نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
24-09-2017, 04:17 PM
نثر الإبريز من سيرة عمر بن عبد العزيز
انطلاقا من قول الشاعر:
تشبهوا بالكرام إن لم تكونوا÷ مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
يسرنا أن ننثر:" ومضات إبريزية من سيرة عمر بن عبد العزيز" رضي الله لرفع الهمة وحملها على التشبه بخصال كريم مثله، وما أصدق قول شاعر في مثيل سجاياه:
مَعْدِنُك الجَوهَرُ المُهَذَّبُ ذو ÷ الإِبْرِيزِ بَخٍّ ما فَوْقَ ذا هَذَبُ
والبداية ستكون بمقالة تجمل أقواله ومواقفه خطها أحد الأفاضل مشكورا مأجورا، ثم نتبع ذلك بإذن الله بدرر ننتقيها من كتب السير التي خلدت سيرته رضي الله عنه، وإلى المقصود بتوفيق المعبود:
إن تقوى الله خير لباس، وأرقُّ إحساس، تحملك من دار الفناء الى دار البقاء، وتسير بك في هذه الدنيا على هدى ونور ورضا وحبور، أنت بها حسن السجايا بين أهل الدنيا ورفيع القدر بين أهل الأخرى.
أمر الله بها عباده، فقال:﴿ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾.
وأحب أهلها، فقال:﴿ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.
وكان في معية المتمثلين بها، فقال:﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾.
وتقبل من أصحابها، فقال:﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.
ومدح سكنهم فقال: ﴿ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾.
وعصم أخوّة القائمين بها من العداوة، فقال:﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾.
ووالى ذويها، فقال:﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.
وأمن خوفهم يوم القيامة، فقال:﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾.
ووعد المحافظين عليها، فقال:﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ﴾، ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾، ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴾، ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ﴾، ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴾..
ألا إنما التقوى هي العز والكرم ÷ وحبك للدنيا هو الذل والسقمْ
وليس على عبدٍ تقي نقيصة ÷ إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
نحن اليوم نستعرض نتفاً من أحد أولئك المتقين:
كيف عاش؟، وماذا قال؟، ما الهم الذي كان يحمله؟، وما الطريق التي سار عليها؟، كيف تجافى عن الدنيا ولماذا؟، لماذا ارتفع ذكره وخفت ذكر غيره؟، ولماذا أصبح خامس خمسه، وبينه وبينهم ما يقرب من ستين سنة؟.
إنه:" عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم" رضي الله عنه.
وصفه الحافظ الذهبي رحمه الله، فكان مما قال عنه:
" كان ثقةً مأموناً، له فقه وعلم وورع، وروى حديثاً كثيراً، وكان إمام عدلٍ، رحمه الله ورضي عنه". [سير أعلام النبلاء: 5/ 114].
كان الخوف من الله مقارناً له في صغره، فقد حفظ وهو غلام صغير، وفي يوم من الأيام بكى، فسألته أمه عن سبب بكائه فقال:
" ذكرت الموت، فبكيت".
كان صادق اللهجة يقول: "ما كذبتُ منذ علمتُ أن الكذب يَضُرُّ أهله".
رآه بعضهم يطوف بالكعبة قبل الخلافة، وإنّ حُجْزة إزاره لغائبة في ثنايا بطنه من السمن، يقول: " ثم رأيته بعد ما استخلف ولو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسّها لفعلت".[ الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز: 1/367]
وذات مرة دخل عليه محمد بن كعب القرظي بعد ما تولى الخلافة يقول:
" فجعلت أنظر إليه نظراً لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال: ما لك يا ابن كعب؟، فقلت: أعجب من تغير جسمك وتبدّل حالك. فقال: فكيف لو رأيتني يا ابن كعب في قبري بعد ثلاث ليال؟، حين تقع حدقة عيني على وجنتي، ويسيل منخري وفمي صديداً ودوداً، كنت لي أَشد إنكاراً".
ولما دُفِنَ الخليفةُ السابق(سليمان بن عبد الملك): قُرّبت مراكبُ الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال:" ما لي ولها، نحّوها عنّي، وقربوا إلي دابتي"، فركب دابته، وسار، وسار معه الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس، فقال:
" أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم"، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فلما رأى ذلك: حمد الله وأثنى عليه، وصلىّ على النبي صلى الله عليه وسلّم، وقال:" أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لأخرتكم، فإنه من عمل لأخرته: كفاه الله أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم: يصلح الله علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنّه هادم اللذات، ألا وإني لستُ بخير من أحدٍ منكم، ولكني أثقلكم حملاً".[ سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي: 65-66].
بعث برسالة إلى بعض أهل بيته يقول فيها:
"أما بعد، فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك: بَغَّضَ إليك كل فانٍ، وحَبّب إليك كل باقٍ، والسلام".
حدّثت زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فقالت:
" قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصياماً منه، ولكني لم أر رجلاً من الناس كان أشد خوفاً من ربه من عمر، كان إذا صلّى العشاء دخل بيته، فقد يكون معي في الفراش، فيخطر على قلبه الشيء من أمر الل،ه فينتفض كما ينتفض العصفور قد وقع في الماء، ثم ينشج ثم يرتفع بكاؤه حتى أقول: لتخرجن روحه التي بين جنبيه وتدركني الرحمة له، فأطرح اللحاف عني وعنه، وأنا أقول: ما رأيت سروراً منذ كنا في هذه الخلافة يا ليت بيننا وبينها بعد المشرقين. فكان يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف يوماً دون يوم القيامة، فلا تؤمن خوفي".
لقد ربّى عمر بن عبد العزيز أهل بيته على التقوى والخوف من الله وقرب الدمعة من خشية الله سبحانه.
قرأ عنده رجل قول الله عز وجل عن النار: ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ﴾، فبكى عمر حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه، فقام من مجلسه، فدخل بيته وتفرّق الناس.
وذات يوم كان جالساً في البيت فبكى، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء؟، فلما تجلّت عنهم العبرة، قالت فاطمة:
" بأبي أنت يا أمير المؤمنين: مم بكيت؟. قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل: فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير".
تقول فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز:
" دخلت على عمر، فإذا هو في مصلاه، يده على خده، ودموعه سائلة، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما بك؟، أشيء حدث؟.
قال: يا فاطمة، إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت".
لقد كان عمر بن عبد العزيز مع علمه وفضله وعدله وورعه: خطيباً مؤثراً، فإذا وعظ وخطب: أخذ بمجامع القلوب لجزالة لفظه، وحسن حديثه، فيبكي ويُبكي. قال في خطبة له:
" إن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً، ولم يدع شيئاً من أمركم سُدى، وإنّ لكم معاداً ينزل الله عز وجل فيه للحكم والقضاء بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، فاشترى قليلاً بكثير وفانياً بباق، وخوفاً بأمان.
ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين.
في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في بطن صدع من الأرض غير ممهد ولا موسّد، قد فارق الأحباب وواجه التراب وعاين الحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدّم، فاتقوا الله قبل نزول الموت بكم.
والله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سننٌ من الله عادلة أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، واستغفر الله".
ووضع كمه على وجهه، فبكى وبكى الناس، فكانت آخر خطبة له، رحمه الله.
ولما نزل به الموت قال:" أجلسوني"، فأجلسوه، فقال:
" إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله"، ثم قال:" إني لأرى حضوراً ما هم بأنس ولا جن - وقال لأهله - اخرجوا عني"، فخرجوا وجلسوا عند الباب، فسمعوه يقول:
" مرحباً بهذه الوجوه"، ثم تلا قول الله تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾.
ثم هدأ الصوت، فدخلوا عليه، فإذا هو قد مات وقد غمض عينيه، ووجه إلى القبلة، رحمه الله رحمة واسعة.
عليك سلامُ الله وقفًا فإنني ÷ رأيت الكريم الحرَّ ليس له عُمْر
ثوى طاهر الأردان لم تبْقَ بقعةٌ ÷ غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ
رحمك الله يا عمر، وأسكنك فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
♦ ♦ ♦ ♦
كانت تلك ومضات من حياته حتى مات، أما ماذا فعل الله بأبنائه بعد موته، فإليك هذا الخبر:
روى أهل التاريخ:
أنه لما حضرته سكرات الموت، جمع أبناءه السبعة أو الثمانية، فلما رآهم بكى واستعبر، ودمعت عيناه، ثم قال لأبنائه:
" والله ما خلّفت لكم من الدنيا شيئًا، إن كنتم صالحين، فالله يتولى الصالحين، وإن كنتم فجَرة، فلن أُعينكم بمالي على الفجور، تعالوا"، فاقتربوا فقبّلَهم واحدًا واحدًا، ودعا لهم، وكأن قلبه يُسَلُّ من بين جوارحه، وخرج أبناؤه.
قال أهل التاريخ:
أغفى التاريخ إغفاءة عن أبناء عمر بن عبد العزيز السبعة أو الثمانية، وقد خلّف لكل واحد منهم اثني عشر درهمًا فقط، وأما هشام بن عبد الملك الخليفة، فخلّف لكل ابن من أبنائه مائة ألف دينار، وبعد عشرين سنة، أصبح أبناء عمر بن عبد العزيز، يُسرجون الخيول في سبيل الله، منفقين متصدقين من كثرة أموالهم، وأبناء هشام بن عبد الملك في عهد أبي جعفر المنصور، يقفون في مسجد دار السلام، يقولون:" من مال الله، يا عباد الله!".
صح عند الترمذي وأحمد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال:
" يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصُّحف".
واليوم، إذا نظرنا إلى واقعنا، نجد:
شابا يشتري ساعة يلبسها نجمه المفضل!!؟، وآخر يقص شعره مثلما يفعل لاعبه المميز!!؟، وآخر يلبس قميصاً يحمل اسم هدافه المبدع!!؟.
يجتمع مجموعه من الشباب، فيقضون وقتاً طويلاً في التفريق بين مغنٍ وآخر، ولاعب وآخر وممثل وآخر!!؟.
لماذا أيها الشباب!!؟:
ماذا دهاكم يا رعاكم الله!!؟، ومن الذي صرفكم عن القمة إلى القاع، وعن السمو إلى الدنو، وعن العلو إلى السفول!!؟.
كيف تجعل من كافر: مثالا لك!!؟، وقد قال تعالى:﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾.
كيف تجعل من فاسق: قدوة لك!!؟، وقد قال تعالى:﴿ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
كيف تغفل عن أمثال: عمر بن عبد العزيز، وقد قال تعالى:﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾.
أيها الشباب:
أنفذوا ببصائر قلوبكم إلى الحياة السعيدة، ولا تلهكم أبصاركم وأسماعكم بلذة عاجلة يعقبها ألم شديد.
أيها الشباب:
لقد ملأ عمر بن عبد العزيز سمع الدنيا وبصرها بسيرته العطرة، ومات وعمره أربعون سنه فقط، ولم يمكث في خلافته سوى ثلاثين شهراً، لكن الأعمار لا تقاس بطول السنين، ولكن بعرض الأعمال.
وفق الله شبابنا لحسن الاقتداء بسيرة سلفنا الصالح.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
من مواضيعي
0 مهما.. ومهما!
0 عالمية الدور الحضاري للعربية
0 صانعة الأجيال
0 هام جدا: مجتمعنا أمانة في أعناقنا
0 كيف نتعامل مع المشكلات الأخلاقية!!؟
0 23 تغريدة في رحلة مع حياة نوح وأسلوبه في التأثير والتواصل
0 عالمية الدور الحضاري للعربية
0 صانعة الأجيال
0 هام جدا: مجتمعنا أمانة في أعناقنا
0 كيف نتعامل مع المشكلات الأخلاقية!!؟
0 23 تغريدة في رحلة مع حياة نوح وأسلوبه في التأثير والتواصل
التعديل الأخير تم بواسطة أمازيغي مسلم ; 24-09-2017 الساعة 04:19 PM