المبحث الثاني عشر : الإيمان بالقدر مع إثبات الاختيار
ومن الأصول الاعتقادية القطعية عند أهل السنة والجماعة الإيمان بالقضاء والقدر بإثبات علم الله السابق ومشيئته المطلقة وخلقه سبحانه لأعمال العباد ، مع إثبات الاختيار للإنسان وقدرته على الفعل والترك معا. وذلك خلافا للقدرية والمعتزلة الذين غلوا في إثبات الاختيار حتى نفوا خلق أفعال العباد، ونفوا القدر جملة وتفصيلا ، وخلافا للجهمية والأشعرية الذين غلوا في إثبات القدر حتى جردوا العبد من الاختيار، وجعلوه مجبرا لا قدرة له إلا على ما قدر له، ونفوا تبعا لذلك الحكمة عن فعل الله وأمره ونهيه.
وابن باديس رحمه الله قد شرح الركن السادس من أركان الإيمان في كتابه العقائد على الطريقة الصحيحة ويلاحظ أنه جعله بعد الإيمان بالله تعالى مباشرة ذلك أن بين الإيمان بالقدر وبين الإيمان بصفات الله وربوبيته ارتباطا وثيقا ، فقال : (وقدر الله تعالى هو تعلق علمه وإرادته أزلا بالكائنات كلها قبل وجودها فلا حادث إلا وقد قدره الله تعالى ، أي سبق به علمه وتقدمت به إرادته ، فكل حادث فهو حادث على وفق ما سبق به علم الله ومضت به إرادته « ثم قال بعد ذلك:» وكما سبق قدر الله للأشياء قبل أن يخلقها ، كذلك كتبها في اللوح المحفوظ قبل خلقها )([83])
وتحدث عن العنصرين الآخرين من عناصر إثبات القدر (الخلق والمشيئة ) في باب التوحيد حيث قال :( ومن توحيده في ربوبيته اعتقاد أن العبد لا يخلق أفعال نفسه )، وقال :( ومن توحيده تعالى في ربوبيته اعتقاد أن العبد لا يخرج في جميع تصرفاته عن مشيئة الله ، غير أن له اختيارا يجده بالضرورة من نفسه ، ومشيئة يجدها كذلك فيما يمكنه من أفعال كان بها مكلفا ، ثم هو لا يخرج بها عن مشيئة الله ) ([84])
إثبات الشيخ للمراتب الأربعة من مراتب الإثبات قد فارق بها مذهب النفاة، وفيما يأتي توضيح القضايا الأخرى التي يفارق بها أهل السنة مذهب الجبرية والأشعرية كإثبات الكسب مع الاختيار الحقيقي للإنسان، وقد صرح بذلك في النص السابق، كما عدَّ عقيدة الجبر من الخطأ الضار الموجود في كتاب الإحياء([85])
وقال في التفسير:( لا حجة لمن مات على كفره بما سبق في علم الله فيه: قامت حجة الله على خلقه بما ركب فيهم من عقل وما مكنهم من اختيار، وما نصب لهم من آيات ومشاهدات، وما أرسل إليهم من رسل بآيات بينات، وهذه كلها أمور معلومة لديهم ضرورة لا يستطيعون أن ينكروا شيئا منها)([86]).
ومن فروع إثبات الاختيار عند أهل السنة والجماعة إثباتهم للعبد قدرتين، قدرة الأهلية تكون قبل الفعل وهي مناط التكليف والاختيار (وهي قدرة ينكرها الجبرية)، وقدرة التنفيذ وهي التي تكون مع الفعل. والشيخ رحمه الله قد صرح بإثبات قدرة الإنسان على الفعل وإن لم يعمل به -وهي قدرة الأهلية -، فقال: «لا يحتج بالقدر على الذنوب لأن حجة الله قائمة على الخلق بالتمكُّن والاختيار والدلالة الفطرية والدلالة الشرعية»([87]).
والشاهد هو قوله:"بالتمكن"، وقال رحمه الله:« إن الله تعالى إنما يحاسب عباده على ما عملوه وكسبوه واكتسبوه بما عندهم من التمكن من الفعل والترك وما عندهم من الاختيار، لا على علمه منهم قبل أن يفعلوه، فلهذا يمتحنون لتظهر حقائقهم ويقع جزاؤهم على ما كسبت أيديهم باختيارهم، ولا حجة لهم في تقدم علمه تعالى بما يكون منهم ، لأن تقدم العلم لم يكن ملجئا لهم على أعمالهم»([88]).
وصرح في هذا السياق بأن الله لا يكلف العباد إلا بما هو في مقدورهم :« المحكوم فيه هو فعل المكلَّف الظاهر والباطن ولم يكلف الله العباد إلا بما في مقدورهم ولا حرج عليهم فيه فلا تكليف بغير المقدور»([89]).
وأثبت العلل وأثبت الحكمة في أفعال الله تعالى وأحكامه ومن نصوصه في ذلك قوله:( القدر كله عدل وحكمة فما يصيب العباد فهو جزاء أعمالهم ، وقد تدرك حكمة القدر ولو بعد حين ، وقد تخفى لأن من أسمائه تعالى الحكيم ) ([90]).
ومنها قوله : « حكمة النسخ مراعاة المصلحة وتدريب الأمة على تلقي الأحكام، والتنبيه على اعتبار المصالح في التشريع»([91]).
وقال أيضا: «الله حكم عدل حكيم خبير ، فما من حكم من أحكامه الشرعية إلا وله حكمته، وما من حكم من أحكامه القدرية إلا وله سببه وعلته، لا لوجوب أو إيجاب عليه ، ولكن بمحض مشيئته ومقتضى عدله وحكمته»([92]).
ومما يميز أهل السنة أيضا في هذا الباب التفريق بين الإرادة الكونية والشرعية (وهي عند الجبرية إرادة واحدة) وقد نص الشيخ على ذلك في مواضع منها قوله: « القضاء يكون بمعنى الإرادة ، وهذا هو القضاء الكوني القدري الذي لا يتخلف متعلقه فما قضاه الله لابد من كونه ، ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم ، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون ويخالفه المخذولون »([93]).
ومن فروع هذا التفريق عند أهل السنة أنه ليس كل ما أراده كونا يكون قد أراده شرعا أو أحبه ، وفي هذا المعنى يقول رحمه الله تعالى عن الشر: «وتصح نسبة هذا القسم إلى الله تعالى من حيث الخلق والحكمة، ونسبة أعماله إليه من حيث التقدير والتكوين لا من حيث الرضى والتكليف ، فالله لا يرضى بالشر ولا يكلف به»([94]). ومما يتميزون به أيضا التفريق بين الهداية العامة هداية البيان، والهداية الخاصة هداية التوفيق (وهي عند الجبرية كلها هداية توفيق ) وقد صرح الشيخ رحمه الله بالفرق فقال:« الهداية ونوعها، قد دل الله الخلق برسوله وبكتابه على ما فيه كمالهم وسعادتهم ومرضاة خالقهم، وهذه هي هداية الدلالة، وهي من فضل الله العام للناس أجمعين، وبها وبما يجده كل عاقل في نفسه من التمكن والاختيار قامت الحجة على العباد، ثم يسر من شاء – وهو الحكيم العدل –إلى العمل بما دل عليه من أسباب السعادة والكمال، وهذه هي دلالة التوفيق وهي من فضل الله الخاص بمن قبلوا دلالته وأقبلوا على ما آتاهم من عنده فآمنوا برسوله والنور الذي أنزل معه، كما قال تعالى :( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ )(محمد 17) وأما الذين أعرضوا عن ذكره وزاغوا عما دلَّهم عليه فأولئك يخذلهم ويحرمهم من ذلك التيسير كما قال تعالى: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف5) فالمقبلون على الله القابلون لما آتاهم من عنده هدوا دلالة وتوفيقا والذين أعرضوا قامت عليهم الحجة بالدلالة وحرموا من التوفيق جزاء إعراضهم »([95]).
[83]/ العقائد الإسلامية (73-74). [84]/ العقائد الإسلامية (70). [87]/ العقائد الإسلامية (76). [88]/ الآثار (1/242) وانظر (1/376) ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية (1/369،373). [91]/ مبادئ الأصول (45) وانظر مبادئ الأصول (24) والآثار (1/122). [92]/ الآثار (1/164) وانظر (1/140). [93]/ الآثار (1/96) وانظر المعنى نفسه (1/164).
يتبع إن شاء الله......