رد: هام جدا: جامع المقالات الكاشف لمغزى استبدال الفصحى باللهجات
10-08-2015, 04:58 PM
العربية العامية تؤسس للإعاقة الحضارية (2)
عندما وصلتُ إلى بريطانيا في عام 1986م، توجهت فورا إلى معهد تدريس اللغة الانجليزية بالعاصمة لندن، لأبدأ تعلم هذه اللغة، وكان هدفي الأساسي هو الاطلاع مباشرة وبدون الاعتماد على الترجمات، على ما أنتجه العقل الانجلوساكسوني من آداب وفلسفة وفنون وعلوم، وأذكر أنني في إحدى الحصص الدراسية لفظت كلمة انجليزية لفظا مصابا بالاعوجاج، فالتفتت إليّ المدرّسة وقالت لي حرفيا بلطف مغلف بالعتاب: "يا سيدي أنت تُزعج شكسبير في قبره".
أذكر أيضا أن إدارة المعهد قد وضعت شروطا لنا ومن بينها ألا نتحدث في المعهد بأي لغة غير اللغة الانجليزية لأنه بدون ذلك ستكون عملية تعلّم هذه اللغة متعثرة وفاشلة، في المجتمع البريطاني توجد اللغات التاريخية وهي الويلزية في ويلز، والغيلية في اسكوتلندا، والايرلندية في إيرلندا الشمالية والكورنيش في كورنويل، إلى جانب 33 قومية يتحدث أصحابها فيما بينهم بلغاتهم القومية الأصلية، ولهجاتها الثانوية التي لا تقل عن 80 لهجة، ولكن لغة العلم والإدارة والفكر في المؤسسات التابعة للدولة هي اللغة الانجليزية الفصيحة، ومعها لغات المقاطعات المشكِّلة للاتحاد البريطاني المذكورة آنفا، أما في مؤسسات التعليم التابعة للقطاع الخاص فهناك تدريسٌ باللغات الفصحى المختلفة مثل العربية، والأردو، والسواحلية، والفرنسية وغيرها، ولكنني لم أسمع بكلية أو جامعة تعلّم اللهجة الدارجة قصد جعلها بديلا للغات الفصيحة، أو بطالبٍ تخرج بالماجستير أو بالدكتوراه في علم الفلك، أو في الرياضيات، أو في الفلسفة، أو نظرية الثقافة، بالعامية أو بسبب إتقانه لهذه اللهجة العامية أو تلك، ما عدا أولئك الذين كرّسوا أطروحاتهم لدراسة تاريخ ومضامين وفنولوجيا لهجة معينة. وفضلا عن ذلك فإن جميع المؤلفات الفلسفية، والرياضية، والعلمية، والأدبية التي تباع في المكتبات وتستقطب محبي المعرفة وطلابها فهي مكتوبة باللغات الفصحى الراقية، وليس باللهجات العامية التي تعتبر أشكالا ثانوية للغات، وهي تستخدم فقط في التخاطب اليومي وفي إطار فضاء هذه الإثنية أو تلك الإثنية الأخرى، في هذا السياق بالذات أتذكر بعض الجلسات المثقفة والدافئة التي كانت تجمعني من حين لآخر بالمثقف الجزائري الراحل مولود قاسم، وكم كان يحثني على أن أقرأ كتاب "خطابات إلى الأمة الألمانية" للفيلسوف الألماني فيخته الذي كرس فيه جهده لإبراز عبقرية لغته وارتباطها بالهوية الحضارية لأمته. وبهذا الخصوص أتذكر أيضا ما قاله الفيلسوف هيغل بأن الموسيقار بتهوفن قد جعل الموسيقى تتكلم اللغة الألمانية، أما الشاعر غوته فقد جعلها تصدح بالشعر والأدب الراقي، أما هو فقد كان مسعاه محددا في جعل الفلسفة تتكلم اللغة الألمانية.
في السياق الغربي دائما، فإن الدواعي التي كانت في العمق وراء إبداع تخصّص حقل فلسفة اللغة هو الرقيّ باللغة، وجعل العبارة مطابقة تماماً للحال، كما يقول ابن خلدون، وقابضة على الفكرة من جهة، ومن جهة أخرى فإن منشأ التداولية باعتبارها ركنا من أركان فقه اللغة الحديث يعود في الجزء الأكبر إلى دراسة المعنى في علاقته بالسياق الذي يكتب أو يتحدث ضمنه الشخص، إن هذا يشمل السياقات الاجتماعية، والوضعيات، والنصية، والخلفية المعرفية، أي ما يعرفه الناس عن بعضهم البعض وعن العالم.
إن التداولية تفترض مسبقا أنه عندما "يتواصل الناس مع بعضهم البعض فإنهم يتبعون عادة نوعاً من مبدأ التعاون، أي أنهم يملكون فهما مشتركا للكيفية التي ينبغي عليهم أن يتعاونوا في تواصلهم"، كما يؤكد الدارس داريان بالتريدج. ولاشك أن مبدأ التعاون هذا لا توفره العامية لشعب كامل في وطن واحد جراء تعدد عامياته وتعدد طرائق لفظ الكلمات، وتباين معانيها من قرية أو مدينة إلى قرى ومدن أخرى، وفي الحقيقة فإن الشعب الذي لا يبدع، في مساره التاريخي الطويل، لغة مشتركة بكل مفاهيمها وقصديتها سيبقى مصابا بإعاقة حضارية، وغير موحّد في طرائق التعبير عن مشاعر أفراده، وبالتالي فإن فهم هؤلاء للعالم سيكون دائما مختلفا وربما متناقضا ومثيرا للالتباس والتضاد وسوء التقدير والتفاهم.
وفي التاريخ اللغوي- الثقافي العربي مساجلاتٌ كثيرة حول العربية الدارجة "العامية" ومدى قدرتها أو عدم قدرتها على أن تكون لغة عالمة؛ أي لغة العلم والفكر والآداب الرفيعة التي تتضمّن مبدأ التعاون الذي يتحدث عنه مفكرو وفلاسفة التداولية، كما نجد تباينات في هذا التراث تخص مدلول اللهجة، أو العامية، وبشأن تحديد اصطلاح مدلول"الدارجة" أو"العامية" فإننا نجد قاموس "المنبع الموسّع" يفصّل في معاني كلمة "الدارج"، مُبرزا أنها تعني أن الصبي الدارج هو الذي يدبّ وينمو، أما الغبار الدارج فهو الذي تنثره الرياح وتدرج به، كما يعني الدارج الشيء المألوف الروتيني، في حين تعني القبيلة الدارجة التي تصنف ضمن الدوارج بأنها تلك التي أصبحت منقرضة، فهل نريد نحن أن تنثرنا الرياح، وأن ننقرض أو نصبح مثل قائمة الدابة التي تدرج؟
وفي الجزء القادم من هذه المساهمة سأناقش مشكلة تباين وجهات النظر حول العامية في تراثنا اللغوي والفكري، ومن ثم سأخصص فضاءً لتحليل العقبات التي تعترض العامية، وتحول دونها ودون التمكّن في بناء العقل العلمي وفي إنتاج الفكر المجرد العالم أو التعبير عن أشكاله المختلفة.
هوامش:
* في المجتمع البريطاني توجد اللغات التاريخية وهي الويلزية في ويلز، والغيلية في اسكوتلندا، والايرلندية في إيرلندا الشمالية والكورنيش في كورنويل، إلى جانب 33 قومية يتحدث أصحابها فيما بينهم بلغاتهم القومية الأصلية، ولهجاتها الثانوية التي لا تقل عن 80 لهجة، ولكن لغة العلم والإدارة والفكر في المؤسسات التابعة للدولة هي اللغة الانجليزية الفصيحة، ومعها لغات المقاطعات المشكِّلة للاتحاد البريطاني المذكورة آنفا.