انتظار
18-03-2009, 12:26 AM
انتظار
لأن الأمل عنيد..ينمو فينا كالأعشاب الفطرية..كلما اجتثته أيادي الواقع
الخشنة..يعود لينبت من جديد..
لأننا مجبولون على ترقب ما قد يفاجئنا به الغد..رغم تناسخ أيامنا وليالينا..
ولأننا عائلة تتناوب أفواهها على ضرع الأحلام..وتلتهمها بشراهة صباح مساء..
ها نحن كلنا ننتظر..
يومنا كأمسنا..ينساب في أعيننا سحابة خريف غير ممطرة..رغم أننا لم نكف يوما عن أداء طقوس صلاة الاستسقاء..
1
أخي الأكبر ينتظر عودته إلى العمل..ذلك الذي طرد منه كالعشرات من أمثاله..يوم أن طورد القطاع العام..بمساوئ أهله وفتاوى العالم الحر.. وحل محله الانفتاح الديمقراطي..برونقه وبهرجه اللامع..
لن ينتظر طويلا..اطلع على الخبر من مصادره الموثوقة..وسمعه من أهل الحل والربط على شاشتنا التي لا تكذب أبدا..
ستدخل رؤوس الأموال تباعا..تنبت الو رشات و المصانع تباعا..تنتشر كالفطريات..ويختبر أخي مع جيش البطالين..ما تخلف في ساعديه من طاقة..
وتحسبا للموعد المرتقب..فهو لم يتخلف يوما عن قاعة الرياضة يصارع كتل الحديد..حفاظا على جاهزية عضلاته..
2
أخي الأوسط ينتظر الفيزا..من أية جهة كانت..بعث منذ ستة أشهر بالملف السادس.. لسادس سفارة..
لم يفقد كل زاده من الصبر..عزم وتوكل..إما أن يطل عليه ساعي البريد بالوثيقة المنقذة..أو يترصد غفلة من حراس الميناء..ليندس داخل أية حاوية..على ظهر أية باخرة متجهة إلى الشمال..أو أعماق المحيطات..
أخي هذا مهووس لا ريب في ذلك..يكذّب كل ما يقال..لا يصدّق ما يجزم به سادتنا الأفاضل..ولم يقتنع بعد..بأننا نستظل بغمامة بحبوحة يحسدنا عليها الكثيرون..أن البلد بخير..وأنه هو ذاته بألف خير..
ما الذي ينقصه..؟ يأكل رغيفه معنا إن حضر وقت نزول القصعة..ينام ما شاء دون أن يوقظه أحد..يدلك شعره "بالقومينا" ويصففه بعناية فائقة..ثم يتجه صوب الثانوية القريبة من منزلنا..يكحل عينيه كل يوم بالمجان..ويصطاد أحلاما لذيذة يستثمرها طيلة الأسبوع..
قال لي يوما:
- أريد أن أهرب..
ولم أفهم من أمره شيئا..فسألته..
- وما الذي يطاردك..
فأجاب:
- حينما تكبر..ستعرف ما الذي يطاردني..وسيطاردك..
3
أختي الكبرى تنتظر على مضض..من يدق باب بيتنا بخاتم الخطوبة.. غارت عيناها من فرط التحديق في فجوة الباب..
فعلت كل ما كان في وسعها..استنصحت بأهل النصح والمشورة..قصدت أمهر الرقاة..وأجود العرافات..
بعضهم طمأنها وأطلعها على أوصاف رجلها الموعود..وبعضهم أخبرها بأنها مربوطة..وعليها أن تتخطى سبعة أموات بالتمام والكمال..حتى صارت أختي مولعة بالجنائز..قد تتخلف عن الأعراس رغم ما فيها من فرص الخلاص..إن هي تزامنت مع الجنائز..
كانت ستقطع حبل الأمل بسيف اليأس..وتحتسي ما بقي من دواء الفئران..لولا أن أسرت لها إحداهن..بأن الإناث هن اللواتي يتقدمن هذه الأيام لطلب أيادي الذكور..إن كن قادرات على تحمل تكاليف الزواج ولواحقه..بيد أنها لم تجرؤ على الإفصاح عن مطلبها..لعلمها بالبئر وغطائه..
وربما لهذا السبب بالذات..تكلفني بين الحين والآخر..لأملأ لها ورقة لوطو..آه لو يحالفها الحظ وتنال الحصة الكبرى..
4
أختي الصغرى..مفخرة البيت كله..تنتظر هي الأخرى..نالت شهاداتها بامتياز..ويومها كان يوما مشهودا..أكلنا اللحم احتفاء بتخرجها..
وفي صبيحة الغد..شرعت في رحلة الدق على أبواب المؤسسات والإدارات مشهرة شهادات القدير والامتياز..كمحارب قديم..
طمأنوها بابتسامات عريضة..ووعدوها أصدق الوعد..سيراسلونها في أقرب الآجال..وهي ما تزال تفترش شهاداتها..وتنتظر..منذ سنوات..
سمعت وشوشة من حولها دون أن تصدّق:
- خسارة..لو كانت على مستوى مقبول من الجمال..لما انتظرت كل هذا الوقت..
5
أمي تنتظر..أن يفعل الثوم الأحمر فعلته في التخفيف من ضغطها الدموي المرتفع باستمرار..أكدوا لها بأنه أنجع بكثير من الحبوب التي وصفها لها الطبيب..وأقل كلفة.
تصلي فرضها ونوافلها في خشوع منقطع النظير..وتنتظر أن تثمر دعواتها عن لطف اللطيف.. سمعت وشوشة من حولها دون أن تصدّق:
- خسارة..لو كانت على مستوى مقبول من الجمال..لما انتظرت كل هذا الوقت..
5
أمي تنتظر..أن يفعل الثوم الأحمر فعلته في التخفيف من ضغطها الدموي المرتفع باستمرار..أكدوا لها بأنه أنجع بكثير من الحبوب التي وصفها لها الطبيب..وأقل كلفة.
6
أبي ينتظر منحة التقاعد الشحيحة..وأمورا أخرى لا حصر لها..يغمغم دوما كمذياع نفذت بطاريته وأصابه " بارازيت" مزمن..
يردد صباح مساء..متى..متى..متى..؟ وتقول أمي إن داء السكري هو الذي يسبب له هذا الهذيان المتزايد..
7
عمتي القابعة في بيتنا منذ شهور يقال إنها تنتظر وفاة جدي..لتنال نصيبها من الصرة السر..هذه التي يشاع بأنها مخبأة داخل وسادته المتسخة..منذ أن كانت له صولات وجولات في سوق المدينة الجديدة..
قرئت الشهادتان على رأسه مرات متعددة..وفي كل مرة يفتح عينيه ليوم آخر..وهي ما زالت تنتظر..
8
أخي الأصغر..يمزق الصمت تمزيقا ببكائه وصراخه المتكرر وهو ينتظر أمام باب المرحاض..خروج أخي الأكبر الذي يصيح بدوره من الداخل:
- انتظر..يلعن..
9
ولأن قاعة المنتظرين امتلأت عن آخرها..خرجت إلى الساحة العمومية لأطلب هواء نقيا..وأختزل زمن الانتظار..
هناك..وجدت آلاف خلق الله ينتظرون بدورهم في صبر أيوبي.. ويتساءلون في صمت جنائزي..عبثا يستفسر بعضهم بعضا..يتصفحون في نهم جنوني قصاصات الجرائد والصحف..علهم يدركون..ماذا ينتظرون..؟
المئات منهم ملوا الانتظار..فاصطفوا على حافة الجسر الكبير..ليغمضوا أعينهم للمرة الأخيرة..يلووا رقبة الجهل القابع فوق رؤوسهم..ويقطعوا الشك باليقين..
10
قفلت راجعا إلى البيت خائفا مرتبك الخطو..واتجهت حثيث الخطو صوب الجد الممدد على سريره في زاوية الاحتضار..
أمسكت بيده الباردة كقطعة الثلج..فتح عينيه المبتسمتين..فاض منهما أريج طمأنينة وعبق رضا..لم ألحظهما من قبل..فأدركت وقتها أنه الوحيد الذي يعرف بيقين..ماذا ينتظر..
ح - ع








