليه، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه".رواه البخاري ومسلم.
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام:" جائزته يومٌ وليلة"،أي: يكرمه ويتحفه ويحفظه يوماً، وثلاثة أيام ضيافة، وقال الخطابي معناه:" أنه يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث، فيقدم له ما كان بحضرته، الاجتهاد في اليوم الأول هو الجائزة، والثاني والثالث ما كان بحضرته، ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاث، فصدقة ومعروف ليس بواجب عليه، وإذا فعل فهو تطوع منه إن شاء فعل وإن شاء ترك".
وقوله صلى الله عليه وسلم:" ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه"، معناه:" لا يحل للضيف أن يقيم عند المضيف بعد الثلاث من غير استدعاء إلا إذا أصر وألح عليه وطالبه بذلك، لئلا يقع المضيف في الإثم ولئلا يقع في الحرج".
وعن أبي كريمة المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه -أي: الضيف- فهو عليه دين إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه". رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيما رجل أضاف قوماً، فأصبح الضيف محروماً، فإن نصره حقٌ على كل مسلم -أن تؤخذ له الضيافة- حتى يأخذ بقراء ليلة من زرعه وماله". رواه أبو داود بإسنادٍ حسن كما قال النووي في المجموع شرح المهذب.
وعن عقبة بن عامر قال:" قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقومٍ فلا يقروننا، فما ترى؟. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فأخرجوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له، خذوا منهم". رواه مسلم في صحيحه.
أحكام الضيافة في الشرع:
وحكم الضيافة أنها سنة عند جمهور العلماء، فإذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلماً، استحب له ضيافته ولا تجب، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة ومذهب الشافعي والجمهور.
وقال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل: هي واجبةٌ يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن؛ لأن أهل القرى هم الذين يجتاز بهم المارون، وكذلك البدو الذين يجتاز بهم المارون أصحاب الحاجة، أما أهل المدن فلا، قال الإمام أحمد: هي واجبة يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن، واحتجوا بحديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه عليه جائزته". قال أحمد رحمه الله: والضيافة على كل المسلمين، كل من نزل عليه ضيفٌ، كان عليه أن يضيفه، قيل: إن ضاف الرجل ضيفٌ كافرٌ؟. يعني: إذا طلب الضيافة هل يضيفه؟. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ليلة الضيف حق واجبٌ على كل مسلم"، وهذا الحديث بين، ولما أضاف المشرك النبي عليه الصلاة والسلام: دل على أن المسلم والمشرك يضاف، وأنا أراه كذلك.
والضيافة معناها: صدقة التطوع على المسلم والكافر، واليوم والليلة حق واجب.
فإذاً الإمام أحمد رحمه الله قال: الليلة الأولى واجبة.
وقال الجمهور: الضيافة مستحبة، إلا إذا صار اضطراراً.
فأما بالنسبة لثبوت الحق فهل يأخذه بإذنه وبغير إذنه؟. تقدم القولان عن الإمام أحمد رحمه الله، ولكن هنا ملاحظة أشار لها ابن القيم في أعلام الموقعين وابن رجب في القواعد وهي: أن الحق إذا كان سبب ثبوته ظاهراً، فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هنداً، وأفتى به الضيف إذا لم يقره من نزل عليه، كما في سنن أبي داود قال:" فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه"، وفي رواية:" نزل بقومٍ فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه) يعني: لو أتى بفاتورة فقال لهم: سددوا لأنكم لم تضيفوني وهو حق واجب.
قال: وإن كان سبب الحق خفياً لم يجز له ذلك كما أفتى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) هكذا في أعلام الموقعين.
فإذاً لو أن شخصاً نزل عليهم فقالوا: ليس لك شيء، اتركه واجلس إلى يوم القيامة، مع أن حقه واضح للناس الغادين والرائحين، فلو أخذه بغير إذنهم وعدا على غنمٍ لهم أو على شيء فأخذه بالإكراه فحقه واضح يعني: لو أخذ لا يتهم عند الناس.
كذلك المرأة التي زوجها بخيل فإن نفقتها واجبة عليه، فإذا لم ينفق عليها فلها أن تأخذ منه -وهذا حق- ولو بغير إذنه، لكن لو كان سبب الحق خفياً - مثلاً- أحد الأشخاص اختلس منك مالاً، ثم استأمنك على ماله، فلا يجوز أن تختلس منه خفيةً مادام الحق ليس ثابتاً ظاهراً فلا يجوز الاختلاس، وبهذا يجاب على من سأل من العمال والموظفين، قائلٌ: إن صاحب العمل قد أكل شيئاً من حقي، وأنا محاسب ويمكن أن آخذ حقي الذي أخذه مني خلسة دون أن يعلم أحد، فإذا لم يكن حقه ظاهراً مثبتاً يعلم، فلا يجوز له أن يأخذ خلسة، وهذا معنى حديث:" ولا تخن من خانك". رواه الترمذي وهو حديث حسن.
ومن أهمية هذا الأمر -إكرام الضيف- ما ذكره المفسرون كمجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى:{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}.[النساء:148] قال:" إنما نزلت في الضيافة، إذا نزل رجلٌ على رجلٍ ضيفاً، فلم يقم به: جاز له إذا خرج عنه أن يذكر ذلك، يقول: ما ضيفني ولا أعطاني ولا أكرمني:{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}.[النساء:148]، قالوا: نزلت في الشخص الذي ينزل ضيفاً، فلا يعطى ولا يقرى ولا يكرم، فإذا جهر بالسوء عليهم بما منعوه من حقه: جاز له ذلك؛ لأنه ظلم.
وذكر العلماء في أسباب تحريم اتخاذ الكلاب قالوا: إنها تروع الضيف وابن السبيل، كما ذكره العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام، فلذلك من اتخذها نقص من أجره كل يوم قيراط، لكن كان بعض أهل الجاهلية يمتدحون أنفسهم، أو يتباهون بأن كلابهم لا تنبح على الضيوف، وأنهم علموها ذلك فصارت لا تنبح على الضيفان.
فهذا المعنى المذكور في منع اتخاذ الكلاب لأهمية مسألة إكرام الضيوف.
وكذلك قيل: بمشروعية الاستدانة لإكرام الضيف، فذكر السرخسي رحمه الله من الحنفية: إن ما استدانه لقرى الضيف لو استدان شخص مالاً ليقري ضيفه، فهو كما استدانه لنفقته ومصلحة نفسه حتى قالوا: يعطى من سهم الغارمين، لأن هذا حق لا بد أن يقوم به، استدان فصار غارماً فيعطى من حق الغارمين، لكن من هذا الذي يضيف بحق، لأن هناك من يظلمون أنفسهم فيضيفون بغير حق، يذبحون الذبائح فيرهقون أنفسهم ثم يطوفون على الناس ويقولون: أعطونا نحن نذبح ذبائح.
ومن أهمية إكرام الضيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في اتخاذ فراشٍ خاصٍ له، ولم يعد فراشاً زائداً في البيت من أجل الضيف، ولم يعد هذا ترفاً، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن:" فراشٌ للرجل وفراشٌ لامرأته وفراش للضيف وفراش للشيطان".حديث صحيح.
ومن أهمية إكرام الضيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرشد عمر إلى اتخاذ الوقف، جعل عمر من مصارف الوقف: إكرام الضيف، وذلك في الأرض التي أصابها عمر بخيبر قال عليه الصلاة والسلام مرشداً وناصحاً:" إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها". حبس الأصل: هو الوقف وتسبيل الثمرة، وأي منفعة تنفق في الخير، والأصل محبوس قال:" إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها". قال: فتصدق بها عمر، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب ولا يورث، فتصدق بها في الفقراء - نص عمر على ذلك، وكتبه وجعله عند حفصة، وهي قائمة على وقفه- فتصدق بها في الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف"، وقد روى ذلك البخاري رحمه الله، وعبد الرزاق وغيره من أهل العلم وهو حديث مشهور.
إبراهيم عليه السلام وإكرامه لضيفه:
ومن إكرام الضيف: نبدأ بإكرام الضيف بما جاء عن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم ما جاء في السنة وفي قصص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في كلام العلماء في كتب الأدب.
قال الله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}.[الذاريات:24 - 27]، ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله يقول:" أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، وهذا من إكرام الله تعالى للملائكة على قول، والقول الثاني: إكرام إبراهيم لضيوفه، ولا تنافي بين القولين كلاهما صحيح، فإذاً وصف الله ضيوف إبراهيم بأنهم مكرمين، لأن إبراهيم أكرمهم وهم مكرمون.
ثانياً: قال تعالى:{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ}.[الذاريات:25]، فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أنه عليه السلام كان معروفاً بإكرام الضيفان، فمنزله مطروق، وبابه مفتوح، ولا يحتاج إلى استئذان أحد، فيدخلون مباشرة، بل إن استئذان الداخل هو دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم، فقد تقدم معنا في أدب الاستئذان، أن الإنسان إذا فتح بابه للضيوف فدعاهم إلى وليمة: أن فتح الباب هو إذن، فلا يحتاجون إلى طرق ولا استئذان، مادام فتح الباب الخارجي، وفتح المجلس: معناها هذا هو الإذن، وكان إبراهيم عليه السلام بابه مفتوح دائماً، وعنده مكان خاص للضيوف، يدخلون إليه مباشرة من غير استئذان.{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ}.[الحجر:52].
ثالثاً: قوله: (سلامٌ) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب:{فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ).[الذاريات:25]، والسلام بالرفع أكمل، لماذا؟: لأن قولهم: (سلاماً)،هي جملة فعلية: أسلم سلاماً.
و(سلامٌ): جملة اسمية (سلامٌ) مبتدأ، ومعنى الدوام والثبوت والاستقرار في الجملة الاسمية أكثر من الجملة الفعلية؛ لأن الجملة الاسمية دالة على الثبات وعدم التجدد، والجملة الفعلية تدل على أن الشيء يذهب ويجيء، يزول ويرجع، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قوله سلامٌ أي: عليكم، دالٌ على الثبوت.
رابعاً:أنه حدث المبتدأ من قوله:(قومٌ منكرون)، فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم: احتشم عن مواجهتهم بذلك، ولم يقل: إني أنكرتكم، لم يقل: أنتم قومٌ منكرون،{قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ}.[الذاريات:25]، وهذا الحذف: ألطف في الكلام.
خامساً:أنه بني الفعل من مفعول، فقال:(منكرون)، ولم يقل: إني أنكركم من أنتم؟، ومنكر: صيغة المبني للمفعول حذف فاعله؛ لأنه كره أن يقول: أنا أنكركم، أنا لا أعرفكم، فقال: أنتم غير معروفين.
فهناك فرق في أن يقول لهم مواجهة: إني لا أعرفكم، أنت لست بمعروف، هذا مبني والمبني للمفعول لا يعرف، لكن أنت غير معروف، كره أن يقول لهم ذلك، فهذا أبعد عن التنفير والمواجهة بالخشونة.
سادساً: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بالنزل، وهي الكرامة، والروغان هو: الذهاب باختفاء، بحيث لا يشعر به الضيف، وهذا من كرم رب المنزل -المضيف- أن يذهب باختفاء حتى لا يشق على الضيف ويستحي، فلا يشعر الضيف إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه، ويقول لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فحفظ مشاعر الضيف من إكرامه، وعدم إحراجه أيضاً من إكرامه.
سابعاً: أن إبراهيم ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، وذلك معناه أنه كان بيته مستعداً للإكرام، ولم يذهب إلى السوق ليشتري، أو يذهب إلى الجيران ليستعير، أو يذهب ويقترض، وإنما كل شيء جاهز عنده في البيت، يعني مجهز البيت لخدمة الضيوف، فهذا ما حصل، ثم مجيئه بسرعة:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ}.[الذاريات:26]، ما قال: ثم جاء، لأن ثم تقتضي التراخي، والفاء للتعقيب، مباشرة:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ}.[الذاريات:26]، وهذا يدل على أنه يوجد استعداد دائم، ما عنده خبر أن هؤلاء سيأتون، دخلوا عليه وفاجئوه، ومع ذلك كان مستعداً؛ لأن الإنسان إذا كان مستعداً لعمل الخير، فأول ما تأتيه الفرصة يكون جاهزاً، أما الذي ليس بمستعد، والمسألة ليست في باله، وهو غير متهيئ لها، فإذا فوجئ بها، تفوت الفرصة عليه.
أهل الجهاد في بدر: خرجوا مباشرة مستعدين للجهاد، لكنها فاتت على من؟، على الذي كان يحتاج إلى استعداد، فطوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخرج على أول صيحة، وهذا هو المستعد دائماً.
فإذاً: الاستعداد لعمل الخير: يكسب الإنسان فرصاً عظيمة، كمن يأتي لصلاة الجمعة مستعد دائماً للصدقات -مثلاً- في هذا اليوم الفضيل، بخلاف من تأتيه فرصة عظيمة، ثم يبحث فلا يجد، ويذهب ليقترض أو يذهب إلى البيت ويرجع، وقد ذهبت الفرصة، فالمسألة هي: قضية زيادة في الإيمان، مستوى الإيمان المرتفع بالاستعداد الدائم للخيرات، إبراهيم عليه السلام كان مستعداً باستمرار لعمل الخير: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}.[الذاريات:26]، من الذي جاء؟، هو وليس الخادم ولا السائق ولا صاحب المطعم، هو الذي جاء بالعجل بنفسه، وهذا أبلغ في الإكرام، أن يأتي الإنسان بالضيافة لضيفه بنفسه، ولو كان عنده خدم، ولم يقل: فأمر لهم بعجلٍ سمين، بل هو الذي ذهب وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
ثامناً: أنه جاء بعجلٍ كامل، ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه، فلم يأت بفخذ ولا بكتف ولا بظهر بل بعجل كامل، والعجل: البقر الصغير لحمه من أطيب اللحوم، وليس بقراً غليظاً.
تاسعاً: أنه سمين وليس بهزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أمواله، يذبح العجل الصغير، وهذا إكرام متناهي؛ لأن العجل الصغير عادة يتخذ للاعتناء والتربية، ولكن آثر به ضيفانه، وجاءهم بهذا الصغير ذا اللحم الطري لأجل إكرامهم.
عاشراً: أنه قربه بنفسه، ولم يقل للخدم قربوه أنتم، أو قرب المائدة يا غلام، وإنما قربه هو، ولم يأمر خادمه بذلك.
الحادي عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة: أن تجلس الضيف، ثم تأتي له بالطعام إليه، وتحمله إلى حضرته، ولا تضع الطعام في ناحية، ثم تأمر ضيفك أن يقترب إليه، طبعاً الآن في البيوت هذا قد يكون شبه متعسر؛ لأن الألوان كثيرة، فسيأتي بهذا وبهذا ويضعونه ويجهزونه، ثم يقول للضيوف: ادخلوا، لا حرج في ذلك، وهو من الإكرام على أية حال، وليس ضد الإكرام، لكن إذا جيء به، وسيق به إليهم أفضل وأحسن، افرض أن عندك ما لا يشق نقله، فجئت به على عربة إليهم، أو على طاولة تدرج بها إليهم، هذا أولى من أن تضعه، وتقول: تعالوا أو انزلوا عندك.
الثاني عشر: أنه قال: ألا تأكلون؟!، فاستخدم أسلوب العرض، وهذا تلطف، وهو أحسن من أن يقول: كلوا مدوا أيديكم؟، مالكم لا تمدوا أيديكم؟، نحن أتينا به لمن؟، قال: ألا تأكلون؟.
الثالث عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل، لأنه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفه يحتاجون إلى إذن؛ لأن مجرد تقديم الطعام للضيف هو إذن بأكله؛ وأنت قدمته لأي شيء؟: يتفرجوا عليه؟، فبمجرد التقديم أبحت لهم الأكل، فإذاً لو قلت:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه"، فيقول قائل: لم يأذن، فيقال: إن مجرد التقديم عرفاً هو إذن بالأكل، فحلال عليهم، طيب: فلماذا قال إبراهيم: ألا تأكلون؟، لأنه لاحظ أنهم لا يأكلون، وفي الأصل قدمه إليهم تقديماً كاملاً مع الإذن، ولا يحتاجون إلى كلمة تفضل، لكن لما رأى أنهم لا يأكلون قال: ألا تأكلون؟، ولهذا أوجس منهم خيفة وأحسها.
الرابع عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل من طعامه وخاف منهم، لم يظهر لهم ذلك الخوف، أوجس منهم خيفة، وأخفاه لكن الملائكة علمهم الله. قالوا: لا تخف، وبشروه بالغلام، فجمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب.
قال ابن القيم رحمه الله:" وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف، إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً فصلى الله على إبراهيم".
ومن الآداب: فتح الباب للضيف قبل وصوله، قال الله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.[الزمر:73]، فأبواب جهنم: لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة: فمتقدمٌ فتحها، بدليل قوله تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ}: مفتحة قبل وصولهم، وذلك لأن تقديم فتح الباب في الضيافة على وصول الضيف هو إكرام له، وتأخير باب العذاب على أهل جهنم من باب المفاجأة، حتى يؤخذوا بأشد الأخذ، وهو من زيادة العذاب، فلذلك إذا جاءوها فتحت أبوابها.
صور من إكرام الضيف:
من إكرام الضيف: إيثاره، وقد جاء في صحيح البخاري في القصة العظيمة التي عجب الله من أصحابها وضحك إليهم، وإذا ضحك الله إلى عبدٍ فلا عذاب عليه، وذلك دليل رضاه عز وجل عنه، هذه القصة التي أخفيت في الليل، فنشرها الله في الصباح، وأنزل الوحي بها على نبيه عليه الصلاة والسلام، أن الله في السماوات عجب وضحك إلى هذين الصحابيين الجليلين الرجل وزوجته.
والقصة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جائع يريد من يضيفه، فبعث إلى نسائه عليه الصلاة والسلام، فقلن: ما معنا إلا الماء - وهذا بيت أعظم قائد في الأمة ما عنده إلا ماء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من يضيف هذا؟. فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، قال: هيئي طعامك، وأصلحي سراجكِ، ونومي صبيانكِ إذا أرادوا عشاء -إذا طلبوا الأكل نوميهم- فهيئت طعامها، وأصلحت سراجها، يعني: -أشعلت الفتيلة- ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها - كأنها حركة تمثيلية- فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان".
وليس من الأدب: أنك تغلق النور على الضيف، وإن كان بعض الناس عندهم عادات في الضيافة، منها ما هو حسن، ومنها ما هو قبيح، فبعضهم يغلق النور على الضيف، يقول: حتى لا يستحي، وبعضهم لا يحضر مع الضيف نهائياً، لذلك ابن القيم قال:" تخلف وتكلف في أشياء ما أنزل الله بها من سلطان".
فبطبيعة الحال: لا بد من السراج من أجل أن يرى الضيف، يدخل على بيتٍ منير، لكن في الوقت نفسه، ستكون هناك تمثيلية أخرى بعد قليل يريانه أنهما يأكلان، وهما لا يأكلان حتى لا يشعر هو بالحرج: أنهما لا يأكلان، فلذلك قامت كأنها تصلحه فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان بالصوت ووضع اليد في الإناء ورفعها، وهي ما فيها شيء - كما أن جماعة من الفقراء حضرهم طعام، فأطفئ السراج، وجعلوا يأكلون، فلما طلع النهار وجد الطعام بحاله.
كل واحد يريد أن يؤثر- قال: فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح الضيف وصاحب البيت: غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:" ضحك الله الليلة -أو عجب- من فعالكما فأنزل الله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. [الحشر:9]) رواه البخاري.
فهذا الموقف العظيم: إكرام الضيف وإيثاره بطعام صاحب البيت وزوجته والأطفال، هذا موقف ذكر في السماء، فضحك الرب فرضي عنهما، وأنزلت آية في القرآن بسبب إكرام الضيف، نزلت آية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.[الحشر:9] أي: جوع وحاجة.
قال العلماء: إن طعام الأولاد مقدم على طعام الضيف شرعاً، ولكن إذا كان بهم جوعٌ خفيف لا يضرهم، جاز تقديم الضيف، كما حصل في هذه الآية، وتغلب إكرام الضيف على المشاعر الجياشة للأب والأم لأجل الفقير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا قال: (ألا رجلٌ يضيف هذا الليل يرحمه الله؟) هذه كلمة كافية -دعاء يرحمه الله- في أن يأخذ الضيف ويقدمه على نفسه وزوجته وأولاده، فكان موقفاً عظيماً ذكر في السماء ونزل إلى الأرض وأخبر به أهل الأرض، وكان فيه إخلاص واضح جداً في إطفاء السراج؛ ما أشعر الضيف بأي شيء وأكل ولم يشعر بأن هناك أمر عَكِر أو حرج، ولذلك أهل الإخلاص إذا أخفوا أعمالهم فالله يكشفها ليكونوا قدوة {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
ومن إكرامه كذلك: أن الإنسان ولو كان صائماً فإنه لا ينسى الطعام لأجل الضيوف، فعن أبي أمامة قال: قلت: (يا رسول الله! مرني بعمل أدخل به الجنة؟ فقال عليك بالصوم فإنه لا مثل له) يعني في الأجر لا مثل له، قال الراوي: [فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً -ليس هناك طبخ، صيام دائماً- إلا إذا نزل به ضيفٌ فيرى الدخان نهاراً] رواه عبد الرزاق في المصنف، بل إن الإنسان لا بأس أن يفطر من أجل الضيف إذا كان صائماً صوماً مستحباً إذا كان يشق على الضيف أن يبقى صاحب البيت صائماً، وفي ذلك أحاديث.
وقال عطاء: سألت سلمان بن موسى أكان يفطر الرجل لضيفه؟ قال: نعم.
وكان الحسن يرخص للرجل الصائم إذا نزل به الضيف أن يفطر ويقضي يوماً مكانه، قال: إنه رحمه الله إذا دخل في صوم تطوع استحب له الإتمام لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] ولكن إذا شق على ضيفه صومه فيستحب أن يفطر فيأكل معه لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن لزورك عليك حقاً) يعني: لزوارك، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) أما حديث: (من نزل على قومٍ فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم) فرواه الترمذي وقال: حديث منكر، أما إذا لم يشق على ضيفه صومه التطوع فالأفضل بقاءه على الصيام، فإذاً هذا هو التفصيل، لو أن أحدهم قال: أنا صائم وجاءني ضيف ماذا أفعل؟ نقول: إذا كان لا يشق على الضيف أن تبقى صائماً ولا يشعر بالحرج أنه يجلس يأكل وأنت لا تأكل كبعض إخوانك المقربين الذين عندهم مثل هذا الشيء عادي لو ما أكلت وهم أكلوا لا بأس، فإذاً البقاء على الصيام أفضل، وإن كان هناك مشقة عليهم يروك لا تأكل معهم، أو يراك الضيف لا تأكل معه، فعند ذلك الأفضل أن تفطر لأجل الضيف، وتقضي يوماً مكانه لتحصل الأجرين معاً.
بل نص العلماء على جواز الأكل فوق الحاجة من أجل الضيف، مع أن الأكل فوق الحاجة مكروه، وورد عن بعض الصحابة أن ولده لما أصابه من التخمة مرض قال: لو مات ما صليت عليه لأنه اعتبره مثل القاتل لنفسه الذي يأكل حتى يتفجر فيموت، فما حكم الأكل فوق الحاجة؟ قالوا: مكروه أما إذا وصل لدرجة الهلكة فهذا حرام وانتحار؛ لكن الأكل فوق الحاجة مكروه إلا إذا عرض له غرضٌ صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذٍ لا بأس بذلك ذكروا مثالين: أن يزداد الأكل استعداداً لصيام غد طويل حار.
والمثال الثاني: لأجل الضيف قال: بأن يأتيه ضيفٌ فيأكل الضيف ويستمر الضيف في الأكل وصاحب البيت شبع فيزداد في الأكل من أجل ألا يحرج الضيف؛ لأنه إذا توقف صاحب البيت فربما توقف الضيف وقد يكون الضيف بحاجة الطعام أو فيه جوع، أو أن بدنه أو جسده أعظم أو أكبر وذاك نحيل لا يحتاج إلى طعامٍ كبير فيجوز له أن يزيد عن الشبع لأجل إكرام ضيفه لئلا يخجل.
وكذلك من الآداب إباحة الشريعة السمر مع الضيف بعد العشاء رغم كرهها للكلام بعد العشاء، كما في حديث النهي عن النوم قبل العشاء والكلام بعده -بعد العشاء- إلا لمصليٍ أو مسافر أو مع ضيفه يسامره، ليس سمراً على البلوت والأفلام والكلام القذر والغيبة لأجل الترويح عن الضيف من عناء السفر والإكرام والمباسطة المباسطة جزء كبير من الإكرام سيأتي مزيد عن الكلام عن ضيافة المشرك والتفصيل فيها.
الحلقة:(11): آداب الضيافة:(أ)
آداب الضيافة:
قد جاءت الكثير من الأحاديث الحاثة على إكرام الضيف والمبينة أنه من الإيمان، فالضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه، وهي من سنن المرسلين عليهم السلام، ومن أخلاق السلف رضوان الله عليهم.
وللضيافة أحكام وآداب ذكرها الشيخ في هذه الحلقة.
الحث على إكرام الضيف:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
إكرام الضيف من الآداب العظيمة التي حفلت بها هذه الشريعة المباركة، وأكدت ما كان موجودا ًعند العرب من المعروف في هذا الأمر.
أما ضاف القوم وتضيفهم أي: نزل عليهم ضيفاً وأضافوه وضيفوه أي: أنزلوه، والضيف معروف وجمعه أضياف وضِيفان، والاسم هو الضيافة، ويقال: أضفته إضافة إذا نجى إليك من خوف فأجرته، واستضافني فأضفته استجارني فأجرته، وتضيفني فضيفته إذا طلب القِرى، فإذا طلب الإنسان أن ينزل ضيفاً فيقال: تضيف، والذي يقبل هذا يقال: ضيفه، هكذا في المصباح المنير.
والضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه، وهو من سنن المرسلين، وأول من ضيف الضيف: إبراهيم عليه السلام، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}.[الذاريات:24] فوصفهم بأنهم أكرموا.
وقصته عليه السلام لما قدم لهم عجلاً حنيذاً نزلاً وضيافةً معروفة.
وجاء في بعض الإسرائيليات قصة فيها عبرة: كان إبراهيم عليه السلام لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه، فلقي يوماً رجلاً فلما جلس معه على الطعام. قال له إبراهيم: سم الله، قال له الرجل: لا أدري ما الله!!. قال له: اخرج عن طعامي، فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل، فقال له: يقول الله عز وجل: إنه يرزقه على كفره مدى عمره، وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم مسرعاً فرده، فقال: ارجع، فقال: لا أرجع، تخرجني ثم تردني لغير معنى، فأخبره بالأمر فقال: هذا رب كريم آمنت، ثم دخل عند إبراهيم وسمى الله وأكل بعدما آمن، وستأتي قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، والعبر التي فيها، والآداب المنطوية عليها بالنسبة للضيافة في قصته مع الملائكة.
وأما لوطٌ عليه السلام، فإنه كان يكرم الضيوف أيضاً، كيف لا وهو قد تعلم من إبراهيم عليه السلام، ولما جاءه ضيوفه وجاء قومه يهرعون إليه لعمل الفاحشة، فدافعوه الباب حتى كادوا يغلبونه، وهو يخاطبهم:{هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}.[هود:78]، وأخبر عز وجل أنهم راودوه عن ضيفه، فطمس أعينهم ولم يرجمهم فقط، ولكن طمس أعينهم ثم رجمهم، وهذا دليل على أهمية وخطورة إيذاء الضيف.
وهذه عجوز السوء امرأته التي كانت تدل الفجار على ضيفه، قال الله تعالى فيها:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}. [الأعراف:83]، وقال:{وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}.[هود:81]. لماذا؟، لأنها كانت تدل قومها على الضيفان، وهذه خيانة لزوجها؛ فعذب الله عجوز السوء بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث.
وقد جاء في معرض الذم: ذكر القوم الذين نزل عليهم الخضر وموسى عليهما السلام، فأبوا أن يضيفوهما.
وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان أعظم الناس في إكرام الضيف على الإطلاق، وقد وصفته خديجة بمثل ذلك من أيام الجاهلية، فلما دخل عليها فزعاً مما لقي في الغار بعد نزول سورة اقرأ، وقال:" زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـ خديجة: " أي خديجة مالي؟، لقد خشيت على نفسي؟" - فأخبرها الخبر- فقالت خديجة:" كلا،أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف". والحديث في صحيح البخاري.
منزلة الضيف عند أهل الجاهلية:
كان لأهل الجاهلية شأن عظيم في إكرام الضيف، والذم فيمن لم يكرمه، فجاء الله بهذا الدين الذي رفع شأن هذا الأدب العظيم، وهو إكرام الضيف؛ فأقر ما كان عليه أهل الجاهلية من المعروف في هذا وزاد عليه، وأبطل ما كان معروفاً عندهم في هذه الخصلة وغيرها، كما كانوا يفعلون من بعث الرجل بأمته إلى ضيفه.
وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم قصة عندما ذهبوا مع أبي سعيد رضي الله عنه، وسافروا ونزلوا على حيٍ من أحياء العرب المشركين، فاستضافوهم فأبو أن يضيفوهم حتى لدغ أحدهم، فرقاه أبو سعيد رضي الله عنه على قطيع من الغنم.
وكان قيس بن عاصم الصحابي رضي الله عنه سيد قومه، وكان جواداً حليماً، أخذ الأحنف بن قيس الحلم عنه.
تزوج قيس امرأة، فأحضرت له طعاماً، فقال لها: أين أكيلي؟، فلم تدر ما يقول لها!، فأنشأ يقول:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ÷ أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخاً طارقاً أو جار بيتٍ فإنني ÷ أخاف ملامات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف من غير ذلة ÷ وما في إلا ذاك من شيمة العبد
فسمعه جارٌ له، وكان بخيلاً فقال:
لبيني وبين المرء قيس بن عاصم ÷ بما قال بون في الفعال بعيد
وإنا لنجفو الضيف من غير قلة ÷ مخافة أن يغرى بنا فيعود
وقد أوصى قيس بن خفاف بن عمر بن حنظلة جبيلاً ابنه بقصيدة فيها آداب ومصالح، يقول له فيها:
أجبيل إن أباك كارم يومه ÷ فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل
أوصيك إيصاء امرئ لك ناصحٍ ÷ ظن بغيه الدهر غير معقل
الله تتقه وأوف بنذره ÷ وإذا حلفت ممارياً فتحلل
والضيف تكرمه فإن مبيته ÷ حقٌ ولا تك لعنة للنزل
واعلم بأن الضيف مخبر أهله ÷ بمبيت ليلته وإن لم يسأل
أحاديث في إكرام الضيف:
قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه "، وقال عليه الصلاة والسلام:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟. قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك، فهو صدقة عليه، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه".رواه البخاري ومسلم.
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام:" جائزته يومٌ وليلة"،أي: يكرمه ويتحفه ويحفظه يوماً، وثلاثة أيام ضيافة، وقال الخطابي معناه:" أنه يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث، فيقدم له ما كان بحضرته، الاجتهاد في اليوم الأول هو الجائزة، والثاني والثالث ما كان بحضرته، ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاث، فصدقة ومعروف ليس بواجب عليه، وإذا فعل فهو تطوع منه إن شاء فعل وإن شاء ترك".
وقوله صلى الله عليه وسلم:" ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه"، معناه:" لا يحل للضيف أن يقيم عند المضيف بعد الثلاث من غير استدعاء إلا إذا أصر وألح عليه وطالبه بذلك، لئلا يقع المضيف في الإثم ولئلا يقع في الحرج".
وعن أبي كريمة المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه -أي: الضيف- فهو عليه دين إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه". رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أيما رجل أضاف قوماً، فأصبح الضيف محروماً، فإن نصره حقٌ على كل مسلم -أن تؤخذ له الضيافة- حتى يأخذ بقراء ليلة من زرعه وماله". رواه أبو داود بإسنادٍ حسن كما قال النووي في المجموع شرح المهذب.
وعن عقبة بن عامر قال:" قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقومٍ فلا يقروننا، فما ترى؟. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فأخرجوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له، خذوا منهم". رواه مسلم في صحيحه.
أحكام الضيافة في الشرع:
وحكم الضيافة أنها سنة عند جمهور العلماء، فإذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلماً، استحب له ضيافته ولا تجب، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة ومذهب الشافعي والجمهور.
وقال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل: هي واجبةٌ يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن؛ لأن أهل القرى هم الذين يجتاز بهم المارون، وكذلك البدو الذين يجتاز بهم المارون أصحاب الحاجة، أما أهل المدن فلا، قال الإمام أحمد: هي واجبة يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن، واحتجوا بحديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه عليه جائزته". قال أحمد رحمه الله: والضيافة على كل المسلمين، كل من نزل عليه ضيفٌ، كان عليه أن يضيفه، قيل: إن ضاف الرجل ضيفٌ كافرٌ؟. يعني: إذا طلب الضيافة هل يضيفه؟. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ليلة الضيف حق واجبٌ على كل مسلم"، وهذا الحديث بين، ولما أضاف المشرك النبي عليه الصلاة والسلام: دل على أن المسلم والمشرك يضاف، وأنا أراه كذلك.
والضيافة معناها: صدقة التطوع على المسلم والكافر، واليوم والليلة حق واجب.
فإذاً الإمام أحمد رحمه الله قال: الليلة الأولى واجبة.
وقال الجمهور: الضيافة مستحبة، إلا إذا صار اضطراراً.
فأما بالنسبة لثبوت الحق فهل يأخذه بإذنه وبغير إذنه؟. تقدم القولان عن الإمام أحمد رحمه الله، ولكن هنا ملاحظة أشار لها ابن القيم في أعلام الموقعين وابن رجب في القواعد وهي: أن الحق إذا كان سبب ثبوته ظاهراً، فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هنداً، وأفتى به الضيف إذا لم يقره من نزل عليه، كما في سنن أبي داود قال:" فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه"، وفي رواية:" نزل بقومٍ فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه) يعني: لو أتى بفاتورة فقال لهم: سددوا لأنكم لم تضيفوني وهو حق واجب.
قال: وإن كان سبب الحق خفياً لم يجز له ذلك كما أفتى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) هكذا في أعلام الموقعين.
فإذاً لو أن شخصاً نزل عليهم فقالوا: ليس لك شيء، اتركه واجلس إلى يوم القيامة، مع أن حقه واضح للناس الغادين والرائحين، فلو أخذه بغير إذنهم وعدا على غنمٍ لهم أو على شيء فأخذه بالإكراه فحقه واضح يعني: لو أخذ لا يتهم عند الناس.
كذلك المرأة التي زوجها بخيل فإن نفقتها واجبة عليه، فإذا لم ينفق عليها فلها أن تأخذ منه -وهذا حق- ولو بغير إذنه، لكن لو كان سبب الحق خفياً - مثلاً- أحد الأشخاص اختلس منك مالاً، ثم استأمنك على ماله، فلا يجوز أن تختلس منه خفيةً مادام الحق ليس ثابتاً ظاهراً فلا يجوز الاختلاس، وبهذا يجاب على من سأل من العمال والموظفين، قائلٌ: إن صاحب العمل قد أكل شيئاً من حقي، وأنا محاسب ويمكن أن آخذ حقي الذي أخذه مني خلسة دون أن يعلم أحد، فإذا لم يكن حقه ظاهراً مثبتاً يعلم، فلا يجوز له أن يأخذ خلسة، وهذا معنى حديث:" ولا تخن من خانك". رواه الترمذي وهو حديث حسن.
ومن أهمية هذا الأمر -إكرام الضيف- ما ذكره المفسرون كمجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى:{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}.[النساء:148] قال:" إنما نزلت في الضيافة، إذا نزل رجلٌ على رجلٍ ضيفاً، فلم يقم به: جاز له إذا خرج عنه أن يذكر ذلك، يقول: ما ضيفني ولا أعطاني ولا أكرمني:{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}.[النساء:148]، قالوا: نزلت في الشخص الذي ينزل ضيفاً، فلا يعطى ولا يقرى ولا يكرم، فإذا جهر بالسوء عليهم بما منعوه من حقه: جاز له ذلك؛ لأنه ظلم.
وذكر العلماء في أسباب تحريم اتخاذ الكلاب قالوا: إنها تروع الضيف وابن السبيل، كما ذكره العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام، فلذلك من اتخذها نقص من أجره كل يوم قيراط، لكن كان بعض أهل الجاهلية يمتدحون أنفسهم، أو يتباهون بأن كلابهم لا تنبح على الضيوف، وأنهم علموها ذلك فصارت لا تنبح على الضيفان.
فهذا المعنى المذكور في منع اتخاذ الكلاب لأهمية مسألة إكرام الضيوف.
وكذلك قيل: بمشروعية الاستدانة لإكرام الضيف، فذكر السرخسي رحمه الله من الحنفية: إن ما استدانه لقرى الضيف لو استدان شخص مالاً ليقري ضيفه، فهو كما استدانه لنفقته ومصلحة نفسه حتى قالوا: يعطى من سهم الغارمين، لأن هذا حق لا بد أن يقوم به، استدان فصار غارماً فيعطى من حق الغارمين، لكن من هذا الذي يضيف بحق، لأن هناك من يظلمون أنفسهم فيضيفون بغير حق، يذبحون الذبائح فيرهقون أنفسهم ثم يطوفون على الناس ويقولون: أعطونا نحن نذبح ذبائح.
ومن أهمية إكرام الضيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في اتخاذ فراشٍ خاصٍ له، ولم يعد فراشاً زائداً في البيت من أجل الضيف، ولم يعد هذا ترفاً، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن:" فراشٌ للرجل وفراشٌ لامرأته وفراش للضيف وفراش للشيطان".حديث صحيح.
ومن أهمية إكرام الضيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرشد عمر إلى اتخاذ الوقف، جعل عمر من مصارف الوقف: إكرام الضيف، وذلك في الأرض التي أصابها عمر بخيبر قال عليه الصلاة والسلام مرشداً وناصحاً:" إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها". حبس الأصل: هو الوقف وتسبيل الثمرة، وأي منفعة تنفق في الخير، والأصل محبوس قال:" إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها". قال: فتصدق بها عمر، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب ولا يورث، فتصدق بها في الفقراء - نص عمر على ذلك، وكتبه وجعله عند حفصة، وهي قائمة على وقفه- فتصدق بها في الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف"، وقد روى ذلك البخاري رحمه الله، وعبد الرزاق وغيره من أهل العلم وهو حديث مشهور.
إبراهيم عليه السلام وإكرامه لضيفه:
ومن إكرام الضيف: نبدأ بإكرام الضيف بما جاء عن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم ما جاء في السنة وفي قصص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في كلام العلماء في كتب الأدب.
قال الله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}.[الذاريات:24 - 27]، ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله يقول:" أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، وهذا من إكرام الله تعالى للملائكة على قول، والقول الثاني: إكرام إبراهيم لضيوفه، ولا تنافي بين القولين كلاهما صحيح، فإذاً وصف الله ضيوف إبراهيم بأنهم مكرمين، لأن إبراهيم أكرمهم وهم مكرمون.
ثانياً: قال تعالى:{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ}.[الذاريات:25]، فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أنه عليه السلام كان معروفاً بإكرام الضيفان، فمنزله مطروق، وبابه مفتوح، ولا يحتاج إلى استئذان أحد، فيدخلون مباشرة، بل إن استئذان الداخل هو دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم، فقد تقدم معنا في أدب الاستئذان، أن الإنسان إذا فتح بابه للضيوف فدعاهم إلى وليمة: أن فتح الباب هو إذن، فلا يحتاجون إلى طرق ولا استئذان، مادام فتح الباب الخارجي، وفتح المجلس: معناها هذا هو الإذن، وكان إبراهيم عليه السلام بابه مفتوح دائماً، وعنده مكان خاص للضيوف، يدخلون إليه مباشرة من غير استئذان.{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ}.[الحجر:52].
ثالثاً: قوله: (سلامٌ) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب:{فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ).[الذاريات:25]، والسلام بالرفع أكمل، لماذا؟: لأن قولهم: (سلاماً)،هي جملة فعلية: أسلم سلاماً.
و(سلامٌ): جملة اسمية (سلامٌ) مبتدأ، ومعنى الدوام والثبوت والاستقرار في الجملة الاسمية أكثر من الجملة الفعلية؛ لأن الجملة الاسمية دالة على الثبات وعدم التجدد، والجملة الفعلية تدل على أن الشيء يذهب ويجيء، يزول ويرجع، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قوله سلامٌ أي: عليكم، دالٌ على الثبوت.
رابعاً:أنه حدث المبتدأ من قوله:(قومٌ منكرون)، فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم: احتشم عن مواجهتهم بذلك، ولم يقل: إني أنكرتكم، لم يقل: أنتم قومٌ منكرون،{قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ}.[الذاريات:25]، وهذا الحذف: ألطف في الكلام.
خامساً:أنه بني الفعل من مفعول، فقال:(منكرون)، ولم يقل: إني أنكركم من أنتم؟، ومنكر: صيغة المبني للمفعول حذف فاعله؛ لأنه كره أن يقول: أنا أنكركم، أنا لا أعرفكم، فقال: أنتم غير معروفين.
فهناك فرق في أن يقول لهم مواجهة: إني لا أعرفكم، أنت لست بمعروف، هذا مبني والمبني للمفعول لا يعرف، لكن أنت غير معروف، كره أن يقول لهم ذلك، فهذا أبعد عن التنفير والمواجهة بالخشونة.
سادساً: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بالنزل، وهي الكرامة، والروغان هو: الذهاب باختفاء، بحيث لا يشعر به الضيف، وهذا من كرم رب المنزل -المضيف- أن يذهب باختفاء حتى لا يشق على الضيف ويستحي، فلا يشعر الضيف إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه، ويقول لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فحفظ مشاعر الضيف من إكرامه، وعدم إحراجه أيضاً من إكرامه.
سابعاً: أن إبراهيم ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، وذلك معناه أنه كان بيته مستعداً للإكرام، ولم يذهب إلى السوق ليشتري، أو يذهب إلى الجيران ليستعير، أو يذهب ويقترض، وإنما كل شيء جاهز عنده في البيت، يعني مجهز البيت لخدمة الضيوف، فهذا ما حصل، ثم مجيئه بسرعة:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ}.[الذاريات:26]، ما قال: ثم جاء، لأن ثم تقتضي التراخي، والفاء للتعقيب، مباشرة:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ}.[الذاريات:26]، وهذا يدل على أنه يوجد استعداد دائم، ما عنده خبر أن هؤلاء سيأتون، دخلوا عليه وفاجئوه، ومع ذلك كان مستعداً؛ لأن الإنسان إذا كان مستعداً لعمل الخير، فأول ما تأتيه الفرصة يكون جاهزاً، أما الذي ليس بمستعد، والمسألة ليست في باله، وهو غير متهيئ لها، فإذا فوجئ بها، تفوت الفرصة عليه.
أهل الجهاد في بدر: خرجوا مباشرة مستعدين للجهاد، لكنها فاتت على من؟، على الذي كان يحتاج إلى استعداد، فطوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخرج على أول صيحة، وهذا هو المستعد دائماً.
فإذاً: الاستعداد لعمل الخير: يكسب الإنسان فرصاً عظيمة، كمن يأتي لصلاة الجمعة مستعد دائماً للصدقات -مثلاً- في هذا اليوم الفضيل، بخلاف من تأتيه فرصة عظيمة، ثم يبحث فلا يجد، ويذهب ليقترض أو يذهب إلى البيت ويرجع، وقد ذهبت الفرصة، فالمسألة هي: قضية زيادة في الإيمان، مستوى الإيمان المرتفع بالاستعداد الدائم للخيرات، إبراهيم عليه السلام كان مستعداً باستمرار لعمل الخير: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}.[الذاريات:26]، من الذي جاء؟، هو وليس الخادم ولا السائق ولا صاحب المطعم، هو الذي جاء بالعجل بنفسه، وهذا أبلغ في الإكرام، أن يأتي الإنسان بالضيافة لضيفه بنفسه، ولو كان عنده خدم، ولم يقل: فأمر لهم بعجلٍ سمين، بل هو الذي ذهب وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
ثامناً: أنه جاء بعجلٍ كامل، ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه، فلم يأت بفخذ ولا بكتف ولا بظهر بل بعجل كامل، والعجل: البقر الصغير لحمه من أطيب اللحوم، وليس بقراً غليظاً.
تاسعاً: أنه سمين وليس بهزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أمواله، يذبح العجل الصغير، وهذا إكرام متناهي؛ لأن العجل الصغير عادة يتخذ للاعتناء والتربية، ولكن آثر به ضيفانه، وجاءهم بهذا الصغير ذا اللحم الطري لأجل إكرامهم.
عاشراً: أنه قربه بنفسه، ولم يقل للخدم قربوه أنتم، أو قرب المائدة يا غلام، وإنما قربه هو، ولم يأمر خادمه بذلك.
الحادي عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة: أن تجلس الضيف، ثم تأتي له بالطعام إليه، وتحمله إلى حضرته، ولا تضع الطعام في ناحية، ثم تأمر ضيفك أن يقترب إليه، طبعاً الآن في البيوت هذا قد يكون شبه متعسر؛ لأن الألوان كثيرة، فسيأتي بهذا وبهذا ويضعونه ويجهزونه، ثم يقول للضيوف: ادخلوا، لا حرج في ذلك، وهو من الإكرام على أية حال، وليس ضد الإكرام، لكن إذا جيء به، وسيق به إليهم أفضل وأحسن، افرض أن عندك ما لا يشق نقله، فجئت به على عربة إليهم، أو على طاولة تدرج بها إليهم، هذا أولى من أن تضعه، وتقول: تعالوا أو انزلوا عندك.
الثاني عشر: أنه قال: ألا تأكلون؟!، فاستخدم أسلوب العرض، وهذا تلطف، وهو أحسن من أن يقول: كلوا مدوا أيديكم؟، مالكم لا تمدوا أيديكم؟، نحن أتينا به لمن؟، قال: ألا تأكلون؟.
الثالث عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل، لأنه رآهم لا يأكلون، ولم يكن ضيوفه يحتاجون إلى إذن؛ لأن مجرد تقديم الطعام للضيف هو إذن بأكله؛ وأنت قدمته لأي شيء؟: يتفرجوا عليه؟، فبمجرد التقديم أبحت لهم الأكل، فإذاً لو قلت:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه"، فيقول قائل: لم يأذن، فيقال: إن مجرد التقديم عرفاً هو إذن بالأكل، فحلال عليهم، طيب: فلماذا قال إبراهيم: ألا تأكلون؟، لأنه لاحظ أنهم لا يأكلون، وفي الأصل قدمه إليهم تقديماً كاملاً مع الإذن، ولا يحتاجون إلى كلمة تفضل، لكن لما رأى أنهم لا يأكلون قال: ألا تأكلون؟، ولهذا أوجس منهم خيفة وأحسها.
الرابع عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل من طعامه وخاف منهم، لم يظهر لهم ذلك الخوف، أوجس منهم خيفة، وأخفاه لكن الملائكة علمهم الله. قالوا: لا تخف، وبشروه بالغلام، فجمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب.
قال ابن القيم رحمه الله:" وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف، إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً فصلى الله على إبراهيم".
ومن الآداب: فتح الباب للضيف قبل وصوله، قال الله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}.[الزمر:73]، فأبواب جهنم: لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة: فمتقدمٌ فتحها، بدليل قوله تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ}: مفتحة قبل وصولهم، وذلك لأن تقديم فتح الباب في الضيافة على وصول الضيف هو إكرام له، وتأخير باب العذاب على أهل جهنم من باب المفاجأة، حتى يؤخذوا بأشد الأخذ، وهو من زيادة العذاب، فلذلك إذا جاءوها فتحت أبوابها.
صور من إكرام الضيف:
من إكرام الضيف: إيثاره، وقد جاء في صحيح البخاري في القصة العظيمة التي عجب الله من أصحابها وضحك إليهم، وإذا ضحك الله إلى عبدٍ فلا عذاب عليه، وذلك دليل رضاه عز وجل عنه، هذه القصة التي أخفيت في الليل، فنشرها الله في الصباح، وأنزل الوحي بها على نبيه عليه الصلاة والسلام، أن الله في السماوات عجب وضحك إلى هذين الصحابيين الجليلين الرجل وزوجته.
والقصة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جائع يريد من يضيفه، فبعث إلى نسائه عليه الصلاة والسلام، فقلن: ما معنا إلا الماء - وهذا بيت أعظم قائد في الأمة ما عنده إلا ماء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من يضيف هذا؟. فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، قال: هيئي طعامك، وأصلحي سراجكِ، ونومي صبيانكِ إذا أرادوا عشاء -إذا طلبوا الأكل نوميهم- فهيئت طعامها، وأصلحت سراجها، يعني: -أشعلت الفتيلة- ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها - كأنها حركة تمثيلية- فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان".
وليس من الأدب: أنك تغلق النور على الضيف، وإن كان بعض الناس عندهم عادات في الضيافة، منها ما هو حسن، ومنها ما هو قبيح، فبعضهم يغلق النور على الضيف، يقول: حتى لا يستحي، وبعضهم لا يحضر مع الضيف نهائياً، لذلك ابن القيم قال:" تخلف وتكلف في أشياء ما أنزل الله بها من سلطان".
فبطبيعة الحال: لا بد من السراج من أجل أن يرى الضيف، يدخل على بيتٍ منير، لكن في الوقت نفسه، ستكون هناك تمثيلية أخرى بعد قليل يريانه أنهما يأكلان، وهما لا يأكلان حتى لا يشعر هو بالحرج: أنهما لا يأكلان، فلذلك قامت كأنها تصلحه فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان بالصوت ووضع اليد في الإناء ورفعها، وهي ما فيها شيء - كما أن جماعة من الفقراء حضرهم طعام، فأطفئ السراج، وجعلوا يأكلون، فلما طلع النهار وجد الطعام بحاله.
كل واحد يريد أن يؤثر- قال: فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح الضيف وصاحب البيت: غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:" ضحك الله الليلة -أو عجب- من فعالكما فأنزل الله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. [الحشر:9]) رواه البخاري.
فهذا الموقف العظيم: إكرام الضيف وإيثاره بطعام صاحب البيت وزوجته والأطفال، هذا موقف ذكر في السماء، فضحك الرب فرضي عنهما، وأنزلت آية في القرآن بسبب إكرام الضيف، نزلت آية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.[الحشر:9] أي: جوع وحاجة.
قال العلماء: إن طعام الأولاد مقدم على طعام الضيف شرعاً، ولكن إذا كان بهم جوعٌ خفيف لا يضرهم، جاز تقديم الضيف، كما حصل في هذه الآية، وتغلب إكرام الضيف على المشاعر الجياشة للأب والأم لأجل الفقير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا قال: (ألا رجلٌ يضيف هذا الليل يرحمه الله؟) هذه كلمة كافية -دعاء يرحمه الله- في أن يأخذ الضيف ويقدمه على نفسه وزوجته وأولاده، فكان موقفاً عظيماً ذكر في السماء ونزل إلى الأرض وأخبر به أهل الأرض، وكان فيه إخلاص واضح جداً في إطفاء السراج؛ ما أشعر الضيف بأي شيء وأكل ولم يشعر بأن هناك أمر عَكِر أو حرج، ولذلك أهل الإخلاص إذا أخفوا أعمالهم فالله يكشفها ليكونوا قدوة {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
ومن إكرامه كذلك: أن الإنسان ولو كان صائماً فإنه لا ينسى الطعام لأجل الضيوف، فعن أبي أمامة قال: قلت: (يا رسول الله! مرني بعمل أدخل به الجنة؟ فقال عليك بالصوم فإنه لا مثل له) يعني في الأجر لا مثل له، قال الراوي: [فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً -ليس هناك طبخ، صيام دائماً- إلا إذا نزل به ضيفٌ فيرى الدخان نهاراً] رواه عبد الرزاق في المصنف، بل إن الإنسان لا بأس أن يفطر من أجل الضيف إذا كان صائماً صوماً مستحباً إذا كان يشق على الضيف أن يبقى صاحب البيت صائماً، وفي ذلك أحاديث.
وقال عطاء: سألت سلمان بن موسى أكان يفطر الرجل لضيفه؟ قال: نعم.
وكان الحسن يرخص للرجل الصائم إذا نزل به الضيف أن يفطر ويقضي يوماً مكانه، قال: إنه رحمه الله إذا دخل في صوم تطوع استحب له الإتمام لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] ولكن إذا شق على ضيفه صومه فيستحب أن يفطر فيأكل معه لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن لزورك عليك حقاً) يعني: لزوارك، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) أما حديث: (من نزل على قومٍ فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم) فرواه الترمذي وقال: حديث منكر، أما إذا لم يشق على ضيفه صومه التطوع فالأفضل بقاءه على الصيام، فإذاً هذا هو التفصيل، لو أن أحدهم قال: أنا صائم وجاءني ضيف ماذا أفعل؟ نقول: إذا كان لا يشق على الضيف أن تبقى صائماً ولا يشعر بالحرج أنه يجلس يأكل وأنت لا تأكل كبعض إخوانك المقربين الذين عندهم مثل هذا الشيء عادي لو ما أكلت وهم أكلوا لا بأس، فإذاً البقاء على الصيام أفضل، وإن كان هناك مشقة عليهم يروك لا تأكل معهم، أو يراك الضيف لا تأكل معه، فعند ذلك الأفضل أن تفطر لأجل الضيف، وتقضي يوماً مكانه لتحصل الأجرين معاً.
بل نص العلماء على جواز الأكل فوق الحاجة من أجل الضيف، مع أن الأكل فوق الحاجة مكروه، وورد عن بعض الصحابة أن ولده لما أصابه من التخمة مرض قال: لو مات ما صليت عليه لأنه اعتبره مثل القاتل لنفسه الذي يأكل حتى يتفجر فيموت، فما حكم الأكل فوق الحاجة؟ قالوا: مكروه أما إذا وصل لدرجة الهلكة فهذا حرام وانتحار؛ لكن الأكل فوق الحاجة مكروه إلا إذا عرض له غرضٌ صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذٍ لا بأس بذلك ذكروا مثالين: أن يزداد الأكل استعداداً لصيام غد طويل حار.
والمثال الثاني: لأجل الضيف قال: بأن يأتيه ضيفٌ فيأكل الضيف ويستمر الضيف في الأكل وصاحب البيت شبع فيزداد في الأكل من أجل ألا يحرج الضيف؛ لأنه إذا توقف صاحب البيت فربما توقف الضيف وقد يكون الضيف بحاجة الطعام أو فيه جوع، أو أن بدنه أو جسده أعظم أو أكبر وذاك نحيل لا يحتاج إلى طعامٍ كبير فيجوز له أن يزيد عن الشبع لأجل إكرام ضيفه لئلا يخجل.
وكذلك من الآداب إباحة الشريعة السمر مع الضيف بعد العشاء رغم كرهها للكلام بعد العشاء، كما في حديث النهي عن النوم قبل العشاء والكلام بعده -بعد العشاء- إلا لمصليٍ أو مسافر أو مع ضيفه يسامره، ليس سمراً على البلوت والأفلام والكلام القذر والغيبة لأجل الترويح عن الضيف من عناء السفر والإكرام والمباسطة المباسطة جزء كبير من الإكرام سيأتي مزيد عن الكلام عن ضيافة المشرك والتفصيل فيها.







