للحائط..
22-02-2009, 02:01 AM
" إلى كل الذين اختنقوا..بأفكارهم الحميمة"
للحائط..
بعدما أصغى لهذياني المتقطع ..بعد ما تحسس بحدس السنين..نبضات قلبي المتعب..بعد أن تلمس كلماتي الوجعى..بعدما تحمل لفح أنفاسي الحرى..وألقت عليه بحمم البركان ..ناولني قلما وقال :
ـ أكتب ..
اتركها تخرج لعوالم النور..لا تدعها تنهش أحشاءك وحدك..
قلت لست كاتبا..ولم أدخل يوما حلبة ترويض الأقلام..فصاح في وجهي:
ـ ليس القلم هو الذي يكت..بل البركان الخامد في أحشائك..عواطفك وانفعالاتك الحمقاء تكتب..رشق العيون وانتشاؤها لآلامك يكتب..الضغط في شرايينك الجريحة يكتب..مغص الإمساك الحاد في معدتك يكتب.. والخنجر المغروس في عظامك ولحمك يكتب ..ويجيد الكتابة.. اتركها تخرج لعوالم النور..لا تدعها تنهش أحشاءك وحدك..
قلت لست كاتبا..ولم أدخل يوما حلبة ترويض الأقلام..فصاح في وجهي:
ـ أكتب ..سر في الطرقات..تأمل الوجوه التي غشاها الجهم..وغابت عنها إشراقة الابتسام واكتب ..
توقف عند زوايا الأزقة المتسخة..حيث تعقد اجتماعات الخلف المهمل.. واسترق السمع لآهاتهم التي لا تسعها اليابسة..ولا تتلقفها أمواج البحر ولا ما وراء البحر..واكتب..تأمل الكواعب في سن الزهور اليانعة يترصدن لقمة العيش..لقما سائغة لكل الذئاب الجائعة على ظهور مراكبها البراقة..واكتب ..
زر عنابر المرض المستفحل..ترفق في خطوك..وأنت تعبر فوق بقع الدماء..بين أنات وجع الرابضين المرابطين طلبا للاستشفاء..من عضال الداء..واكتب..اذهب إلى المقبرة العامرة..وسل أهلها..ابحث بين القبور عن جيل بكامله دفن أهله بقبرين لكل واحد منهم ..قبر لجثته ..وقبر لآماله ..
واكتب ..
الق بنفسك داخل نفسك التي هبطت إليك من المحل الأرفع..في مكان وزمان غير مناسبين..كفكف دموعك لحظة ..
ـ واكتب..
لا تخش على نفسك ..وعلى ذريتك الضعاف ..أكثر مما أنت وهم فيه.. اتق الله ..واكتب.. عن الفرعون الذي لفظه البحر على شواطئنا..بعد طول غرق في سعيه إدراك موسى ورهطه..وأسعفه التناسخ في زماننا الرديء..فحشد القوم لبناء الهرم الذي حرمه الغرق من التحنيط فيه..ومطاولة تعاقب القرون .. وعن مومياء القصر..التي انتشلت من جوف الهرم العتيق ..وعادت إليها الحياة في أبهى صورها..أعجبت بفيض عبقريتها واكتمال آيات جمالها..فأفتت في الملإ واجب تقديسها واستحضار اسمها قبل كل بسملة
وحوقلة..وذكر غزير فضائلها عقب كل صلاة..استدرارا للمطر والبترول معا .
وأكتب..
عن الرؤوس التي تجرعت عصارة الويل..عشرا..وعشرا..ولم ينل ذلك من شموخها الأزلي حتى حلت معجزة صاحب المعجزة..فانحنت..وغدت أجدر من غيرها بقولة عمرو بن العاص: يجمعهم طبل وتفرقهم عصا..وهم عبيد لمن غلب..
ـ اكتب ..
عن أحفاد الحبر الذي لم يقو على تكفير واحد من أهل الملة ..فكفروا من بعده أجيالا تمشي في الأسواق..وأجيالا لم تولد بعد ..
واكتب.. عن أحفاد الحبر الذي لم يقو على تكفير واحد من أهل الملة ..فكفروا من بعده أجيالا تمشي في الأسواق..وأجيالا لم تولد بعد ..
عن الثكالى..وعن الأجنة التي صاحت في بطون أمهاتها من وحشية الطعن..وعن الجريح الذي لم يندمل جرحه..ولن يندمل أبدا..ما لم تنعم عينه بالعمى..ما دام جزارالجسم المثخن..يطل عليها كل يوم..متعاليا عن الأسف..مرفوع الرأس..شامخ الهامة موفور الأمن والكرامة..ولذيذ الغذاء..
واكتب..
عن العباقرة الأفذاذ من حفدة حضارة الأنوار..هؤلاء الذين كشفوا لنا بعد طول جهل..بأن دماء الآباء والأجداد خطايا باعدتنا عن الأنوار.وفرضت على رقابنا واجب الاعتذار..
لا تنتق الكلمات ..ذلك شأن الأديب الفنان..والفن إبداع واختلاق ..وكذب فائق الجمال ..
أما أنت فليس لك من هذا الأمر شيء.. يكفيك أن تصيح..تفتح فمك على مصراعيه..تتقيأ على الورق الأبيض..كلماتك قيح متعفن من دملة ضخمة..تشكلت عبر السنين داخل جوفك ..أفاع تزيح لسانك جانبا.. لتخرج من جحور أحشائك ..
دعها تفعل..دعها تتمدد على الورق ..اشتياقا للنور ..
واكتب ..
ستفغر فاك عريضا من فرط الدهشة..سينتابك الفزع الأكبر..وتدرك لا محالة..أن ما بجوفك السقيم ..لا تسعه الأوراق.. واكتب ..
ـ كيف لي أن أكتب ..؟ وهمومي ليست من سلع الأسواق..أغلقت حوانيتها منذ أن صارت الآلام مدحا..والأوبئة مدحا..والكوارث الطبيعية مدحا..والجوع القاتل مدحا ..والمطر الغزير مثارا لمدح عهد صاحب العهد..وما خرج عن دائرة المدح تحول إلى عبوة لا تنفجر إلا في وجه صاحبها..
وأنا..ليس لي ضلع في فنون المدح وترانيم الإطراء..لو كنت كذلك ما أرهقني الألم ولا هزتني رياحه العنيفة وعواصفه الهوجاء..ولما احتجت في ذلك إلى القلم..فمنتديات المدح منتشرة في كل الأنحاء..وميادينه فسيحة تطل على كل الزوايا..لا يحتاج مريدوها..لا لعلم ..ولا لبلاغة وتنميق كلمات ..
ـ أكتب..ولا تخش عاقبة أمرك..لا تهتم لأذى سينالك..فقد نالك منذ أمد بعيد..حكم عليك ..ونفذ الحكم ..في غيابك وغياب محاميك ..
ـ لمن أكتب..؟ وقومي لا يقرؤون..منذ أن غدت القراءة والكتابة معا عاهة..إعاقة مزمنة يتجرع أهلها علقم تبعاتها طيلة حياتهم..منذ أن صارت جيوش القارئين..بعد عناء السنين تفترش شهادات منمقة بعبارات التقدير..لا تسعها إطارات خشبية..لتعلق على جدران الإهمال..منذ أن تجلت فضائل الجهل وكرامات الأمية..منذ أضحت الكفاءات ترصد على بطاقات الولاء..ومنذ أصبح الشرف رقصا على دقات طبل مقدم الزاوية.
ـ اكتب للحائط ..إن صمّت الآذان فللحيطان آذان صاغية..صخورها أكتم للأسرار..وأشد ائتمانا من كثير من بني البشر ..
لليهود حائطهم..يسرّونه آلامهم..يبكون عنده منذ آلاف السنين..حتى صار البكاء لديهم سجية..وفضيلة..ومطية لكل المآرب ..
ولبرلين حائطها الذي باعد بين أبناء الأب الواحد شطرا من التاريخ ..قبل أن يجمع بينهم..بعدما سكبوا عليه دموعهم..وكتبوا على ظهره آلاف المشاعر..و العواطف..والكلمات..
وللصين حائطها العظيم ..ذلك الذي ترتسم صورته على جبين كل صيني منذ الولادة..يختصر تاريخهم الطويل..يصد عنهم بعنف وشموخ كل استصغار من غيرهم..ويستفتونه في إجلال وتقديس..كلما دب فيهم الهوان فيمنحهم من عظمته وجلده ..
ولأن للحيطان آذانا تسمع وتسجل..وليست لها عيون تترصد الخطوات..وتفتح الملفات الحمراء..صار الحديث إلى اليها ثقافة تستهوي النفوس..وفنا مستحدثا يمارسه الشباب الذين لا منبر لهم..على جدران أكبر عواصم الكون ..
ولأن قومك..يا أخي..ليس لهم حائط يجمعهم ..فقد اختارت ناشئتهم بالغريزة حيطانا شتى..لكل فئة حائطها..حتى تلاشت أسماؤهم ..وأضحى جيلهم بكامله يدعى ..جيل '' الحياطة''.. يسندون ظهورهم إليها في حنو.. بحثا عن حنان افتقدوه في الأحضان..لا يبرحونها أبدا..هي كل ما يملكون دون عقود ملكية.. يلفظون عليها صيحاتهم الأليمة..صرخاتهم الموجعة.. شقاءهم الأبدي ..ويمررون على اسممنتها البارد أيديهم المشلولة ..منذ أن صار العمل أرقاما تتلى في بيانات المدح..
وحينما تضيق صدورهم بأسرارهم الدفينة..ولا يقوون على إيداعها على الملإ ..لا لأقرانهم ولا للحائط السافر مذ ملأته الصور الكبيرة..يختبئون بها داخل المراحيض ويقذفونها على حيطانها..بعفوية وانفعال صامت.. وبعبارات من إملاء المكان والزمان ..
كتب مفتوحة..في انتظار لحظة انتباه من محلل نفساني ..لن يأتي أبدا.لأنه لا يرتاد مثل هذه المراحيض العفنة..
ـ أليس هذا عين العبث..؟
ـ جميع الذين لم يجدوا لهم آذانا صاغية..جميع الذين ولدوا في أزمنة المدح ..جميع الذين كمّمت أفواههم خشية أن تنطق حقا..جميعهم كتبوا للحائط..وكان أحفظ للأمانة على تعاقب القرون والأجيال..المصريون القدامى..وأمازيغ الطاسيلي لم تكن رسومهم عبثا..وجدران بابل التي أفصحت عن سحر هاروت وماروت ما زالت شاهدة على عظمة الحرف فاكتب..
أكبر سجناء التاريخ..كتبوا على الحيطان الباردة لزنازينهم..فصانت ودائعهم ..وورّثت الأجيال عظمتهم المكبلة..
ـ اكتب ..جميع أشقياء البشرية ..يكتبون..المحظوظون منهم يسخّر الله لهم من قومهم آذانا تسمعهم ..وعيونا تقف عند مخطوطاتهم ..وباقي أشقياء الأزمنة المظلمة إنما ..يكتبون للحائط..
ومهما طال الزمان ..لابد أن يصطدموا بحائطك ..فيولون لك الرحمة حينا ..والمغفرة أحيانا ..
ح-ع








