بِنَاءُ الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ الْقَوِيَّةِ وَحِمَايَتُهَا
10-09-2018, 04:21 PM
بِنَاءُ الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ الْقَوِيَّةِ وَحِمَايَتُهَا
محمد بن سعيد
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
الْهَدَفُ مِنْ خَلْقِ الْخَلْقِ وَإِقَامَةِ الْمُجْتَمَعَاتِ: عِبَادَةُ اللهِ وَتَوْحِيدُهُ
لَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ أَمْرٍ يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاعِيَهُ هُوَ: الْأَمْرُ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَجْلِهِ، وَأَوْجَدَهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِتَحْقِيقِهِ، وَهُوَ:( عِبَادَةُ اللهِ)؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ الْجِنِّ وَالْإِنْسَانِ؛ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا خَلَقَهُمَا إِلَّا لِيَعْبُدُوهُ، إِلَّا لِيُوَحِّدُوهُ، إِلَّا لِيَتَّقُوهُ، إِلَّا لِيَأْخُذُوا بِمَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي كُلِّ مَا آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ، وَيَنْتَهُوا عَنْ كُلِّ مَا نَهَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ كِتَابًا وَسُنَّةً.
وَلَا شَكَّ أَنَّ تَحْقِيقَ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَالَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ، وَنَصَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْكَوْنَ قَائِمًا مُشَاهَدًا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ وَصَمَدَانِيَّتِهِ.
لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّحَقُّقَ مِنْ هَذَا الَّذِي أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ خَلْقِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ: أَمْرٌ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا يُكَلِّفُ إِلَّا بِمَا يُسْتَطَاعُ، لَا يُكَلِّفُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا، وَلَا يُرِيدُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالنَّاسِ عُسْرًا وَلَا حَرَجًا، وَإِنَّمَا رَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ النَّاسِ الْحَرَجَ.
فَالْأَمْرُ سَهْلٌ قَرِيبٌ مِنْ قَرِيبٍ، وَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَرْسَلَ إِلَيْنَا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِدِينٍ كَامِلٍ شَامِلٍ، بِدِينٍ عَظِيمٍ، لَا يُدَانِيهِ دِينٌ، وَلَا تُقَارِبُهُ مِلَّةٌ وَلَا نِحْلَةٌ.
دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ: أَعْظَمُ نِعْمَةٍ يَمُنُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا عَلَى الْخَلْقِ، وَلَوْلَا الدِّينُ فِي الْأَرْضِ: مَا كَانَ هُنَاكَ رِعَايَةٌ لِعِرْضٍ وَلَا شَرَفٍ، وَلَا كَانَتْ هُنَاكَ رِعَايَةٌ لِحُرْمَةِ مَالٍ وَلَا دَمٍ وَلَا نَفْسٍ، وَلَكِنْ كُلُّ مَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ صِيَانَةٍ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ: إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى النَّاسِ فِي الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ حَتَّى خَتَمَهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.
شَرَعَ اللهُ الزَّوَاجَ لِتَكْوِينِ أُسَرٍ يَخْرُجُ مِنْهَا نَشْءٌ مُوَحِّدٌ للهِ
وَاللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الزَّوَاجَ -وَهُوَ أَسَاسُ تَكْوِينِ الْأُسْرَةِ- لِلْاسْتِمْتَاعِ، يَسْتَمْتِعُ كُلُّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ فِي حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَتُقْضَى الشَّهْوَةُ، وَيُحْفَظُ النَّسْلُ، وَيَتَرَبَّى الْأَبْنَاءُ فِي الْبِيئَةِ الصَّحِيحَةِ السَّلِيمَةِ الْمُحَافِظَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْرُجَ نَشْءٌ يُوَحِّدُ اللهُ وَيَتَّبِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ.
فَيَحْصُلُ فِي اجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ: قِيَامُ الْبَيْتِ وَالْأُسْرَةِ، الَّذِي هُوَ نَوَاةُ قِيَامِ الْمُجْتَمَعِ وَصَلَاحِهِ، فَالزَّوْجُ يَكِدُّ وَيَكْدَحُ وَيَتَكَسَّبُ، فَيُنْفِقُ وَيَعُولُ، وَالْمَرْأَةُ تُدَبِّرُ الْمَنْزِلَ، وَتُنَظِّمُ الْمَعِيشَةَ، وَتُرَبِّي الْأَطْفَالَ، وَتَقُومُ بِشُئُونِهِمْ، وَبِهَذَا تَسْتَقِيمُ الْأَحْوَالُ، وَتَنْتَظِمُ الْأُمُورُ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا عَمَلًا كَبِيرًا، لَا يَقِلُّ عَنْ عَمَلِ الرَّجُلِ فِي خَارِجِهِ، وَأَنَّهَا إِذَا أَحَسَّتِ الْقِيَامَ بِمَا نِيطَ بِهَا، فَقَدْ أَدَّتِ لِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ خَدَمَاتٍ كَبِيرَةً جَلِيلَةً.
الْحَثُّ عَلَى تَكْوِينِ الْأُسْرَةِ الصَّالِحَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
*أَوَّلًا: فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ هَذَا الْكَوْنَ مَبْنِيًّا عَلَى قَانُونٍ لَا يَتَخَلَّفُ، وَهُوَ:
( قَانُونُ الزَّوْجِيَّةِ).
قَالَ تَعَالَى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْكَوْنِ خَلَقْنَا صِنْفَيْنِ، نَوْعَيْنِ مُخْتَلَفَيْنِ؛ فِي النَّاسِ، وَالنَّبَاتَاتِ، وَالْكَهْرُبَاءِ، وَالْمَغْنَاطِيسِ، وَالذَّرَّاتِ، نُبَيِّنُ لَكُمْ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ التَّكْوِينِيَّةَ، رَاغِبِينَ أَنْ تَضَعُوهَا فِي ذَاكِرَتِكُمْ أَيُّهَا الْمُتَلَقُّونَ الْمُتَدَبِّرُونَ.
وَكُلَّمَا اكْتَشَفْتُمْ وُجُودَ نِظَامِ الزَّوْجِيَّةِ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ خَفِيًّا عَلَيْكُمْ؛ تَذَكَّرْتُمْ هَذَا الْبَيَانَ:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}، فَعَلِمْتُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ لَدُنْهُ، وَعَلِمْتُمْ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ: فَرْدٌ لَا نَظِيرَ، وَلَا شَرِيكَ مَعَهُ.
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-:{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم: 45].
وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ -مِنْ كُلِّ حَيٍّ-.
وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ! احْذَرُوا أَمْرَ رَبِّكُمْ أَنْ تُخَالِفُوهُ إِذَا أَمَرَكَمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، الَّذِي خَلَقَ السُّلَالَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُشْتَقَّةً مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ: آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَخَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوْجَهُ حَوَّاءَ، وَنَشَرَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِالتَّنَاسُلِ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً كَثِيرَاتٍ.
*الْأُسْرَةُ الصَّالِحَةُ تُبْنَى عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ:
قَالَ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ -أَيَّهَا الرِّجَالُ- أَزْوَاجًا؛ لِتَمِيلُوا إِلَيْهِنَّ وَتَأْلَفُوهُنَّ، وَتُصِيبُوا مِنْهُنَّ مُتْعَةً وَلَذَّةً، وَجَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ نَوْعًا مِنَ الْحُبِّ الْهَادِئِ الثَّابِتِ، وَعَاطِفَةٍ نَفْسِيَّةٍ تَدْفَعُكُمْ إِلَى الْعَطَاءِ وَالْمُسَاعَدَةِ، وَمُشَارَكَةِ الْمَعْطُوفِ فِي آلَامِهِ وَآمَالِهِ.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لِعَلَامَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ جَلِيلَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَفْكِيرًا عَمِيقًا مُتَأَنِيًّا فِيمَا خَلَقَ اللهُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ مِنْ مَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ وَسَكَنٍ نَفْسِيٍّ.
*حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى بِنَاءِ الْأُسْرَةِ الصَّالِحَةِ فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ:
فَقَالَ ﷺ:((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ)).
وَقَالَ ﷺ:((تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا، فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَقَالَ ﷺ:((النِّكَاحُ سُنَّتِي، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي)).
يتبع إن شاء الله.