رد: القولُ الفاصل فيمن رأى أن التوسل بـــــاطل .. ممنوع الدوران في الحلقات المُف
16-02-2009, 03:50 AM
الفصل الثالث: التوسل المشروع وأنواعه
عرفنا مما سبق أن هناك قضيتين مستقلتين، أولاهما: وجوب أن يكون التوسل به مشروعاً، وذلك لا يعرف إلا بدليل صحيح من الكتاب والسنة، وثانيهما: أن يكون التوسل بسبب كوني صحيحاً يوصل إلى المطلوب.
ونحن نعلم أن الله عز وجل أمرنا بدعائه سبحانه والاستغاثة به، فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}1. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}2.
وقد شرع لنا عز شأنه أنواعاً من التوسلات المشروعة المفيدة المحققة للغرض، والتي تكفل الله بإجابة الداعي بها، إذا توفرت شروط الدعاء الأخرى، فلننظر الآن فيم تدل عليه النصوص الشرعية الثابتة من التوسل دون تعصب أو تحيز.
إن الذي ظهر لنا بعد تتبع ما ورد في الكتاب الكريم والسنة المطهرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة غافر: الآية 60.
2 سورة البقرة: الآية 186.
أن هناك ثلاثة أنواع للتوسل شرعها الله تعالى، وحث عليها، وَرَدَ بعضها في القرآن، واستعملها الرسول صلى الله عليه وسلم وحض عليها، وليس في هذه الأنواع التوسل بالذوات أو الجاهات أو الحقوق أو المقامات، فدل ذلك على عدم مشروعيته وعدم دخوله في عموم "الوسيلة" المذكورة في الآيتين السالفتين.
أما الأنواع المشار إليها من التوسل المشروع فهي:
1- التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا:
كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير أن تعافيني. أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي. ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبك لمحمد صلى الله عليه وسلم. فإن الحب من صفاته تعالى.
ودليل مشروعية هذا التوسل قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}1. والمعنى: ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى. ولا شك أن صفاته العليا عز وجل داخلة في هذا الطلب، لأن أسماءه الحسنى سبحانه صفات له، خصت به تبارك وتعالى.
ومن ذلك ما ذكره الله تعالى من دعاء سليمان عليه السلام حيث قال: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف: الآية 180.
2 سورة النمل: الآية 19.
ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أدعيته الثابتة عنه قبل السلام من صلاته صلى الله عليه وسلم: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي"1.
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول في تشهده: "اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم" فقال صلى الله عليه وسلم "قد غفر له قد غفر له"2.
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً آخر يقول في تشهده: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار" فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "تدرون بما دعا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم "وفي رواية: "الأعظم"الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي"3.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من كثر همه فليقل: "اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحد من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه النسائي والحاكم وصححه, ووافقه الذهبي, وهو كما قالا.
2 رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم وإسناده صحيح.
3 رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم وإسناده صحيح.
أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي" إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا"1.
ومنها ما ورد في استعاذته صلى الله عليه وسلم وهي قوله: "اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني.."2.
ومنها ما رواه أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان إذا حزبه3 أمر قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"4.
فهذه الأحاديث وما شابهها تبين مشروعية التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه أو صفه من صفاته، وأن ذلك مما يحبه الله سبحانه ويرضاه، ولذلك استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}5. فكان من المشروع لنا أن ندعوه سبحانه بما دعاه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فذلك خير ألف مرة من الدعاء بأدعية ننشئها، وصيغ نخترعها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أحمد "3712" واللفظ له والحاكم "1/905" وغيرهما, وإسناده صحيح كما بينته في "السلسلة الصحيحة- 199" ورددت على من ضعفه. مكتبة المعارف للنشر والتوزيع- الرياض.
2 متفق عليه.
3 أي أهمه وأحزنه.
4 رواه الترمذي "1/267- تحفة" والحاكم "1/905" وهو حديث حسن.
5 سورة الحشر: الآية 8.
2 ـ التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي:
كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك اغفر لي.. أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد صلى الله عليه وسلم
وإيماني به أن تفرج عني.. ومنه أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بالٍ، فيه خوفه من الله سبحانه، وتقواه إياه، وإيثاره رضاه على كل شيء، وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه، ليكون أرجى لقبوله وإجابته.
وهذا توسل جيد وجميل قد شرعه الله تعالى وارتضاه، ويدل على مشروعيته قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}1 وقوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}2 وقوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}3 وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}4 وأمثال هذه الآيات الكريمات المباركات. وكذلك يدل على مشروعية هذا النوع من التوسل ما رواه بريدة بن الحٌصَيب - رضي الله عنه - حيث قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحداً"، فقال: "قد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب"5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران: الآية 16.
2 سورة آل عمران: الآية 53.
3 سورة آل عمران: 193 و 194.
4 سورة المؤمنون: الآية 109.
5 رواه أحمد "5/349 و 350" وأبو داود "1493" وغيرهما, وإسناده صحيح.
ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار، كما يرويها عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم" - وفي رواية لمسلم: "فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله، فادعوا الله بها، لعل الله يفرجها عنكم -. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبُقُ1 قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب شيء" - وفي رواية لمسلم: "الشجر" - "يوماً، فلم أرٍحْ2 عليهما ، حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج." قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سَنَة3 من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومئة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغبوق: هو الذي يشرب العشي, ومعناه: كنت لا أقدم عليهما في شرب اللبن أهلا و لا غيرهم, عن "الترغيب والترهيب".
2 المراح: موضع مبيت الماشية, والمعني: لم أرد الماشية من المرعى إلى حظائرها.
3 السنة: العام المقحط الذي لم تنبت الأرض فيه شيئا, سواء نزل غيث أم لم ينزل "عن الترغيب والترهيب"
أحل لك أن تفض - وفي رواية لمسلم: "يا عبد الله اتق الله، ولا تفتح" - "الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدّ لي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله ! لا تستهزئ بي. فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة … فخرجوا يمشون"1.
ويتضح من هذا الحديث أن هؤلاء الرجال المؤمنين الثلاثة حينما اشتد بهم الكرب، وضاق بهم الأمر، ويئسوا من أن يأتيهم الفرج من كل طريق إلا طريق الله تبارك وتعالى وحده، فلجأوا إليه، ودعوه بإخلاص واستذكروا أعمالاً لهم صالحة، كانوا تعرفوا فيها إلى الله في أوقات الرخاء، راجين أن يتعرف إليهم ربهم مقابلها في أوقات الشدة، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه: ".. تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"2 فتوسلوا إليه سبحانه بتلك الأعمال ؛ توسل الأول ببره والديه، وعطفه عليهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الإجارة واللفظ له ولمسلم والنسائي وغيرهم.
2 رواه أحمد عن ابن عباس وإسناده صحيح لغيره كما بينته في "ظلال الجنة تخريج السنة" لابن أبي عاصم. يراجع "138".
ورأفته الشديدة بهما حتى كان منه ذلك الموقف الرائع الفريد، وما أحسب إنساناً آخر، - حاشا الأنبياء ـ يصل بره بوالديه إلى هذا الحد.
وتوسل الثاني بعفته من الزنى بابنة عمه التي أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء بعدما قدر عليها، واستسلمت له مكروهة بسبب الجوع والحاجة، ولكنها ذكرته بالله عز وجل، فتذكر قلبه، وخشعت جوارحه، وتركها والمال الذي أعطاها.
وتوسل الثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته التي كانت فَرَقاَ1 من أرز كما ورد في رواية صحيحة للحديث وذهب، فنماها له صاحب العمل، وثمرها حتى كانت منها الشاه والبقر والأبل والرقيق، فلما احتاج الأجير إلى المال ذكر أجرته الزهيدة عند صاحبه، فجاءه وطالبه بحقه، فأعطاه تلك الأموال كلها، فدهش وظنه يستهزىء به، ولكنه لما تيقن منه الجد، وعرف أنه ثمرّ له أجره حتى تجمعت منه تلك الأموال، استساقها فرحاً مذهولاً، ولم يترك منها شيئاً. وأيْم الله إن صنيع رب العمل هذا بالغ حد الروعة في الإحسان إلى العامل، ومحقق المثل الأعلى الممكن في رعايته وإكرامه، مما لا يصل إلى عشر معشاره موقف كل من يدعي نصرة العمال والكادحين، ويتاجر بدعوى حماية الفقراء والمحتاجين، وإنصافهم وإعطائهم حقوقهم. دعا هؤلاء الثلاثة ربهم سبحانه متوسلين إليه بهذه الأعمال الصالحة أي صلاح، والمواقف الكريمة أي كرم، معلنين أنهم إنما فعلوها ابتغاء رضوان الله تعالى وحده، لم يريدوا بها دنيا قريبة أو مصلحة عاجلة أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مكيال تقدر سعته بثلاثة آصع.
مالاً، ورجوا الله جل شأنه أن يفرج عنهم ضائقتهم، ويخلصهم من محنتهم، فاستجاب سبحانه دعاءهم، وكشف كربهم، وكان عند حسن ظنهم به، فخرق لهم العادات وأكرمهم بتلك الكرامة الظاهرة، فأزاح الصخرة بالتدرج على مراحل ثلاث، كلما دعا واحد منهم تنفرج بعض الانفراج حتى انفرجت تماماً مع آخر دعوة الثالث بعد أن كانوا في موت محقق. ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يروي لنا هذه القصة الرائعة التي كانت في بطون الغيب، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ليذكرنا بأعمال فاضلة مثالية لأناس فاضلين مثاليين من أتباع الرسل السابقين، لنقتدي بهم، ونتأسى بأعمالهم، ونأخذ من أخبارهم الدروس الثمينة، والعظات البالغة. ولا يقولن قائل: إن هذه الأعمال جرت قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا تنطبق علينا بناء على ما هو الراجح في علم الأصول أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا. لأننا نقول: إن حكاية النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الحادثة إنما جاءت في سياق المدح والثناء، والتعظيم والتبجيل، وهذا إقرار منه صلى الله عليه وسلم بذلك، بل هو أكثر من إقرار لما قاموا به من التوسل بأعمالهم الصالحة المذكورة، بل إن هذا ليس إلا شرحاً وتطبيقاً عملياً للآيات المتقدمة، وبذلك تتلاقى الشرائع السماوية في تعاليمها وتوجيهاتها، ومقاصدها وغاياتها، ولا غرابة في ذلك، فهي تنبع من معين واحد، وتخرج من مشكاة واحدة، وخاصة فيما يتعلق بحال الناس مع ربهم سبحانه، فهي لا تكاد تختلف إلا في القليل النادر الذي يقتضي حكمة الله سبحانه تغييره وتبدليه.
3- التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح:
كأن يقول المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى، فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعوا له ربه، ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه. فهذا نوع آخر من التوسل المشروع، دلت عليه الشريعة المطهرة، وأرشدت إليه، وقد وردت أمثلة منه في السنة الشريفة، كما وقعت نماذج منه من فعل الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، فمن ذلك ما رواه أنس ابن مالك - رضي الله عنه - حيث قال: أصاب الناس سنَة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب [على المنبر 2/22] قائماً في يوم الجمعة، قام [وفي راوية: دخل 2/16] أعرابي [من أهل البدو 2/21] [من باب كان وجَاه المنبر] [نحو دار القضاء ورسول الله قائم، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً 2/17] فقال: يا رسول الله! هلك المال، وجاع [وفي رواية: هلك] العيال [ومن طريق أخرى: هلك الكُراع، وهلك الشاء]1 [وفي أخرى هلكت المواشي، وانقطعت السبل] فادعُ الله لنا [أن يَسْقِيَنا] [وفي أخرى: يُغيثنا] فرفع يديه يدعو [حتى رأيت بياض إبطه]: [اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا]، [ورفع الناس أيديهم معه يدعون،] [ولم يذكر أنه حوَّل رداءه، ولا استقبل القبلة 2/18] و [لا والله] ما نرى في السماء [من سحاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكراع: الخيل, الشاء: جمع شاة وهي الغنم.
ولا] قزعة1 [ولا شيئاً، وما بيننا وبين سَلْع2 من بيت ولا دار] [وفي رواية: قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة] [قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت] فوالذي نفسه بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطرَ يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم [وفي رواية: فهاجت ريح أنشأت سحاباً، ثم اجتمع، ثم أرسلت السماءُ عزاليها3 [ونزل عن المنبر فصلى 2/19] [فخرجنا نخوض الماس حتى أتينا منازلنا] [وفي رواية: حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله 7/154] فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى [ما تقلع]4 [حتى سالت مثاعب المدينة]5 [وفي رواية: فلا والله ما رأينا الشمس ستاً].
وقام ذلك الأعرابي أو غيره [وفي رواية: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً] فقال: يا رسول الله تهدم البناء [وفي رواية: تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي] [وفي طريق: بشَق المسافر6، ومُنع الطريق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قطعة من السحاب الصغار المتفرق.
2 جبل في المدينة.
3 عزاليها: جمع عزلاء وهو فم المزادة الأسفل, وفيه تشبيه غزارة المطر وشدته بالماء الخارج من أفواه القرب المصبوبة.
4 ماتقع: أي ماتنقطع.
5 أي مجاري المياه.
6 أي قطع به السير.
وغرق المال، فادع الله [يحبُسه] لنا [فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ] فرفع يده، فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا، [اللهم على رؤوس الجبال والإكام [والظراب]1 وبطون الأودية ومنابت الشجر] فما [جعل] يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت مثل الجوْبَة2، [وفي رواية: فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة [يميناً وشمالاً] كأنه إكليل] [وفي أخرى: فانْجابَتْ ]3 عن المدينة انجياب الثوب] [يمطر ما حولينا ولا يمطر فيها شيء [وفي طريق:قطرة] [وخرجنا نمشي في الشمس] يريهم الله كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجابة دعوته]، وسال الوادي [وادي] قناة شهراً، ولم يجىء أحد من ناحية إلا حدث بالجود4.
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك5 - رضي الله عنه - أيضاً أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقَون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإكام: جمع أكمة وهو التراب المتجمع, و"الظراب" جمع "ظرب" وهو الجبل المنبسط ليس بالعالي.
2 هي الحفرة المستديرة الواسعة.
3 أي انكشفت.
4 رواه البخاري, وقد أوردته هكذا مختصرى له "1/224- 226 رقم 497" جامعا بين طرقه ورواياته المختلفة الواردة في مواضع شتى, وهذا المختصر فيه فوائد جمة وتعليقات نفسية, لا يستغني عنها طالب علم أو راغب فقه. مكتبة المعارف للنشر والتورزيع.
5 رواه البخاري "2/398, 7/62" وابن سعد في "الطبقات 4/28-29" وهو في "مختصر البخاري" برقم "536". مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.
ومعنى قول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، أننا كنا نقصد نبينا صلى الله عليه وسلم ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله بدعائه، والآن وقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس، ونطلب منه أن يدعوَ لنا، وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائنهم: اللهم بجاه نبيك اسقنا، ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: اللهم بجاه العباس اسقنا، لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، ولم يفعله أحد من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، كما سيأتي الكلام على ذلك بشيء من البسط قريباً إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك أيضاً ما رواه الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في "تاريخه 18/151/1" بسند صحيح1 عن التابعي الجليل سليم ابن عامر الخبَائري: أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعزاه الحافظ العسقلاني في "الإصابة - 3/634" لأبي زراعة الدمشقي ويعقوب ابن سفيان في "تاريخهما" بسند صحيح عن سليم بن عامر أيضا.
وروى ابن عساكر أيضاً بسند صحيح أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضاً: قم يا بكاء! زاد في رواية: "فما دعا إلا ثلاثاً حتى أمطروا مطراً كادوا يغرقون منه.
فهذا معاوية - رضي الله عنه - أيضاً لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما سبق بيانه، وإنما يتوسل بهذا الرجل الصالح: يزيد ين الأسود رحمه الله تعالى، فيطلب منه أن يدعو الله تعالى، ليسقيهم ويغيثهم، ويستجيب الله تبارك وتعالى طلبه. وحدث مثل هذا في ولاية الضحاك بن قيس أيضاً.
بطلان التوسل بما عدا الأنواع الثلاثة السابقة:
فمما سبق تعلم أن التوسل المشروع الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وجرى عليه عمل السلف الصالح، وأجمع عليه المسلمون وهو:
1- التوسل باسم من أسماء الله تبارك وتعالى أو صفة من صفاته.
2- التوسل بعمل صالح قام به الداعي.
3- التوسل بدعاء رجل صالح.
وأما ما عدا هذه الأنواع من التوسلات ففيه خلاف، والذي نعتقده وندين الله تعالى به أنه غير جائز، ولا مشروع، لأنه لم يرد فيه دليل، تقوم به الحجة – وقد أنكره العلماء المحققون في العصور الإسلامية المتعاقبة، مع أنه قد قال ببعضه بعض الأئمة، فأجاز الإمام أحمد التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده فقط، وأجاز غيره كالإمام الشوكاني التوسل به وبغيره من الأنبياء والصالحين: ولكنا – كشأننا في جميع
الأمور الخلافية – ندور مع الدليل حيث دار ولا نتعصب للرجال، ولا ننحاز لأحد إلا للحق كما نراه ونعتقده، وقد رأينا في قضية التوسل التي نحن بصددها الحق مع الذين حظروا التوسل بمخلوق، ولم نر لمجيزيه دليلاً صحيحاً يعتد به، ونحن نطالبهم بأن يأتونا بنص صحيح صريح من الكتاب أو السنة فيه التوسل بمخلوق، وهيهات أن يجدوا شيئاً يؤيد ما يذهبون إليه، أو يسند ما يدعونه، اللهم إلا شبهاً واحتمالات، سنعرض للرد عليها بعد قليل.
فهذه الأدعية الواردة في القرآن الكريم وهي كثيرة، لا نجد في شيء منها التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق أو المكانة لشيء من المخلوقات، وهاك بعض الأدعية الكريمة على سبيل المثال: يقول ربنا جل شأنه معلماً إيانا ما ندعو به ومرشداً: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}1 ويقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}2 ويقول: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}3 ويقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ }4، {رَبِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة: الآية 286.
2 سورة البقرة: الآية 201.
3 سورة يونس: الآية 85 و 86.
4 سورة إبراهيم: 35.
اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}1 ويقول على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي..}2 ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً..}3... إلى آخر ما هنالك من الأدعية القرآنية الكريمة، وبعضها مما يعلمنا الله تعالى أن ندعو به ابتداء، وبعضها مما يحكيه سبحانه عن بعض أنبيائه ورساله، أو بعض عباده وأوليائه، وواضح أنه ليس في شيء منها ذاك التوسل المبتدع الذي يدندن حوله المتعصبون، ويخاصم فيه المخالفون.
وإذا انتقلنا إلى السنة الشريفة لنطلع منها على أدعية النبي صلى الله عليه وسلم التي ارتضاها الله تعالى له، وعلمه إياها، وأرشدنا إلى فضلها وحسنها، نراها مطابقة لما في أدعية القرآن السالفة من حيث خلوها من التوسل المبتدع المشار إليه، وهاك بعض تلك الأدعية النبوية المختارة:
فمنها دعاء الاستخارة المشهور الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه إذا هموا بأمر كما كان يعلمهم القرآن، وهو: "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة إبراهيم: الآية 40-41.
2 سورة طه: الآياه 25-28.
3 سورة الفرقان: الآية 65.
أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فأقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وعاجله وآجله، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به"1.
ومنها: "اللهم أصلح لي ديني، الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر"2 و: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي..."3 و: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى"4 و: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك..."5 و: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد نعوذ بك من النار"6 ومثل هذه الأدعية في السنة كثير، ولا نجد فيها دعاء واحداً ثابتاً فيه شيء من التوسل المبتدع الذي يستعمله المخالفون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري بنحوه وهو في "مختصر البخاري" برقم "605". مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.
2 رواه مسلم, وهو مخرج في "الروض النضير- 112".
3 رواه النسائي بإسناد صحيح, وهو مخرج في "تخريج الكلم الطيب- 105".
4 رواه مسلم وهو مخرج في "تخريج فقه السيرة- 481"0
5 رواه الترمذي وحسنه وهو كما قال وانظره بتمامه مع تخريجه في "تخريج الكلم- 225".
6 رواه الحاكم والطبراني, وإسناده حسن لغيره كما بينته في السلسلة الصحيحة- 1544". مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرياض.
ومن الغريب حقاً أنك ترى هؤلاء يعرضون عن أنواع التوسل المشروعة السابقة، فلا يكادون يستعلمون شيئاً منها في دعائهم أو تعليمهم الناس مع ثبوتها في الكتاب والسنة وأجماع الأمة عليها، وتراهم بدلاً من ذلك يعمدون إلى أدعية اخترعوها، وتوسلات ابتدعوها لم يشرعها الله عز وجل، ولم يستعملها رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن سلف هذه الأمة من أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، وأقل ما يقال فيها: إنها مختلف فيها، فما أجدرهم بقوله تبارك وتعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}1.
وأهل هذه أحد الشواهد العلمية التي تؤكد صدق التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي رحمه حيث قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سننهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة.2
هذا ولم ننفرد نحن بإنكار تلك التوسلات المبتدعة، بل سبقنا إلى إنكارها كبار الأئمة والعلماء، وتقرر ذلك في بعض المذاهب المتبعة، ألا وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فقد جاء في "الدر المختار" "2/630" – وهو من أشهر كتب الحنفية – ما نصه: عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه، المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة: الآية 61.
2 رواه الدارمي "1/45" وإسناده صحيح.
- ونحوه في "الفتاوى الهندية" "5/280". وقال القُدوري1 في كتابه الكبير في الفقه المسمى "بشرح الكرخي" في "باب الكراهة": قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، قال القُدوري: المسألة بخلقه2 لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً. نقله شيخ الإسلام في "القاعدة الجليلة" وقال الزبيدي في "شرح الإحياء - 2/285": "كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك، إذ ليس لأحد على الله حق، وكذلك كره أبو حنيفة ومحمد أن يقول الداعي: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، وأجازه أبو يوسف لما بلغه الأثر فيه"3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر بن حمدان الفقيه, وهو من شيوخ الخطيب البغدادي, ولد سنة 362, وتوفي سنة 824هـ.
2 أي سؤال الله بخلقه.
3 إنما أكثرت من هذه النقول لأن كثيرين من متعصبة الحنفية وغيرهم ينكرون صحة هذا القول عن أبي حنيفة رحمه الله وإذا كان مثل هذا القول لا يصح عنه فليس هناك في كتب الفقه شيء يصخ عنه مطلقا كما لا يخفى على الفقيه العالم بطريقة نقلأقوال الأئمة الحنفية في كتب المذهب.
ومن غرائب بعضهم أنهم إذا جوبهوا بقول الإمام أبي حنيفة هذا صرحوا بأنهم غير ملزمين به لأنه مخالف للحديث لأنه قد صح - يزعمهم- الحديث بدعاء الله .....=
أقول: لكن الأثر المشار إليه باطل لا يصح، رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال: هذا حديث موضوع بلا شك، وأقره الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" "273" فلا يحتج به، وإن كان قول القائل: أسألك بمعاقد العز من عرشك يعود إلى التوسل بصفة من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بغيره كما في حديث أصحاب الغار وحديث بريدة وقد تقدما ص 33-34 ويفسرونهما على غير الوجه الصحيح يقولون هذا مع أنهم في منهجهم العام وسبيلهم المعروف غارقون في التقليد إلى آذانهم ويعرضون عن أي حديث صحيح الإسناد صريح الدلالة إذا كان مخالفا لمذهبهم فما بالهم يعودون إلى منهجنا هذا حينما سدت في وجوههم سبل الرد علينا من المذهب؟ ترى هل هذا تناقض منهم أو غفلة أم وهم {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}ليردوا الحق الذي نص عليه إمام مذهبهم لأنه يوافق ما تدعوهم إليه من ترك التوسل بالذات إلى التوسل بالله تعالى وصفاته؟
وليت شعري هل هم مستعدون لأن يكون العمل بما صح به الحديث منهجهم في فقههم كله حتى نطالبهم بعشرات بل بمئات الأحاديث الصحيحة التي خالفوها إلى مذهبهم وبذلك تتفق وجهة نظرهم مع وجهة نظرنا أم سيكون شأنهم اتباع الحديث ومخالفة المذهب إذا وافق ذلك الهوى والغرض والتمسك بالمذهب ومخالفة الحديث إذا لم يوافق ذلك الهوى والغرض!
وأما احتجاجهم بحديث بريدة وحديث أصحاب الغار فمردود لأنهما صريحان في التوسل بالعمل الصالح وهو الشهادة بالتوحيد في الحديث الأول وبر الوالدين والعفة عن الحرام والإحسان إلى الأجير في الحديث الثاني ونحن قد قلنا بذلك ولم نتعصب لقول أبي حنيفة السابق الذي ينفي ظاهره هذا النوع من التوسل ولا يلزمنا نحن الأخذ به إذا خالف الحيث لأن الحديث مقدم عندنا على قوله وما الخلاف بيننا وبين المقلدة إلا فيما يظهرون "والله أعلم بما يكتمون" وأما تسميتهم هذا التوسل بدعاء الله بغيره فهي من تدلساتهم الباطلة ومغالطاتهم المكشوفة كم لا يخفى على ذوي الألباب.
صفات الله عز وجل، فهو توسل مشروع بأدلة أخرى كما سبق، تغني عن هذا الحديث الموضوع. قال ابن الاثير رحمه الله: "أسألك بمعاقد العز من عرشك، أي بالخصال التي استحق بها العرش العز، أو بمواضع انعقادها منه، وحقيقة معناه: بعز عرشك، وأصحاب أبي حنيفة يكرهون هذا اللفظ من الدعاء".
فعلى الوجه الأول من هذا الشرح، وهو الخصال التي استحق بها العرش العز، يكون توسلاً بصفة من صفات الله تعالى فيكون جائزاً، وأما على الوجه الثاني الذي هو مواضع إنعقاد العز من العرش، فهو توسل بمخلوق فيكون غير جائز، وعلى كلٍ فالحديث لا يستحق زيادة في البحث والتأويل لعدم ثبوته، فنكفي بما سبق.
قال الله عزوجل :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .الآية رقم [126] من سورة [البقرة]
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "منْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا". أخرجه البخاري
فائدة من الاية والحديث أن إبراهيم عليه السلام أول مادعا الامن قبل الرزق والرسول صلى الله عليه وسلم بدا بالامن قبل الرزق ولو كان الرزق قليل يكفي يوم فكأنما حزيت له الدنيا
فهل من معتبر ؟