تاريخ الدعوة إلى الله تعالى
09-05-2018, 03:11 PM
تاريخ الدعوة إلى الله تعالى
ناصر بن سعيد السيف
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
الدعوة إلى الله تعالى من أجل شرائع الإسلام الحنيف الذي بُعث به لبنة التمام ومسك الختام: نبينا محمد ﷺ، وهذه الدعوة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ البشري، فليست كما يظن البعض ويعتقد: أنها نشأت من بعثة النبي ﷺ، فهذا خلاف ما جاء في القرآن والسنة من قصص الأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم الله تعالى لتبليغ دينه وشرائعه إلى العالمين، ولإقامة منهج الله تعالى المنزل عليهم وسيادته على كل منهج بشري أو طاغوتي مخالف لمنهج الله تعالى ورسالته، وهذه من كبرى حقائق الدعوة التي لا ينبغي أن تغيب عن أذهان وعقول الدعاة إلى سبيل الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام.([1])
فتاريخ الدعوة كما بينه الله تعالى في القرآن الكريم كانت أولى خطواته في مسيرة الحياة البشرية الطويلة في زمان نبي الله نوح عليه السلام، لأن البشرية ظلت على فطرتها التي خلقها الله تعالى عليها بالتوحيد لله تعالى منذ أول البشرية آدم عليه السلام، واستمسكت بها زماناً طويلاً كما ذكرت كتب القصص والتاريخ ما يقرب من ألف عام، حتى بزغ الشيطان بشركه وتلاعبه في العقول بأن يصرفها عن عبادة خالقها وموجدها سبحانه وتعالى، ثم توالت الرسالات والنبوات من بعده تترى لإعادة البشرية السالكة في طريق الشيطان والخسران إلى طريق النجاة والإيمان، والعبودية لله وحده المستحق لها بلا منازع أو شريك. ([2])
مفهوم تاريخ الدعوة:
" فن يبحث فيه عن كيفية نشر الإسلام، وإقناع الناس باتباعه، ثم إثباتها بالتعيين والتوقيت: لاطلاع الأمة عليها وإفادتهم منه".
شرح التعريف:
في قولنا: (هو فن): أي الضرب من الشيء، أي النوع، فتاريخ الدعوة نوع مُستقل بذاته عن غيره من العلوم، وفي قولنا: (ثم إثباتها بالتعيين): أي رصد هذه المعلومات بتعيين الحادثة، وأبرز الأشخاص الذين شاركوا فيها، وفي قولنا: (والتوقيت): أي ربط ذلك بالتوقيت الزمني لهذه الأحوال والمراتب. ([3])
أهمية معرفة تاريخ الدعوة:
1. معرفة منهج الأنبياء عليهم السلام في الدعوة إلى الله جل جلاله تدل على أصالة وقِدم تاريخ الدعوة.
2. يقودنا إلى معرفة كيف كانت البشرية على التوحيد، ثم تحولت إلى الشرك وأسباب ذلك، وما قدمه الرسل لدعوة المشركين بالله جل جلاله، حيث يظهر لنا القدوات الصالحة، وخيرهم الرسول ﷺ ومن تبعه من الخلفاء الراشدين والسلف الصالح.
3. استشعار عَظمة الله جل جلاله، وأن له سُنن كونية في خلقه، حيث جعل الصراع بين الحق والباطل مستمراً إلى قيام الساعة، فقد يعلو الباطل في أزمان، ولكن يبقى معه أصحاب الحق مُستعلين بالمنهج النبوي والعقيدة الإسلامية الصحيحة.
من الدروس والعبر من دعوة النبي ﷺ في العهد المكي:
1. إلهام الرسول ﷺ من قِبل ربه بأن يبدأ الدعوة سراً: إرشادًا له وللدعاة من بعده إلى وجوب الأخذ بالحيطة والأسباب، إذ أن الرسول ﷺ مدعوم بقوة الله، ولو بدأ الدعوة جهراً، فإن الله سيحفظه، ولن ينالوا منه شيئاً، لكن لبيان منهج الإسلام في الأخذ بالأسباب والاعتماد على مسبب الأسباب.
2. إذا كان المسلمون في قلة من العدد أو ضعف من العِدة، بحيث يغلب على ظنهم أنهم سيقتلون، من غير أن يكون هناك نكاية في أعدائهم، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس؛ لأن المصلحة المقابلة هي مصلحة حفظ الدين، وهي موهومة أو متوقعة أو منفية الوقوع، وهذا ما يقرره العلماء.
3. دور المرأة في الدعوة كما فعلت خديجة رضي الله عنها زوجة رسول الله ﷺ، آمنت به، وصدقت برسالته، وأغنته بمالها، ويسرت له الطريق بأمر الله تعالى، فكانت خير عون على تبليغ الرسالة. ([4]).
تأسيس وبناء الدولة الإسلامية في المدينة النبوية:
شكلت الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة النبوية منعطفاً حاسماً في مسار التاريخ الإسلامي، وذلك نظرًا لما أسست له من تحولات عميقة وجذرية سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وبات من المتفق عليه بين المؤرخين: أن حدث الهجرة كان إعلاناً لبزوغ مرحلة الدولة الإسلامية، بعد مرحلة الدعوة في مكة المكرمة، وقد وضع رسول الله ﷺ خلال هذه المرحلة الجديدة المعالم الأساسية للمجتمع الإسلامي في كل أبعادها، الفردية والجماعية، العامة والخاصة، بل إن تقسيم آيات القرآن الكريم إلى مكية ومدنية حسب مراحل نزولها، دليل على أهمية وخصوصية كل مرحلة، وبالتالي، فإن الهجرة كحدث فاصل بين هاتين المرحلتين جدير بالاهتمام والدراسة، والنبي ﷺ أقام الدولة على أسس ومناهج لم يقلد فيها أحداً، بل كانت هدياً نبوياً وتوفيقاً إلهياً لا يأتيه الباطل، وذلك لتكون هي الدولة الأنموذج بالنسبة للمسلمين التي يجب أن تُحتذى في تنظيمها وبنائها وأهدافها، لاسيما أن هدفها علوي، يسعى لنشر نور الهداية الربانية في جميع أصقاع الأرض، وذلك لينتشل الإنسانية من الأرجاس والرذائل التي لحقت بها، ويوصلها إلى مكارم الأخلاق وعالم الفضيلة، ولكي تقوم الدولة بهذه المهمة العظيمة سعى النبي ﷺ لبناء دولة نموذجية في كل شيء، لتصبح سنة جارية في التاريخ، والأسس القوية التي قامت عليها الدولة تعد قواعد كلية ومبادئ عامة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وافية بحاجات البشر على طول الزمن وتعدد الحاجات والمطالب، تحقق فيها العدل والمساواة بين البشرية، وتعاون الإنسانية على الخير. ([5])
منهج النبي ﷺ في العهد المدني:
يمكن تقسيم منهج النبي ﷺ في العهد المدني إلى ثلاث مراحل:
1. مرحلة تأسيس المجتمع الإسلامي، وتمكين الدعوة الإسلامية، وقد أثيرت في هذه المرحلة القلاقل والفتن من الداخل، وزحف فيها الأعداء من الخارج؛ ليستأصلوا شأفة المسلمين، ويقلعوا الدعوة من جذورها، وقد انتهت هذه المرحلة بتغلب المسلمين وسيطرتهم على الموقف مع عقد صلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة.
2. مرحلة الصلح مع العدو الأكبر، والفراغ لدعوة ملوك الأرض إلى الإسلام، وللقضاء على أطراف المؤامرات، وقد انتهت هذه المرحلة بفتح مكة المكرمة في رمضان سنة ثمان من الهجرة.
3. مرحلة استقبال الوفود، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وقد امتدت هذه المرحلة إلى وفاة الرسول ﷺ في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.
من الدروس والعبر من دعوة النبي ﷺ في العهد المدني:
1. إرساء قواعد العقيدة قَبْل الأمر بالتكاليف؛ حيث بدأ الأمر بالتكاليف في المدينة بعد إقامة الدولة وتمكين الإيمان في القلوب.
2. عرض الدعوة على جميع الناس؛ الفقراء والأغنياء، القريب والبعيد، وإقامة الحجة على الناس، وطلب النصرة. ([6])
أهم الأعمال التي قام بها النبي ﷺ في المدينة النبوية من أجل دعم منهج الدعوة إلى الله تعالى:
1. بناء مسجد قباء، ثم مسجده عليه الصلاة والسلام، ليكون مكان العبادة، ومحور انطلاقة منهج الدعوة.([7])
2. القيام بالمؤاخاة بين مجتمع المؤمنين في المدينة، والمتمثل بين الأنصار والمهاجرين، ليكون دليلاً عظيماً على قوة العقيدة والإيمان، ومدى صنيع منهج الدعوة في بناء الكيان الإنساني النبيل.([8])
3. قيام النبي ﷺ بنشر الدعوة بين الناس، وتعليم المسلمين أمور دينهم، والعمل على تربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة.([9])
4. تطبيق النبي ﷺ الأحكام الشرعية بين المسلمين، وإظهار شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب على الناس.([10])
5. قيام النبي ﷺ بإيصال منهج الدعوة إلى الملوك والأمراء في عهده، وذلك من خلال إرسال الرسل والكتب إليهم، ودعوتهم إلى الإسلام.([11])
6. قيام النبي ﷺ باستقبال الوفود التي أتته من كل مكان لمبايعته والدخول في دين الإسلام، فكان هذا من أعظم البشائر بتقدم منهج الدعوة في طريق النصر وقبول الناس به.([12])
7. قيام النبي ﷺ بالجهاد في سبيل الله، وذلك بعد إذن الله تعالى له، ودفعاً لصائلة الأعداء وتربصهم بالمسلمين، وحماية للمجتمع المسلم، ووقاية للأموال والأنفس والأعراض من انتهاك المشركين لها، وفي ذلك أبلغ الأدلة على عظمة تشريع الجهاد، وأنه ليس للعدوان والانتقام والتشفّي، أو من أجل حبّ إراقة الدّماء وإرهاق الأرواح كما يروّج المستشرقون أو أعداء الإسلام.([13])
8. تعامل النبي ﷺ مع أهل بيته، التعامل الأمثل، ليؤكد بذلك على أهمية ابتناء البيت المسلم على البناء الإسلامي الصحيح، والتكوين المتكامل والتربية السليمة، والتعاون المتبادل بين أعضاء الأسرة الواحدة، ومن ثم قيام هذا البيت بالدعوة إلى الله.([14])
9. قيام النبي ﷺ بتربية أصحابه التربية الإيمانية الدافعة لحمل منهج الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع، فكان ذلك المجتمع الأول أفضل وأكمل مجتمع.([15])
10. استعمال النبي ﷺ لجملة من الوسائل والأساليب النافعة لبيان منهج الدعوة وإيصاله للناس كافة.([16])
الخلاصة:
إن مسيرة منهج الدعوة في العهد النبوي هي: أكمل وأفضل مسيرة عرفها المسلمون في تاريخهم الطويل.
يتبع إن شاء الله.